1- كانَ رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، كَثيرَ الضَّراعَة والابْتهال، دائمَ السؤال من الله تعالى أن يُزَيِّنَهُ بِمحاسن الآداب ومَكارِم الأخْلاق، فَكان يَقولُ في دُعائِه: “اللهمَّ حَسِّنْ خَلْقِي وخُلُقي” ويقول: “اللهمَّ جَنِّبْني مُنكَرَاتِ الأخْلاق” فاستجاب الله تعالى دعاءَه وفاءً بقوله عزَّ وجلَّ: “ادْعوني أسْتَجِبْ لَكم” فأنزَلَ عَليهِ القرآنَ وأدَّبَهُ به فكانَ خُلُقَه القرآنُ.
2- قال سعد بن هشام: دَخلتُ علَى عائشةَ، رضيَ الله عنها وعن أبيها، فَسألتها عن أخلاقِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أمَا تَقرَأ القرآن؟ قلت: بلىَ، قَالت: “كانَ خلقُ رَسولِ الله، صلى الله عليه وسلم القرآن“.
3- وإنَّما أدَّبه القرآنُ بمثل قوله تعالى: ” خذ العفوَ وامُرْ بالعُرف وأعرضْ عن الجاهلين ” وقوله: ” إنَّ اللهَ يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ويَنهَى عن الفحشاء والمُنكَر والبَغْي ” وقوله: ” واصبر على ما أصابك إنَّ ذلكَ من عزم الأمور” وقوله: ” فاعف عنهم واصفحْ إنَّ اللهَ يحب المحسنين ” وقوله: ” وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ” وقوله: ” ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ” وقوله: ” والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ” وقوله: ” اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تَجَسَّسوا ولا يَغْتَبْ بعضكم بعضاً “. ولماكسرت رُباعِيَّتُه (أي سِنُّه) وشُجَّ (أي جُرحَ) يومَ أحُدٍ فَجعلَ الدم يسيل على وجهه وهو يَمسح الدم ويقول: “كيف يُفْلِحُ قَومٌ خَضَبُوا وَجهَ نَبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم” فأنزل اللهُ تَعالى: “لَيسَ لَكَ من الأمر شيء” تأديباً له على ذلك.
4- وأمثالُ هذه التأديبات في القرآن لا تُحْصَرُ، وهو عَلَيه السلام المَقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ثم منه يُشرِقُ النُّور على كافَّة الخلق فإنِّهُ أُدِّبَ بالقرآن وأدَّبَ الخَلقَ به. ولذلك قال، صلى الله عليه وسلم، “بُعثتُ لأتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق” ثم رَغَّبَ الخلق في محاسن الأخلاق (…)، ثمَّ لَمَّا أكمل الله تعالى خُلُقَه أثنى عليه فقال تعالى: “ وإنَّكَ لَعلَى خلقٍ عظيمٍ ” فسبحانه ما أعظم شأنه وأتمَّ امْتِنانَهُ، ثمَّ انظرْ إلى عَميم لُطْفِه وعَظيم فَضله كيفَ أعْطى ثمَّ أثْنَى، فَهو الذي زَيَّنَهُ بالخَلقِ الكريم ثم أضاف إليه ذلكَ فقال: “وإنَّكَ لَعلَى خُلقٍ عَظيم“. الغزاليُّ، إحياء علوم الدين، الجزء الرابع،
قلت: كفى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شرفًا أنَّ اللهَ تعالى هو الذي تولَّى تَربيته وهذَّب رُوحَه وبارَكها في العالمين.
وكفاه شرفًا أنَّ تأديبَ الله إيَّاه كان بكلامه القديم، فكان الحبيب يتلقّي أنوارَ المُراد، مُباشرة في الفؤاد، بلَطيف المخاطبَة و رقيق الوِداد.
وأعظم شهود المُراد ما تجلَّى في خُلقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم اظهارا لأنوار التربيّة الربّانيّة وإجلاء لِكمالها، فَعَظَمة خلقِهِ، صلى الله عليه وسلم، مِن عَظمَة تأديب الله تعالى وبَركات ثَنائِه تعالى عليه…
ن. المدنيّ، باريس، 6 افريل 2013.