بفَضْلٍ مِن اللهِ تَعالى، استَقَيْنا نصوصَ « أوْجَب الواجبات » من تَعاليم القرآن الكَريم والسُّنَّةّ النبويّة المُطَهَّرة، ثمّ من أقوال العارفين بِالله في سِلسِلَة الطَّريق المُبارَكَة. والغَرضُ من هذه الوَصايا أنْ يَجعلها مُريدُ اللهِ المُبتَدئ على ذِكْرٍ منه وأنْ يُراجعَها بانتظامٍ في مُبتَدأ سَيْره إلى الله تعالى، حتى تَصيرَ هذه الواجِبات مَلَكَةً راسخةً ثابتةً لَدَيْه لا يَتَكلّفها، بل يَسيرُ فيها من مَقامٍ إلى مقام ويَتَرَقَّى من طَورٍ روحيٍّ إلى ما يَليه، فَمَقامَات السَّير مُتَداخِلة يُفضي بَعضُها إلى بَعضٍ، وهي لا تتعارَض في مفاهيمِها ولا تَتَعاقب في الزّمن، فكلّها مَأخوذٌ من نِبْرَاس القُرآن ومِشكاة النبوّة وقد ذَكَرَها الحقُّ في مُحْكَم تَنزيلِهِ وعَمِل بها رَسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، خلال سيرَتِهِ العَطرة. فما على المُريد الطّالِب إلاّ الاهتِداء بهَدْيها والعَمَل بما وَرَدَ فيها، ساعاتِ لَيلِه ونَهاره. نَسأل اللهَ تعالى أن يُوفِّقَنا للقيام بِوَاجباتِه وللنّهوض بالتّكَاليف التي تعبَّدَ بها عبادَهُ ونَصَبَها دليلاً على ربوبيّتِهِ.
1 أوجب الواجِبَات إقامَةُ الصَّلاة لِوَقْتها
أوْكدُ واجباتِ المؤمن التي عليه أداؤها يوميًّا، الاجتهادُ في إقامة الصّلاة لِوَقتها وجماعةً، بقَدر الاستطاعة، فهي معيار الصّدق ومقياس المجاهدات، وهي آخِرُ ما أوصانا به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبلَ أن ينتقلَ إلى الرَّفيق الأعلى. هذا، وأداء الصّلاة المفروضة مُقدّمٌ على سائر الأنشطة والأعمال الدينيّة والدنيويّة الأخرى، فَبِها يرتاح المُريد، كما جاء على لِسان الصَّادق الصدوق، عليه الصّلاة والسّلام : « أرِحْنا بها يا بلال ». ولَطالما كان الصّوفيّة الكُمَّلُ مَضربَ الأمثال في المحافظة على الصّلاة لوقتها، وذلكَ لعلمهم بما فيها من الوَصل والنّور والسَّكينة. أعاننا الله وإيّاكم على التمسّك بعلائقها المَتينة وأسرارها المَكينَة.
الشيخ سيدي محمد المدني يذاكر في تَربية الصغار على مَجالس الذكر
1. “أمَرَ الشّيخ (العلاوي) بإحضارهم، أي: أحْضروا الصِّغَـارَ، في مَجالسِ الذِّكْر والتَّعليم، لِيَتَعلّمُوا الآدابَ كُلَّهَا، كالحَياء لأنّه خير كلّه وهو من الإيمان، والمُروءَةَ، وهي من أفضل زينةِ الإنْسان، ويَتَعَلَّموا الكتابَ أي: القرآنَ العظيم. ثمّ زاد الشّيخ تحريضًا على تعليم الصّغار، (…) فَأخبرَ أنَّ مَن أدَّبَ أولادَه في صِغَرهم، سَيَرى مِن بِرِّهم لَه حَالَةَ كِبَرهم. والعكس بالعكس.
2. ولمّا كان الإنسان قد يتوهّم أنّه كَبُر على التّعلم، وهو لا يكون إلاّ للصّغار، ويصعب على الكبير، أخَبَر (…) أنَّ الأمّةَ كلّها صِغَارٌ، في حَالِ تَعَلُّم الشّريعة المحمّديّة، على صاحبها أفضل الصّلاة وأزكى التّحيّة. فالواجب على المؤمنين استصغار أنفسهم واستحقار ذواتِهم في جانب شرع الله تعالى تعظيما وإجلالا لمنصبه ﴿ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه﴾ (الحج: 30).
نَتشرَّف بتقديم رسالة اللحظة المُرْسَلَة على حديث حَنظَلَةَ، رَضيَ الله عنه، وفي هذا الكتاب الذي ألَّفَه الشيخ سيدي محمد المدني، قَدَّسَ الله روحَه، يظهَر علمه الجمّ في مَجال الحديث روايَةً وشرحًا ودرايةً. كما تظهر رقة أفهامه اللطيفة حين يتطرق إلى شرح هذا الحديث الشريف حسب المنهج الإشاريّ في التأويل.
كتاب اللحظة المرسلة على حَديث حَنْظَلَة
تأليف الشيخ سيِّدي محمد المَدَنيّ، رضي الله عنه
1- الحَمدُ للهِ العظيم، الذي وَسعت رحمته الأشياءَ، والصَّلاة والسلام على مَن هو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وعلى آله وأصحابِه الطّاهرين الأتقياء.
2- أمَّا بَعدُ، فمن كاتِبه الفقيرُ الفاني، العبدُ الضعيف المشهور بالمَداني، إلى الصَّفوة الكريم، ذي القلب السليم، الخلِّ الوَدود، الذي تَخللت خُلَّتُه ضَميري، العلامة الأفضل الشيخ سيدي محمد السخيري المُنستيري ، ثَبَّتَنَا الله وإيَّاكم على الصِّراط المستقيم، وسقانا سلسبيلاً من فَيضِه العظيم، وعَلَيكم أتمُّ سلامٍ وأكمله وأجمل احترامٍ وأفْضَلُه.
3- هذا أيّها الأفضل وإنِّي قد كتبت ما اقترحتموه على هذا العبد لحسن ظنِّكم فيه من شرح حديث حنظلَة الأسيدي ، رضيَ الله عنه، الذي نَصّه بحروفه كما رواه الإمامُ البَغَويٌّ في كتابه “مَصابيح السنّة“: عَن حنظلَة الأسيدي أنَّه قال: انطلقتُ أنا وأبو بَكرٍ حتَّى دَخلنَا على رَسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلتُ: نَافقَ حنظلَة. قال رسول الله، صلَّى الله عليه وسلم،: وما ذاك؟ قلتُ: نَكون عندكَ، تُذَكِّرنا بالنَّار والجنّة كأنَّا رأيَ عَينٍ، فإذا خَرجنا عافسنا الأزواجُ والأولاد والضيعات، نَسينا كثيرا. فقال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: والذي نَفسي بيده، لَو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لَصافَحتكم الملائكةُ على فُرُشِكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلَة ساعَة وساعة ثلاثَ مرَّاتٍ“.
4- ورَواهُ وليُّ اللهِ تَعالى المُحدِّثُ الحُجَّةُ سيدي أحمد الدهلوي في كتابه المُسَمَّى: حُجَّةُ الله البالغةُ، بتفصيلٍ زائدٍ على ما رواه البَغويُّ ونَصُّه بحرفه: عَن حنظلةَ بن الرَّبيع الأسيدي قال: لَقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نَافقَ حَنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نَكون عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار، كنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبو بكر: فَواللهِ، إنَّا لَنَلقَى مثلَ هذا، فانطلقتُ أنَا وأبو بكرٍ حَتَّى دخلنا على سول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: نَافَقَ حَنظلة يا سول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاكَ؟ قلتُ: يا رسول الله نكون عندك تُذَكِّرنَا بالنَّار والجنّة كأنَّا رأيَ عَينٍ، فإذا خَرَجنا عَافَسَنا الأزواج والأولاد والضيعاتُ، نَسينَا كثيرًا. فَقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: والذي نَفسي بِيَده لَو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكْر، لَصافَحتكم المَلائكةُ عَلى فُرُشُكم وفي طُرُقِكُم، ولكنْ يا حَنظلَة ساعةٌ وساعَةٌ، ثلاثَ مَرَّاتٍ.
5- وقد اقتصرت في الشرح على الرواية الأولى التي في مَصابيح السنَّة وشَرَحْتهُ حَسبما اقتضاه فَهمي الكليلُ وعلمي القليل، فإنَّ قَرَّت به عينكم فتلك مِنّةُ الجَميل الجليل، وإلاّ فَعلى القاتل دِية القَتيل، والله حَسبي وهو نعم الوكيل وسَمَّيتُه: “اللحظةُ المُرسَلَة عَلى حَديث حَنظلَةَ“.
6- أقول: مُستعينا بالله إنَّ حَنظلَةَ، رَضيَ الله عنه، قَد تَرجمه الإمامُ قاضي القضاة شهاب الدين الكناني العسقلاني المعروف بابن حَجرَ، في كتابه: “الإصابة في تَمييز الصَّحابَة”. فقال: حَنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جَروة بن أسَيْد بن عمر عمرو بن تميم أبو رَبعةَ ويقال له: حَنظلَة الكاتب وهو ابن أخي أكثم بن صيفيّ، رَوى عن النبي صلى الله عليه وسلم وكَتَبَ له وأرسله إلى أهل الطائف فيما ذكر ابن اسحاق، وشهدَ القادسية ونَزلَ الكوفة وتخلَّفَ عن علي يوم الجَمل، ونَزل قرقيسياء حتى ماتَ في خلافة معاويةَ. ويقال : إنَّ الجنَّ لما مات رَثتَه وفي موته تَقول امرأةٌ مِن أبياتٍ :
إنَّ سَوادَ العَين أودى به * حُزني عَلى حَنظلةَ الكاتب
7. وفِي الترمذيّ من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلةَ: “وكان من كُتَّابِ النَّبي، صلى الله عليه وسلم. رَوى عنه أبو عثمان النهديُّ وابن أخيه المرقع بن صيفي بن رياح بن الربيع وغيرهما. اه.” والأسيدي بالتشديد نسبة إلى جدّه أُسَيْد بن عمرو بن تميم.
8. وأما شرح الحديث فقول حنظلةَ، رضيَ الله عنه: ( فُقلتُ: نَافَقَ حنظلةُ) لَم يرد به إسنادُ النِّفاق إليه حقيقةً، إذ النِّفاق إخفَاء الكفر وإظْهار الإيمان. وحاشا حنظلةَ أنْ يَنزلَ إلى هذا الحَضيض. إنَّما مَقصده بهاته الجملة التشكّي إلى النبي، صلَّى الله عليه وسلم، من حَاله وما يُصيبُهُ وغَيرَهُ من النِّسيان، وقلة الحضور عند مفارقة نور الوجُود، صلى الله عليه وسلم ومعافسة القواطع الدنيوية من الأزواج والأولاد والأموال. فَعَبَّر عن ذلك بالنفاق وأسْنده لنفسه لأنَّ النسيانَ والغَفلة من لوازم النفاق والكُفران.
9. وتَمام الحضور مع الله في أيِّ حَالٍ من الأحوال من لَوازم الدِّين والانقياد لله عزَّ وجلَّ. فَمن انقادَ لله تعالى بظاهره وأطَاعه بِجوارحه وعَمل بما أمره واجتَنَبَ ما نَهاه عَنه فَهو مُسلمٌ. ومَن انقادَ لله بِقَلبِه واطمَأنَّ للإيمان به، وبما جاءَ به رسولُه، صلَّى الله عليه وسلَّم، فَهو مؤمنٌ. ومَن خَضَع لِمعبوده بِسرّه وحَضَرَ مَعه بباطِنِه، وكانَ حُضورُه عامًّا في جميع أحواله من عبادة وغَيرها من جميع الحرَكات والسَّكنات فهو الـمُحْسن. فإنَّ الإحسانَ هو الحضور مع الله تعالَى في جَميع الأحوال وتَخصيص العبادة في الحديث المشهور الذي آخره: “أن تَعبدَ الله كأنَّكَ تَراه“. لأنَّها أشرَف أحوال العَبد. فالتحريض على الحضور فيها أَولى بأنْ يُعتَنَى به. فالدين هو انقياد العبد لِمَعبوده بظاهره المسمى بالإسلام وباطنه المسمى بالإيمان وسِرّه الـمُسمَّى بالإحسان. والنِّفاقُ عَدم الانقِياد للهِ بِشَيءٍ من ذلك. وإنْ أظهَرَ الانقيادَ بِجوارحه فإنَّ ذلكَ انقيادٌ للخَلق لا للخالِق فَهو لَيسَ بالانقِياد لله.
10. فإذَا أخَذَ الـمُتَديِّن في الغفلة وعَدم الانقياد للهِ، عَزَّ وجلَّ، بِسرّهِ بِسَبَب عدم حضوره مع الله في جَميع أحواله فقد أخَذَ في أسباب النِّفاق. لذلك أسْنَدَ حَنظلَة، رَضيَ الله عنه، النِّفاقَ لنفسه فَهو مَجازٌ مُرسَلٌ من إطلاق الـمُسَبِّب الذي هو النِّفاق وإرادَة السَّبَب الذي هو الغَفلة وعدم الحضور والانقياد لله بالسرّ سببٌ في النفاق، نعوذ بالله تعالى.
11. ولَيسَ مَقصَدُ حنظلَةَ، رَضيَ الله، عنه إخبارُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه اتَّصَفَ بالنِّفاق حقيقَةً، إنَّما مَقْصَدُه التَشَكِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإظْهار التَّحزُّن والتَّحَسّر على ما يطرأ على قلبه من الغَفلة وعَدم الحضور، كما قلناهُ. وهوَ، رَضي الله عنه، قد اسْتَنهضَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم، لإنقاذه مما حلَّ به وأصَابَه بإسناده النفاق لنفسه خوفَ أن يَسريَ داءُ الغفلة إلى بقيَّةِ دينه، كَما يَسري الدَّاء من أحَد الأعضاء إلى سائر الجسد.
12. وهذا شأن المريض الحَريص على الشِّفاء في تَهويل الدَّاء ببالِغ وصفٍ لِطَبيبه. كَيفَ لا وهوَ، صلَّى الله عَليه وسلم، طَبيب القُلوب والأرواح التي هي أعزّ وأغْلى وأرْفَع وأعْلى من أنْ يُشتَغَلَ بغيرها. فَهو الحقيقُ بالتَّشَكِّي لَه. فانْ كانَ مَريضُ الجسد يَسعى لِشفائه بكلِّ مَا في وُسعه فَأولَى عليلُ الرُّوح مَريض القلب يَسعى بما عنده لنفعه.
13. وكثيرًا ما كان أستاذُنا ومَولانَا أحمد العلاوي المستغانمي، رَضيَ الله عنه، يَتَمَثَّل بهذين البيتين :
يا خادمَ الجْسمِ كَمْ تَشقَى لِخِدمَتِه * وتَطلبُ الربحَ ممَّا فيه خُسرانُ عَليكَ بالرّوحِ فَاستَكمل فَضائِلَهَا * فَأنتَ بالرُّوح لا بِالجِسْم إنْسَان
14. ثمَّ أقولُ: إنَّ هذَا الحديثَ وغَيرَه من الأحاديث المُشتَملة على تَشَكِّي الصحابة، رِضوانُ الله عليهم، إلَى رَسول الله صلى الله عليه وسلم، مِمَّا يَطرأ عَليه من الغَفلة ومَرض القُلوب هو مُستَنَدُ القَوم، رضوان الله عليهم، فِي تَشكِّي مُريديهم لِمَشائخهم مِمَّا يُصيبهم من التَّكاسل في العَمل والانْحراف عن جادة الاستِقامَة لِكَيْ يَكونَ الأستاذُ عالِمًا بأمراض مُريديه، فَيَتَسَنَّى له مداواتُهم بأقرب الطرق إلَيهم، وأسهلها عليهم، فانَّ الطبيبَ لا يأخذ في المداواة إلا بعدَ تَشخيص الداء من المريض. فهذا المعنى واحدٌ في مَرَض الأشباح والأرواح.
15. ولا يَنبغي للمريد أنْ يُخفيَ شيئًا عن أستاذه وإلا زاد طينُهُ بَلّةً ومَرضه علّة، ولذلكَ عَدُّوا إخفاءَ الُمريد شيئًا عن شيخه من عدم الصدق. وفي هذا المعنى يقول ابن البَنَّا السَّرقسطي في المباحث الأصلية:
17. وحِكايتهم، رضي الله عنهم، في إلقائهم لمشائخهم كلَّ مَا يَرد عليهم كثيرةٌ، وما ذلكَ إلاّ لإصلاح قلوبِهم رَضي الله عنهم.
18. والذي يَظهر من حنظلة، رَضيَ الله عنه، حَسبما يلوح من هذا الحديث أنَّ حضورَه كانَ كثيرًا مَع الجنّة ونعيمها والنار وجحيمها راجيًا للأولى، فارًّا من الثانية لأنَّه لَمَّا سأله النبي، صلى الله عليه وسلَّم، بقوله: “وما ذاكَ” أجابه بقوله: قلتُ نكون عندكَ تُذَكِّرنا بالنَّار والجنة كأنّا رأيَ عَينٍ” أي إنَّنا نكون عندك في مَجلسك تذكرنا بالجنة ونَعيمها وتأمرنا بما تُنالُ به من العمل الصالح كلّه من فرائضَ ونوافلَ وتُذَكِّرنا بالنَّار وجَحيمها وتَنهانا عمَّا يَدخلها من المخالفات والرذائل، حتى إنَّنا من شدّة حضورنا مع الجنة والنَّار كأنَّا نَراهما رأيَ عَينٍ.
19. وهكَذا كان رسول الله، صلَّى الله عليه وسلم، يُذَكِّر أصحابه في هذا المعنى وغيره ويؤثر فِيهم تأثيرًا بليغًا تَقتضيه مَرتَبَة الرِّسالة حتى إنَّهم يَغيبون عن هاته الدنيا الفانية وعالَمها الخالي ويَشخَصون مع العالم الأبديّ رغبَةً في دار النعيم ورهبةً من دار الجحيم.
20. ومن ذلكَ أنَّه ذَكَّرهم مرّة ووعظهم مَوعظة بليغَةً حتى أبكاهم فَعزَمَ عَشرة منهم على سُكنَى الجبال، ولَبس المسوح وتَحريم جَميع الطيِّبات من المأكل والملبس فَنَهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونَزلَ في حَقِّهم قولُه تعالى: “يا أيّها الذينَ آمَنوا لا تُحَرِّموا طَيِّبات ما أحَلَّ الله لَكم “، ومِن هؤلاء العشرة أبو بَكرٍ وعليٍّ وعثمانُ بن مَضعون وحكايتهم طويلةٌ. وما فعلوا ذلك إلاَّ لأَنَّهم عَزفت نفوسهم عن هاته الدنيا، دارِ الفَناء والغرور، فاستَوى ذَهبُها ومَدَرها بِسَبب مَوعظَةِ وتَذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقد سألنا بعضهم عن هاته الآية فجعلنا عليها شرحا مُستَقلاًّ.
21. إذا علمتَ هذا كلَّه أقول إنَّ حنظلةَ، رضي الله عنه، كان مقامُه الراسخ فيه إنَّما هو الحضورُ مع الله. وحضورُه مَع الجنَّة والنَّار على ما في هذا الحديث اقتضاه الحال في ذلك الزمان وهو الحال الأفضلُ والمقام الأكملُ والله أعلم بما وراءَ ذلكَ.
22. وفَضيلةُ الصُّحبَة له على كلّ حالٍ، فإنَّه من أفضَل القُرون، رضيَ الله عنه وعن جميع الأصحاب الذين بَذلوا أنفسَهم لله، يَبتغونَ فضلاً مِن الله.
23. وقوله: “فإذَا خَرجنَا مِن عندكَ عَافَسَنَا الأزْواجُ والأولادُ والضَّيعاتُ نَسينَا كثيرًا“. “الضَّيعاتُ” جَمع ضيعةٍ، ولَها في اللغة معانٍ منها الأرض المُغِلَّة، ومنها حِرفَةُ الرَّجل وصِناعتُه، يُقال: كَانت ضَيعَةُ العرب سياسة الإبل، فَيحتَملُ أنَّ حنظلةَ كَانت له أرضٌ مُغِلَّة يُخالطها للتمعُّش، ويَحتمل أن كانَت لَه صناعَةٌ وحِرفَةٌ، ويَحتملهما معًا.
24. والمَعنى: فَإذا خرجنا من عندكَ عَلى مَا نحن عليه من تمام الحُضور خَالَطَنا الأزواجُ والأولادُ والضَّيعاتُ نَسينا كثيرًا ممَّا ذَكَّرتَنا به، وغَفَلنا عمَّا كُنَّا عَلَيه عندكَ مِن تَمامِ الحُضورِ.
25. ولَم يَنفِ أصلَ الحُضور فإنَّ الأصحابَ كلَّهم مَقامُهم أجلُّ وأعلَى من ذلكَ، إنَّما أثبَتَ النِّسيانَ كثيرًا فَقط، وبالضرورة أنَّ مَن جالَسَ رسولَ اللهِ، صلَّى الله عليه وسلم، وتمتع بالنَّظَر في وجْهِهِ الشَّريف وسَمعَ كلامَه المُوحى به إلَيه فإنَّه لا يَنطق عن الهَوى، كانَ في غاية الحُضور مَع ما تَقتضيه المَوعظة والمذاكرةُ.
26. فإنْ كانَت في التَّوحيد كانَ حضورُه مَعه وإنْ كانَت في الثَّواب والعقاب فكذلك، وهكَذا يَحصلُ للصَّحابَة، عَلَيهم تمامُ الرِّضا والرِّضوانُ، مَا يَحصل لحنظلةَ، رَضي الله عنه، من تَمام الحضور عندَ المُثولِ بَينَ يَدَيْه، صلَّى الله عليه وسلَّم، ومُشاهَدَة ذَاتِه الشَّريفة والغفلةُ عندَ مُفارَقَتِه.
28. هذا المَعنى كثيرًا ما يَحصلُ للمُريدين مَع أشياخِهِم فَتَراهم في غاية اللّين ورقَّة القَلب وصفاءِ الباطِن والمَيْلِ إلَى الطَّاعة وقوّةِ الحضور مع اللهِ إذا كانوا حاضرينَ بَينَ يَديْ أشياخهم، فإنَّ المَشائخَ وَرَثَةُ الرُّسُلِ، عَليهِم الصّلاة والسلامُ، في أقْوالِهِم وأفعالهم وأحوالِهم والحديث يشير إلى ذلكَ: “العُلَماءُ وَرَثَةُ الأنْبياءِ“.
29. ويَشهدُ لهذا المَعنَى قولُهُ صلى الله عليه وسلم، لبعض أصحابه لَمَّا سألوه: مَن نجالسُ يا رسول الله؟ قال: “جالِسوا مَن تُذَكِّرُكم بالله رؤيتُهُ، ويَزيدُ في عِلمِكُمْ مَنْطِقُهُ ويُرَغِّبُكُم في الآخِرَةِ عَمَلُه”.
30. فَقد أمَرَ، صَلَّى الله عليه وسلَّم، بِمُجالَسَة مَن رُؤيتُه تَذَكِّرُ بالله. فَعُلِمَ مِنه أنَّ مِن الرِّجال مَنْ مُجَرَّدُ رُؤيتِهِ تُذَكِّرُ بالله تعالى وتُحَصِّلُ الحضورَ لِمَنْ جَالَسَه. وإذا لَم تَكن هاتِهِ الخَصلَة في مَشائِخِ التَّرْبِيَة والتَّرقية فَفي مَنْ تَكون؟ وَيُؤَيِّدُ هَذا المَعنى قَولُه، صَلَّى الله عليه وسلَّم:”أفْضَلُكُم مَن إذا رُئيَ ذُكِرَ اللهُ لِرُؤْيَتِهِ “.
32. وقَد اختُلفَ في سَبب نُزولها على رِوايَتَيْن: الأولى: عَن ابنِ عَبَّاسٍ قال: هؤلاءِ رجالٌ أسلَمُوا مِن أهْلِ مَكَّةَ وأرادُوا أنْ يَأتوا النَّبيءَ، صلَّى الله عليه وسلم، فأبَى أزواجُهُمْ وأولادُهُمْ أنْ يَدَعُوهُم أنْ يَأتُوا النَّبي، صلَّى الله عليه وسلم، فَنَزَلت هاته الآيةُ فلَمَّا أتَوه رأوا الناسَ قَد فَقِهوا في الدِّينِ فَهَمُّوا أنْ يُعاقِبوهُم أيْ بِعَدَم النَّفَقة عَليهم لأنَّهم ثَبَّطوهُم عَن الهِجْرَة فَنَزل قوله تعالى: “وإن تَعفُوا وتَصفحوا وتَغفرُوا فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ” . وقال عطاء بن يَسارٍ نَزلَت في عوفٍ بنِ مالكٍ الأشْجَعيّ وكان ذا أهلٍ وولدٍ فإذا أرادَ أن يَغزوَ بَكوْا عَلَيهِ ورافَقوه وقالوا: إلَى مَن تَدَعُنا فَيَرِقُّ عَليهم فَيُقيمُ فَنَزَلَتْ. نَقَلَ هاتَيْن الرِّوايَتَيْن الخازنُ في تَفسيرهِ.
33. وأنتَ تَرى عَلى كِلَيْهِما عدَاوَة بَعضِ الأزواج والأولاد وصَدِّهِم عَن القيام بما هو مطلوبٌ مَع سَيِّدِ الوُجودِ، صلَّى الله عليه وسلَّم، وتلكَ فتنةٌ عَظيمةٌ. ولَمَّا كانَت بعضُ الأزواج حَسَنَةً لأنَّها تعين على القيام بالواجب وهنَّ قَليلٌ وكذلكَ بَعض الأولاد وهُم قَليلونَ أتَى بِمِنْ التي للتَّبعيض فَقال: “إنَّ مِن أزْواجِكم وأولادكم عدًّوا لَكم“، وقال تعالى في فتنَة الأموال والأولاد: “إنَّما أمْوالُكم وأولادُكُم فِتنَةٌ” أيْ بَلاءٌ وشُغْلٌ عَن الآخرة ولَربَّما أوقَعوا في ارتِكاب العَظائِمِ.
34. من فِتنة الأمْوال ما في المُوَطَّأ ونَصّه : “حدَّثني مالكٌ عن عبد الله بن أبي بكرٍ أنَّ أبا طلحةَ الأنصاريّ كانَ يُصَلِّي في حائطِه (أي: بُستَانِه) فَطارَ دِبسيٌّ، فَطَفقَ يتَردَّد، يَلتمس مخرجًا فَأعجبه ذلك، فَجعلَ يُتْبِعُهُ بَصَرَه ساعةً، ثمَّ رَجع إلى صلاتِه، فإذا هو لَم يَدرِ كَم صلَّى. فقال: “لقد أصابَتني فِي مالي فتنةٌ”. فَجاء إلى رَسول الله، صلَّى الله عليه وسلم، فَذكرَ له الذي أصابَه في حائطه من الفِتْنَةِ وقال: يَا رَسولَ الله ! هو صَدقَةٌ لله فَضَعْه حيثُ شئتَ”.
35. وحَدَّثني عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنَّ رجلاً من الأنْصار كان يُصلِّي في حائطٍ لَه بالقفِّ في زَمان الثَّمْر والنَّخْل، قَد ذُلِّلَت فَهي مُطَوَّقَةٌ بِثمارِها، فَنظَر إلَيها فَأعجَبَه ما رَأى من ثِمارِها، ثمَّ رَجعَ إلى صَلاتِه فإذا هو لم يَدر كم صَلَّى. فَقال: لَقد أصابتني في مالي هذا فتنةٌ. فَجاء عثمانَ بنَ عفَّانَ وهو يَومئذٍ خَليفَةٌ فَذكرَ له ذلك. وقال: هو صدَقَةٌ فَاجْعله في سُبلِ الخير. فَباعَه عثمانُ بنُ عفَّانَ بخمسينَ ألفًا. فَسُمِّيَ ذلكَ المالُ الخَمسينَ”. اهـ.
36. فأنْت تَرى في هَذَيْن الحديثَيْن ما أصابَ هذيْنِ الأنصارِيَيْن من الفِتنَة في صلاتِهما بسبَبِ مالِهِما. ولكنْ انظرْ بِبَصر الإيمان كيفَ كان أهلُ الصَّدر الأوَّلِ يُداوونَ مَرضَ قُلوبِهِمْ ويَدفعون عنها الغفلَةَ وعَدَمَ الحضور في مُعامَلَتِهِم مَع مَعبودِهم، جلَّ وعلا. يَرضى الرَّجلُ منهم إذا سَها عَن ركْعةٍ من صلاتِه بَعد تَرقيعِها وفِعل ما يَجبُ شَرعًا إلاّ أنْ يستهلكَ ما كانَ سببًا في غَفلتِه بإنفاقه في سُبِلِ الخَير، رضيَ الله عنهم.
37. ومن فِتنَة الأولاد ما حَكاه الخَازنُ في “تفسيره” ونصَّهُ: عن بَريدَةَ، رضيَ الله تعالى عنه، قال : كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم، يَخطُبُنا، فَجاءَ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، وعَليهما قَميصانِ أحمَرانِ يَمشيانِ، ويَعثُرانِ فَنَزلَ رسولُ الله، صلَّى الله عليه وسلم، عَن المِنْبَرِ فَحَملَهما فَوضَعهما بَينَ يَديْهِ ثم قال: صدَق اللهُ، “إنَّما أمْوالُكم وأولادُكم فِتنَةٌ“. نَظرتُ إلى هَذَيْن الصَّبِيَيْنِ يَمشيانِ ويَعثرانِ فَلم أصْبِرْ حتَّى قَطعت حديثي ورَفعتُهما. اهـ”.
38. فَالزَّوج والوَلد والمالُ عَدُوَّةٌ للإنسان وفتنةٌ له في دِينِهِ ومعامَلتِه مَع مَعبودِهِ، ولذلكَ اشتكى حنظَلةُ، رَضيَ الله عنه، إلَى رَسول الله صلَّى الله عليه، وسلم فَقال : فَإذا خَرجنا عَافَسنا الأزواجُ والأولادُ والضَّيعاتُ، نَسينَا كثيرًا.
39. فَقال لَه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم: “والذي نَفسي بِيَدِه لَو تَدومونَ عَلى مَا تَكونونَ عِندي وفِي الذِّكْرِ لَصافَحْتُكم الملائكةُ على فُرُشِكُم وفي طُرُقِكِم.” فَقولُه: “والذي نفسي بيده“، يمينٌ منه، صلَّى الله عليه وسلَّم، يُؤَكِّد به الخبرَ لحَنظلَةَ تَثبيتًا لِقلبه، فَنَزَّلَه منزلةَ المُتَرَدِّدِ في الخَبَر، ولو كانَ خاليَ الذِّهْن لَما أكَّدَ لَه ذلك، للقاعِدَة المَشهورة عند علمَاءِ المَعاني المُشار لَها بقولِ الشَّيخِ الأخْضَريِّ في الجَوهَرِ المَكنُون:
فَيُخْبَرُ الخالي بــــلا توكيدٍ * ما لَم يَكن في الحُكْم ذا تَردِيدٍ
40. وقَولُه: “لَو تَدومُونَ عَلَى مَا تَكونُونَ عِندِي“، مِن تَمامِ الحُضورِ، وعَدَمِ الغَفْلَة، ورِقَّةِ القَلْبِ، لَصِرتُم من المَلإ الأعْلى، أرْواحًا مُجَرَّدَةً، لا حجابَ عَليها يَمنَعها من الكَشْفِ عَن العَوالِم الغَيْبيَّة، كَعالَم المَلائكة الذين هُم أجسامٌ نورانيّةٌ، بَل إنَّهمْ يَكونونَ أشدَّ رَغبَةً واشتياقًا لَكم فَيَسْعَونَ لِمُصافَحَتِكُم تَبَرُّكًا بِكم، سَعيَ الفاضل للأفضل، إذ خَاصّةُ المُؤمنينَ أفضلُ من عامَّةِ المَلائِكَة.
41. إذَا دامَ الإنسانُ عَلى مَا كانَ عَلَيْهِ بينَ يَدَيْ سَيِّدِ الوُجود، صلَّى اللهُ عَليه وسلَّم، صارَ من الخاصَّة تُصافِحُه المَلائكةُ تَبَرُّكًا به عَلى فُرُشِه، وفي طَريقه.
42. وقولُه: “وفِي الذِّكْرِ“، معطوفٌ عَلى مَا قَبْلَهُ. والمَعنى: لَو تَدومونَ علَى مَا تَكونونَ عَليه في الذِّكْر من تَمامِ الحُضورِ، واطْمِئنَانِ القَلب، لَصَافَحَتْكم الملائكةُ عَلى فُرُشِكم وفِي طُرُقِكُمْ أيضًا. وانظرْ ما هو المُراد بالذِّكر هل هو الصلاة فإنَّها تُسمَّى: ذِكْرًا، ومنه قَولُه تعالى: “يا أيّها الذين آمنوا لا تُلْهِكُم أموالُكُم ولا أوْلادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ” أيْ عَن الصَّلواتِ الخَمس، كما في الخازن، أو المُرادُ بِه الذِّكرُ المَعروفُ، وهو تَكرير أسمائِه تعالى، وتَرديدُ كَلمة الإخلاص ومنه قَولهُ تعالى: “فَاذْكُروني أذْكُرْكُمْ ” .
43. وقوله في بَعض كلامه: أنَا عندَ ظَنِّ عَبدي بي وأنا مَعه إذا ذَكَرنِي، فإنْ ذَكَرني في نَفسِهِ ذَكرته في نفسي، وإنْ ذَكرنِي في مَلإٍ ذَكَرتُه في مَلَإٍ خَيرٍ مِنه، وإنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبرًا تَقرّبتُ إلَيه ذِرَاعًا، وإنْ تَقَرّبَ إليَّ ذراعًا تَقرّبتُ منهُ باعًا، وإن أتاني يَمشي أتَيتُهُ هَرولَةً “.
44. والأوْلَى والأحْسَن تَعميم الذّكرِ في الحَديث وحَملُه عَلى ما هو أعمُّ، فإنَّ الذَّاكرَ يَحصلُ لَه الحُضورُ، وتَنْدَفِعُ عَنْهُ الغَفْلَةُ في الذِّكرِ، وفي الصَّلاةِ وفي تلاوةِ القُرآنِ وفَي جَميع أنواع الذِّكْر يَدلُّ عَلى ذلك قولُه تَعالَى في بعض كلامه: “أنَا مَع عَبدي مَا ذَكَرنِي وتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاهُ” ، وقوله “ أنا جَليسُ مَن ذَكَرَنِي الحديث.
45. فَمن كانَ اللهُ مَعَه وجليسُهُ لا بدَّ أنْ تَجذِبَهُ تلكَ المَعيَّةُ والمُجالَسة فَتكسِبَه حضورًا واطمِئنَانًا لِقَلبِهِ وغَيْبَةً عمَّا سوى مَطلوبِه، وما دَامَ الإنسانُ في حُضورٍ وغَيبَةٍ عَمَّا سوى المَذكور كانَ إلَى الملإِ الأعْلى أقْرَبُ، فَتَسْعَى إلَيْه المَلائكةُ لِتُصافِحَهُ تَبَرُّكًا به فَتَتَنَزَّلَ عَليه، ما كانَ مُستقيمًا مع رَبِّهِ وتَوحيدِهِ وخالصِ عَمَلِهِ.
53. وقولُه: “ثَلاثَ مَرَّاتٍ” من كلام حنظلة، رَضيَ الله عنه، أيْ أنَّ النبيَ، صلَّى الله عليه وسلَّمَ، كَرَّرَ هذه الجملةَ ثلاث مَرَّاتٍ، وهَكذا شَأنهُ، صلَّى الله عليه وسلم، في مواعظه وتذكيراتِه كثيرًا ما يُكرِّرَها ثلاثًا لتحفظَ عَنه. وهو أنفعُ تذكيرٍ للسَّامع، وذلك من حرصِه، صلَّى الله عليه وسلم، عَلَى أمّته ورحمتِه بهم.
54. وقَد مَنَّ الله علينا بذلك فقال: “حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم” ، فإذا أرادَ اللهُ الهدايَةَ أثَّرت مُذاكرتُه، صلَّى الله عليه وسلم، ونَفَعَ دَواؤه، وشُفِيتِ القلوبُ من أدْوائِها، فَقد بلغت المنى وإلاّ فالتسليم للهِ فيما يشاءُ أولَى، والحضورُ مع الفاعل المُختار، جلَّ جلالُه أعلى، لذلك قال تَعالى للمرشد الأعظم في ختام هذه السورة: “فإنْ تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلاّ هو عليه توكَّلتُ وهو رَبُّ العرش العظيم “.
55. في الخامس عَشرَ من ذي القَعدة سنة 1343 كَتَبه العبدُ الضَّعيفُ مُحَمَّد المدنيُّ، العَلاويّ، القصيبي المديوني، غَفرَ اللهُ لَه ولوالديه ولمشائخه ولجميع المسلمين آمينَ.
مختارات مدنية، هَذهِ المُختارات باقةٌ مُنتقاةٌ من جِياد النّصوص وعَزيز المعاني، اقتُطِفَتْ مِن تُراث الفِكر الصوفيّ للشيخ مُحمّد المَدني (1888-1959). تَعْرِض هذه المُختارات لأهمَّ مقامات التّصوّف الإسلاميّ التي عَبّر عنها الشيخ المَدني، في عباراتٍ ناصِعَة، وتَشمَل معارجَ الرّوح التي على طالبِ الحَقيقة أن يتتبّعَها ومَدارج التزكية القلبيّة التي يَحسن بها أن يرتَقيَ فيها. وفيها إشاراتٌ إلى أهمّ مَراتب المَعرفة الذّوقيّة. وقد اقْتُبِست مِن مُجمل آثارِ الرّجل التي تَضمُّ كتبًا ورَسائلَ وشروحًا، انتقَيْنا منها عيونَ نُصوصِهِ التي تَعكس فكرَه بِوضوحٍ، وتُجْلي طولَ باعِهِ في فنّ التَّصوف ومَدى تصرّفه في أصولِهِ وفُروعِهِ.
هذا، وتهدفُ هذه المُختارات إلى إعْطاء صورَةٍ صادقة، وهذه وَظيفة المُختارات، عن عُمق الرّجل وأصالة مُقارَبَته، ومن ثَمَة إلى الحَثّ على مُطالَعَة سائر ما كَتَبَ والعودَة إلى رصيدِهِ الثّري الذي يتوزّع على ما يقارب الخَمسَةَ عَشرَ تأليفًا، شَملت كافّة فروع المَعرفة الإسلاميّة. وبما أنّ هذا التُّراثَ لم يُترْجم بَعدُ إلى الفرنسية، بِاستثناء بَعض الصفحات من تَفسيره، قَرّرنا نَقْلها إلى هذا اللسان حتى يَطّلعَ الجمهور الناطق به على أعمال الرَّجل ويتعرَّفَ على فكرٍ أصيلٍ، طالما طَبَع بطابَعِه التصوّفَ في البلاد التونسيّة، طيلة النّصف الأول من القرن العشرين. ولا يجب أن يَغيبَ عنّا ما في تَرجمة أساليب التعبير القديمة والمَضامين الصوفيّة من صعوباتٍ، اقتحمنا ميدانَها بكثير من التهيّب والحذر، راجين التّوفيق في نَقل تلك المعاني من بيئاتها الأصليّة إلى مَجال الثقافة الفرنسيّة.
أما كاتبُ هذه النصوص فهو الشيخ محمد المدني (1888-1959). وُلدَ في بَلدَة قَصيبة المديوني (ولاية المنستير في الساحل التونسي)، في عائلة أقربَ إلى رقّة الحال. تلقّى تَعليمَه الابتدائي لَدى مُؤدّبي البَلدة وبَعدَها انتقلَ إلى تونس العاصمة ليلتحقَ بجامع الزيتونة حواليْ سَنَة1904 ، وهناك اغترَفَ من علوم الآلة وعلوم المقاصد على يَد مشائخ مَعروفين مثل محمد الخضر حُسَين (1876- 1958) ومحمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) وبلحسن النجار (1876-1952)، وكذلك الشيخ الصادق الصّحْرواي الذي لقّنة مبادئ التصوّف.
وفي نهاية الفصل الدراسي لسنة 1910، لم يُسمَح للشابّ محمّد المدني باجتياز مُناظرة « العالِميّة » مع أنه أدرك مُستواها، وذلكَ بِسبب مُشاركته في مظاهرات الطلاب (في أفريل 1910) ضدّ سلطات الاستعمار. وفي نفس هذه السّنة، التقى بالشيخ أحمد العلاوي (1869-1934) والتحقَ بطريقته الصوفيّة. ثم ما لبث أن ارتحلَ إلى مستغانم حيث قَضى سنةً كاملة في تَحصيل العلوم الروحيّة تحت أنظاره، وعاد منها بإجازةٍ خطيّة في نشر طريق التصوّف بالبلاد التونسية. وظل يَزور شيخه العلاوي بانتظام حتى وفاته سنة 1934، كما زاره هذا الأخير مَرَّتَيْن في قصيبة المديوني.
أسّس الشيخ محمد المدني زاويتَه سنة 1918وبدأ أتباعُه في التكاثر، وظل منذ ذلكَ التّاريخ حتى وفاته سنة 1959 يَجتَهد في نَشر الطّريقة الصوفيّة التي شَيّدها على الجَمع بين العلوم الشرعيّة والمقامات الروحيّة، أو الحقيقة والشّريعَة. فالتَفّ حوله أتباع كثيرون وتخرَّج على يَديْه الآلاف من المحبّين. تَرك مجموعةً من المؤلّفات في تفسير القرآن والفقه والتصوف واللغة إلى جانب ديوانٍ شعري، وجلّها اليوم مطبوع.