إنَّ اللهَ، تبارك وتعالى، خَلقَ مِن سُننه الكونيّة العقل في الإنسان، وجعله وسيلةً للإدراك، فَبِه تتكوّن معرفته شيئا فشيئًا، وبقدر ما يتعلّم بقدر ما يَرفع الجهل الذي كان حائلا بينه وبين تلك المعرفة، وخلق له كذلك قوّة بدنيّة تتحرّك وتعمل وتستعمل الوسائلَ لوضع ما يتصوّره ويتعلّمه حيّزَ التّطبيق حتّى يصيرَ واقعًا يستفيد منه وينتفع به، فالمهندس المعماريُّ مثلا يضع تصميما هندسيّا لبناء عمارة للسّكنى يعتمد عليه القائم على البناء لغاية إتمامها وانتفاع أصحابها بسكناها، فالعمارة هي حصيلة علم الهندسة وعمل مَن بناها، والتّصميم الهندسيّ يبقى حبرًا على ورق إذا لم يتمّ بناء العمارة والنّفع غير حاصل بل يتضرّر الذّين يرجون الانتفاع بها، فالعلم والعمل وسيلتان ضروريّتان في حياة البشرية.
وفي سياق هذا المعنى يقول الشيخ العارف بالله المربّي سيّدي محمد المدني عليه رضوان ربّي: ” العِلْمُ بِلا عَمَلٍ بَاطِلٌ: ضَرَرُه أَقْرَبُ مِن نَفْعِهِ ”
ومعنى ذلك أنَّ العلم لا نفعَ له إلاّ إذا صاحبه العمل، وقد حكم بالبطلان على علم بدون عمل، وإذا كان للعلم نفع محدود في حصوله، فالضّرر أكبر إن لم يقع العمل بمقتضاه وكأنَّ الشيخَ سيدي محمد المدني يقول: لا فائدةَ للعلم إلاّ بالعمل. ويفهم من حكمة الشّيخ رضي الله عنه أنّ العلم والعمل ضروريّان في شتّى مجالات الحياة ومرتبطان ببعضهما البعض أشدَّ الارتباط..
إنّ ديننا الإسلامي هو دين العلم والمعرفة، يدعو إلى التّفكير والنّظر وإعمال العقل واستخلاص العِبَر، كيف لا وأوّل كلمة من أوّل آية نزل بها الوحي السّماوي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي ( اقرأ باسم ربّك الذّي خَلَقَ ) [[العلق1]]، فهذه الآية تعدّ مفتاح العلم أيّا كان نوعه، وبتتبّع الوحي نجد أنّ كلمة “العلم” تكرّرت ثمانمائة وخمسينَ (850) مرّة في القرآن المجيد، فبالعلم تفتح البصائر، وتستنير العقول بفهم مظاهر الكون وإدراك نواميسه والإحاطة بجانبٍ من الحقائق الطّبيعية والتّاريخية والرّياضية والنّفسية في رحلة البحث عن الحقيقة، وكلّ عالم مصلح يعتبر العلم منطلقًا لكلّ عمل يرقى بالإنسان ويحقّق له ما يصبو إليه لنفعه ونفع بني جنسه، ولقد خصّ القرآن العلم والعلماء بالتّنويه، فهو سبحانه وتعالى يقول مميّزا بين العالم وغيره ( قل هل يَستوي الذّين يعلمون والذّين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولوا الألباب ) [[الزّمر9]] ويقول عزّ من قائل ( يرفع الله الذّين آمنوا منكم والذّين أوتوا العلم دَرَجَاتٍ ) [[المجادلة 11]]. وطلب العلم في الإسلام أمر إجباريّ، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ” طلبُ العِلم فريضةٌ على كلّ مُسلم ” رواه ابن ماجة
وبما أنّ الإسلام دين العلم فهو أيضا دين العمل، والتعاليم الإسلامية جعلت العمل واجبا وعبادة مؤكّدة يسمو به المؤمن إلى مستوى يقرّبه من الله تعالى، ولمّا خلق الله الإنسان ذلّل له السّبل ليعيش وأعطاه من الخيرات ما شاء إلاّ أنّه حثّه على العمل بل أمره بذلك عن طريق الوحي مخاطبا بذلك الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ( وقلْ اعْمَلُوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) [[التوبة 105]] . والمؤمن له في اتخاذ الأسباب ووسائل العمل حزم وعزم وتوكّل على الله لتحقيق المكاسب التّي تكفل كرامته وتحفظ ماء وجهه لئلاّ يتعرّض للخصاصة والحرمان، ولا يكون متواكلاً على غيره، فيكفي بذلك نفسه ومَن يَعول.
والعمل مقياس الأمم لمعرفة قيمتها في كلّ عصر ومصر وعلم التّاريخ خير شاهد على ذلك، وفي يوم القيامة يحاسب كلّ امرئ على ما قدّم في الحياة الدّنيا فيكون من أهل النّعيم المقيم إذا كان ميزان عمله راجحا بالحسنات أو يَكون من الأشقياء إذا كانَ ميزانُ عَمله راجحًا بالسيّئات. والمؤمن لا يطلب منه أداء العمل فقط بل هو مطالب بإتقان العمل والإخلاص في أدائه وبالتّوجّه إلى ربّه رجاء قبوله، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ” إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ” رواه البيهقي والسيوطي. فالتّبادل التّجاري بين الدّول مثلا يفرض شروطا ومواصفات للسّلع التّي يقع التّعامل في شأنها وهذا ما عليه ديننا لأنّه يأمر بجودة السّلع ويحرّم الغشّ في التّعامل.
إنّ جميع المسلمين مطالبون بمعرفة الضّروري من علوم الدّين حتّى يتمكّنوا من العمل، وذلك بامتثال ما أمرت به الشّريعة واجتناب ما نهت عنه، والرّسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم علّم الصحابة الدّين عقيدة وعبادة ومعاملة إلاّ أنّ بعضهم صرّح بأنّه عليه الصّلاة والسّلام قد خصّه بعلم لا يمكن أن يبوح به، ففي صحيح البخاري في الجزء الأوّل منه في كتاب العلم في باب حفظ العلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءَيْن فأمّا أحدهما فَبَثَثتُه، وأمّا الآخَرُ فَلَو بَثَثته لَقُطعَ هذا البلعوم . فالوعاء الأوّل هو علم الشّريعة أو علم الأحكام أو علم الظّاهر، أمّا الوعاء الثّاني فهو العلم الباطن أو علم التّصوف أو علم الحقيقة أو العلم المكنون أو العلم النّافع لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ” العلم علمان: علم على اللّسان فذلك حجّة الله تعالى على خلقه وعلم في القلب فذلك العلم النّافع ” رواه الترمذي وابن عبد البر والحاكم من حديث أحمد مرسلا بإسناد صحيح. ويتبيّن من هذا أنّ علم الشّريعة علم مكسوب يكتسب بالتّعلم والاجتهاد، أمّا العلم النّافع فهو علم موهوب يهبه الله لمن يشاء من عباده، فالشريعة لإصلاح الظواهر بتطبيق أحكامها، والعلم الموهوب لإصلاح الجوارح بالتّوبة والتّقوى والاستقامة وإصلاح السّرائر بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة. والعالم يعرف الأحكام ليعلّمها للنّاس ويعمل بها، والعارف يتمتّع بمعرفة منزّل الأحكام وهو الله تعالى، وأفعاله نابعة من قربه منه وتوفيقه له وذلك لأنّ الله أحبّه وتجلّى عليه بفضله فصار لا يسمع ولا يبصر ولا يبطش ولا يمشي إلاّ به كما ورد في آخر حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذّي رواه البخاري: ” فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ”
وفي هذا المعنى يقول أحد العارفين: اللّهمَّ أوقفني على مراكز الاضطرار حتّى لا يكون لي معك أيّ اختيار ، أي أنّه طلب من ربّه أن تكون علومه وأعماله وأحواله حسب اختيار الله له لا حسب اختياره لنفسه، توجّه إلى الله حتّى يتولاّه فلا يتصرّف إلاّ بنوره وسناه.
المصادر :
– رسالة تحفة الذاكرين ص42
– برهان الذّاكرين ص13- 14-15
– إيقاظ الهمم في شرح الحكم ص11
– معجم ألفاظ القرآن الكريم
بقلم سيدي الحاج المنصف الولهازي
مُقَدَّمُ مَقاديم مَدينَة تونس