الدّين وأركانه

الـحَمدُ لله حقَّ حَمدِه، كَما يَنبغي لجلال وجهه وعَظيم سُلطانه، لَه الخلق والتدبيرُ وإليه يرجع الأمر كلّه، عَلانيتُه وسرُّه، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريكَ لَه العليمُ الحكيم، الرحمان الرحيمُ، وأشهد أنَّ سيدنَا ومولانَا مُحمّدًا عبده ورسوله الذّي أُوتيَ جَوامعَ الكَلِم، وبلّغ عن ربّه الأحكام وبِهَا حَكَم، اللّهم صلِّ وَسلّم وبَاركْ عَلى سيّدنا محمّد مَن أرسلته للثَّقَلَيْنِ بِخَير دِين، فكان أسوة حسنة لمن كانَ يرجو الله واليوم الآخرَ، يَومَ يقوم النّاس لربّ العالمين، وعلى آله وأصحابه الغُرّ الميامِين.

أمّا بعد، فقد قال العارف بالله والدّال عليه الشيخُ سيّدي مُحمّد المدنيُّ : ” الدِّينُ هو انقِياد العَبْد لِمَعْبوده بِظاهره الـمُسَمَّى بالإسْلام، وبَاطِنِهِ الـمُسَمَّى بالإيمان، وَسِرِّه المسَمَّى بِالإحْسانِ”.

تُبَيِّنُ هذه الحكمة حقيقةَ الدّين وأركانَه، فالدّين لغةً هو ما يُتَدَيَّنُ به حقًّا كان أو باطلاً، على حدّ قول الله تعالى: “لَكم دِينكُم ولي دِين”، الآية 6 من سورة: الكافرون، أي لَكم شِركُكُم ولِي تَوحيدي، فَإلاهُ المشركين الأوثان وإلاهُ مُحمّد الرّحمانُ. والدين اصطلاحا هو ما شَرَعَه الله على لسان نبيّه من الأحكام، وسُمّيَ دينًا لأنّنا ندين لله أي نَنْقاد له، ويسمّى الدّين أيضًا مِلَّةً من حيث أنَّ الملكَ يُمليه على الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والرسول يُمليه علينا، ويسمّى الدين شرعًا وشريعةً من حيث أنّ الله شَرَعه لنا أي بَيّنَه لنا على لسان النّبي صلّى الله عليه وسلّم.

وَمَطلع الحكمة: ” الدِّينُ هو انقِياد العَبْد لِمَعْبوده” وهوَ تَعبيرٌ عن علاقة العبد بِمعبوده عن طريق الانقياد أي الطّاعة، والانقياد يشتمل على مَعنى الإذعان والخضوع، فإذا تَوَجَّهَ العبد لربّه المعبودِ، وأَذْعَنَ له وخَضَعَ لأمره امتثالاً، ولنهيه اجتنابًا فهو عبد الله وإذا كان عبدا لله فلا يكون عَبدًا لغيره، وبهذا المعنى يَشرف العبد بشرف انتسابه لربّه، بِخلاف مَن تَعَلَّقَ بالدّنيا وجَعلهَا غايَةً له فهو عَبدٌ لَهَا، وكذلك يكون عبدًا للمال إذا لم يَجعل ذلك المالَ وسيلةً تَجلبُ مَرضَاةَ رَبّه. والمعبود هو الله تعالى الذّي نَدبَ العباد لعبادته والتّوجّهِ إلَيه في كلّ أمْرٍ رَشّحهم للقيام به وحثّهم عليه.

ولكن بماذا يتمّ هذا الانقياد من المؤمن لربّه؟

أجاب الشّيخ رضي الله عنه عن هذا السّؤال بقوله ” بِظاهره الـمُسَمَّى بالإسْلام، وبَاطِنِهِ الـمُسَمَّى بالإيمان، وَسِرِّه المسَمَّى بِالإحْسانِ” فالدّين يَنقسم إلى أركانٍ ثَلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان.

فالإسلام بقواعده الخمسة وهي الشّهادتان والصلاة والزكاة والصّيام والحجّ لمن استطاع إليه سبيلاً، يُمثّل ركنًا من أركان الدّين، وهذه القواعد يؤدّيها المؤمن بظاهره أي بِبَدَنِه وجوارحه وماله، فهو يَذكرُ الشّهادتَيْنِ بلسانه وبه يتلو القرآن ويَذكر ربّه، وبه يُخاطبُ النّاسَ ويتعامل معهم أخذًا وعطاءً، وهو يصلّي باستعمال بدنه في القيام والركوع والسجود، وهو يصوم بامتناعه عمّا أبيح له في غير رمضان من مَأكَلٍ ومَشْرَبٍ ومَنْكَحٍ، وهو يزكّي من ماله إذا بَلغَ النّصاب، وهو يَحجّ بماله وبدنه وجوارحه، يسافر إلى البقاع المقدّسة ويلبّي ويطوف بالكعبة ويصلّي ويَسعى وَيَقف بعرفَةَ ويَرمي الجمار. والحاصل أنّ قواعد الإسلام تُمثّلُ العبادَةَ البَدَنيّةَ والماليّةَ.

أمّا الإيمان فهو الرّكن الثاني من الدّين، وقد عبّر عنه الشيخ سيّدي محمد المدني بقوله: ” وبَاطِنِهِ الـمُسَمَّى بالإيِمَان” فالباطن ما خفي وهو بخلاف الظّاهر، والإيمان هو التّصديقُ بالقلب، فالمؤمن يدرك أنَّ عبادَتَه لله تعالى ببدنه إنّما هي نَابعة من الهداية التّي حلّت في قَلبه إثرَ تَصديقه بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الله تعالى، يقول الإمام البوصيري:

إذَا حَلّتِ الهدايَةُ قَلبًا *** نَشِطَتْ للعِبَادَةِ الأعْضَاءُ

وعَدد قواعد الإيمان ستّة: الإيمان بالله وبالرّسل وبالملائكة وبالكتب المنزّلة وباليوم الآخر وبالقَدَر خَيرِهِ وشَرّهِ، فَقَواعِدُ الإيمان عبارة عن جذور الشّجرة في بَاطن الأرض وهي التّي تغذّي جذع الشّجرة وأغصانَها المعبّر عنها بقواعد الإسلام، أمّا ثِمَار الشّجرة فقد عبّر عنها الشّيخ سيّدي محمد المدني بقوله ” وَسِرِّه الـمُسَمَّى بِالإحْسانِ ”

فالإحسان هو الرّكن الثّالث من الدّين، الرّكن الذّي يُتَوِّج رُكْنَيْ الإسلام والإيمان وهو أن يكون المؤمن مُحسنًا في إيمانه، فلا يتطرّق إليه شكٌّ فيه، ويكون مُحسنًا في إسلامه أي متقنًا عند قيامه بوظائفه، والإحسان هو مَقامُ مُرَاقَبَة العبد لربّه في أقواله وأفعاله وسَائِر أحْوالِه، وهو أيضًا مَقام المشاهدة الحاصلة مِن مَعرفَة المؤمن بربّه حقَّ المعرفة وقربه منه في توجّهه له وتَحقّقه بأنّه واحدٌ في الذّات والصّفات والأفْعال.

وهذه الحكمة تعتبر امتدادا لقول الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصّحيح: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:” بينما نَحن جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثّياب شديد سواد الشّعر لا يرى عليه أثر السّفر ولا يعرفه منّا أحد، حتّى جلس إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فَخِذَيه وقال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام فقال رسول صلّى الله عليه وسلّم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله، وتقيم الصّلاة وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتَحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صَدَقْتَ. فعجبنا له يسأله ويصدّقه. قال: فأخبرني عن الإيمان.قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه.قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تَعبدَ الله كأنّك تَراه فإنْ لَم تَكن تَراه فإنّه يراك. قال: فأخبرني عن السّاعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السّائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحُفَاةَ العُرَاةَ العالَةَ رعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان. ثمّ انطلق فلبثت مليّا ثمّ قال: يا عمر أتَدري مَنِ السّائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم. رواه مسلمٌ.

إنَّ الإيمان بالدين وأركانه وقواعِدِ كلِّ ركنٍ منهَا واجبٌ عَلَى كلّ مسلمٍ، فَمن جَحَدَ أحد أركانه فهو كافرٌ، والواجب على كلّ مسلم عاقل أن يتعلّم دينَه ويعرف أحكامه مِن مَصادِره العلميّة فلا يَأخذ دينه عمّن هبّ ودبّ من النّاس، يقول تعالى: “فاسْأَلوا أهْلَ الذّكر إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعلمونَ”، الآية 43 من سورة النحل.

بقلم سيدي الحاج المنصف الولهازي
.

المصادر :

– تحفة الذاكرين بمحاورة وحكم العارفين ص31

– صفوة التّفاسير المجلّد الثّالث ص614

– بغية المريد لجوهرة التّوحيد ص5

– رياض الصالحين ص41

مَن خَدمَ الباقي بَقيَ بِبَقاء الباقي ومَن خَدَمَ الفاني فَنِيَ بِفَنائِهِ

الشيخ محمد المنور المدني سم الله الرَّحمن الرَّحيم هذه بَعض حِكم الشيخ سَيِّدي مُحمد المُنَوَّر...

من حكم سيدي الشيخ محمد المنور المدني

بِسم الله الرَّحمن الرَّحيم ذَاكَرنا الشيخُ سَيِّدي مُحمد المُنَوَّر المَدَنيّ، يومَ الاثنَيْن 27...

لاَ تَقاعُدَ في طَريقِ الله !

ذاكرَنا الشَّيخُ، سَيدي مُحَمَّد المُنَوَّر المَدَنيُّ، أطالَ اللهُ بقاءَه، يومَ الثلاثاء 20...