1. كانَ رَسولُ اللهِ، صَـلَّى الله عَلَيه وسلــّم، رَبْعَةً أيْ: مُتَوَسِّطَ الطُّولِ، وهو إلَى الطُّولِ أقْرَبُ. بَعيدَ ما بَينَ المَنْكِبَينِ، جَليلَ الكَاهِلِ، عَظيمَ رُؤوسِ المَناكب، ضَخْمَ العِظامِ، ورُؤوسِ المَفاصِلِ، لَيسَ بكَثير اللَّحمِ، ولَمَّا أسَنَّ بَدُنَ؛ متماسكَ اللحمِ، غيرَ قَصيرِ اليَدَيْنِ، ولا الأصابِعِ، أزْهَرَ اللَّونْ، أيْ: أبْيَضُ مُشْرَبَ البَيَاضِ بِحُمْرَةٍ.
2. عَظيمَ الهامَة (أيْ: الجُمْجُمَة)، أسْوَدَ شَعَرِ الرّأس، لَيسَ شَعَرُه مُلتَويًا ولا مُرتَخيًا، شَعرُه إلى شَحْمَةِ الأذُنِ. كانَ يَفرق شَعَرَهُ. كَثَّ اللِّحيَةِ، أي: كَثيرَ شَعَرِها، قَد مَلأتْ أعْلَى صَدْرِه، أسودَ شَعَرِها، وكانَ في صُدْغَيْه شَعَرَاتٌ بَيْضاءُ، وتَحْتَ شَفَتِه السُّفْلَى شَعَرَاتٌ بَيْضاءُ، وذلكَ في آخرِ عُمرِه المُبارَك. وكانَ يَقُصُّ شارِبَهُ.
3. مُدَوَّرَ الوَجْهِ باستطالةٍ قَليلَةٍ، واسِعَ الجَبينِ، سَهْلَ الخَدَّيْن، أي: لا ارْتِفاعَ فيهمَا، لِوَجْهِهِ بَريقٌ يَزدادُ إذا سُرَّ، واضحَ الأنْفِ بِدقَّةٍ. يُرى في أنْفه بَعضُ احديدابٍ، تامَّ الأذُنَيْن.
4. أكْحَلَ العَينَيْنِ أدْعَجَهُما، أي: شَديدُ سَوادِهِما، قد أُشْرِبَ بَياضُ عَيْنَيْه بِحُمْرَةٍ، أنْجَلُ، أي: طَويل شقِّ العَينَين، طويلُ الأشْفار، كَثيرَ شَعَرهمَا، حاجباه دَقيقانِ مَع تَقَوُّسٍ قَريبٍ من القَرَن، بَينَ حَاجِبَيْه عِرْقٌ يَدُرُّهُ الغَضَبُ، واسعَ الفَم بِحُسنٍ، مُفَلَّجَ الأسنانِ إذا تَكَلَّمَ رُئيَ كالنُّورِ يَخْرج من بَينِ ثَنايَاه.
5. فِي عُنْقِه ارتفاعٌ، سَواءٌ البَطنُ والصَّدرُ، مَوصولُ ما بَينَ اللَّبَّة والسُّرَّةِ بِشَعَرٍ يَجري كالخطّ. أشعرَ أعالي الصَّدر، لَيسَ في بَطْنِه وصَدْره شَعَرٌ غيرُ ذلك، أشعرَ الذِّرَاعَيْن والمَنكِبَيْن، طويلَ الزِّنْدَينِ، ضَخْمَ العَضُدَيْن، غَليظَ الكَفَّينِ، رَحْبَ الرَّاحةِ.
6. بَينَ كَتِفَيْه خَاتَمُ النبوءة، وهو بِضْعَة ناتِئَةٌ مقدارَ زرِّ الحَجَلَة (والزرّ: عُقدَةٌ كَبيضَة الحَمام، تَشدّ بها شقةَ الحَجلة وهي البَيْت)، أحْمَرَ اللَّونِ، فيه شَعَرَاتٌ، وحَولَه خِيلاَنٌ كأنَّها الثآليلُ. شَثَنُ القَدَمَيْن، ضامِرٌ، وَسَطَهُما أمْلسهما، لا نُتوءَ فيهما ولا شُقوقَ، قَليلُ لَحْم العَقِبِ، ولم يَرِدْ وَصفُ أظْفارِه. وَوَرَدَ في بعض الآثار أنَّ سَبَّابَتَيْ رِجلَيْه أطولُ من وَسَطَيْهِما.
7. وكانَ، صَلَّـى الله عليه وسـلـّم، إذَا مَشَى يَتَقَلَّع كَأنَّما يَنزِلُ من مكانٍ مُنْحَدِرٍ سريعًا في مَشيَتِه. إذا التفتَ التَفَتَ جميعًا.
8. جُلُّ نَظَرِهِ المُلاحَظَةُ، أيْ: لا يُوَجِّهُ نَظَرَه إلَى شَيءٍ بِحِدَّةٍ، نَظرُهُ إلَى الأرْضِ أطولُ مِن نَظَرِه إلى فَوقٍ، ضَحِكُهُ التبَسُّمُ، وربَّما ضَحِكَ حَتَّى تَبدُو نَواجِذُهُ.
9. وكان كَلامُه تَرتيلاً، بِحَيْثُ لَو شَاءَ أحدٌ أنْ يَكتُبَ كَلامَه لَم يَفُتْهُ. وكان أكثرُ جُلوسِه فِي المَجلس الاحتِبَاء، وربَّما اتَّكَأَ عَلى وِسَادَةٍ.
10. وكَانَ رسولُ اللهِ، عَلَيه الصَّلاة والسلام، أحْسنَ النَّاسِ خُلقًا، كما قال اللهُ تَعالى: ” وإنّكَ لَعَــلَى خُلُقٍ عَظيمٍ [[- “بعد أنْ آنسَ (الله) نفسَ رَسولِه، صلى الله عليه وسلم، بالوَعدِ عادَ إلى تَسفيه قول الأعداء فَحَقَّقَ أنَّه متلبِّسٌ بِخُلقٍ عَظيمٍ، وذلك ضدَّ الجنون مُؤكداً ذلك بثلاثة مُؤكدات مثل ما في الجملة قبله. والخُلق: طِباع النفس، وأكثر إطلاقه على طباع الخَير إذا لم يُتْبع بنعتٍ، (…). والعظيم: الرفيع القدر وهو مُستعار من ضَخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة. و(عَلَى) للاستعلاء المجازيّ، المُراد به التمكن كقوله: ” أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ”، (البقرة: 5) (…)، وفي حديث عائشة ” أنها سُئلت عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: “كانَ خُلُقُه القرآن” أي ما تَضَمَّنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها. والخُلقُ العَظيم: هو الخُلق الأكْرَم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشدَّ الكَمال المحمود في طبع الإِنسان لاجتماع مَكارم الأخلاق في النَّبي، صلى الله عليه وسلم، فَهو حَسَنُ مُعاملته الناسَ على اختلاف الأحوال المقتضية لِحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفَعُ من مُطْلَق الخلُق الحسن. ولهذا قالت عائشة: ” كان خلقه القرآن” ،ألستَ تقرأ: ” قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ”، (المؤمنون: 1) الآيات العشر. وعن عليّ: الخلقُ العظيم: هو أدَب القرآن ويَشمل ذلكَ كلَّ ما وصف به القرآن مَحامدَ الأخلاق وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم من نحو قوله: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ”، (آل عمران: 159) وقوله: ” خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ “، (الأعراف: 199) وغير ذلكَ من آيات القرآن. وما أخذَ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إَّنما بعثت لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق ، فَجعلَ أصلَ شَريعتِهِ إكمالَ ما يَحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم، ولا شكَّ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أكْبَر مَظهَرٍ لما فِي شرعه قال تعالى: ” ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا” (الجاثية: 18)، أمرَه أن يقول: ” وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ”، (الأنعام: 163). فكما جَعلَ الله رَسولَه، صلى الله عليه وسلم، عَلى خُلقٍ عَظيمٍ جَعلَ شَريعتَه لِحَمْل الناس على التخلُّق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة. وبهذا يَزداد وضوحاً معنَى التمكُّن الذي أفادَه حرف الاستعلاء في قوله:”وإنك لعلى خلق عظيم”، فَهو متمكن منهُ الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية. واعلم أن جُماعَ الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التديّن، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمُحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجمود، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسنُ المعاملة والمعاشرة. والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحُكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومَن لِنَظَره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس، وحسن الثناء عليه والسُّمعة. وأما مَظاهرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك كله وفي سياسته أمته، وفيما خص به فصاحة كلامه وجوامع كلمه” التحرير والتنوير، ج.29، ص. 63-64.]] “. وقالت عائشةُ، رَضيَ الله عنها،: ” كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ ” [[ رقم الحديث: 129 (حديث مرفوع) حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَتْ : ” كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ “. البخاري، باب الردّ على الجهمية.]] .
11. وكــانَ أرْجَحَ الناسِ عَقْلاً، وأفْصَحَهم لِسانًا، وأبْلَغَهم مَعنًى، وأجودَهم فِطْنَةً، وأصْفاهُم سَريرَةً، وأحْسَنُهم عفوًا، وأكْثَرُهم صَبْرًا، وأسْخاهُم، وأسْمَحَهم، وأشْجَعُهُمْ، شَديدَ الحَياءِ إلاَّ في الحَقِّ، كثيرَ الإغْضاء عَنِ الفَلتَاتِ، حَسَنَ المُعاشَرة، رَحيمًا بالنَّاس، رَفيقًا بِهِم، أصْدَقَهم قَولاً، وأوْفَاهُم عَهْدًا، شَديدَ التَّواضُعِ، كثيرَ الاحْتِمَالِ عَلى أذَى المُشرِكينَ، شديدَ الغِلْظَةِ عَلى الظَّالِمينَ والمُعتَدينَ علَى الحقِّ، لا يَنطِقُ بفاحِشَةِ القَولِ، غَيرَ هيَّابٍ للمُلوكِ والجَبابِرَةِ، ويَتَنازَلُ للضُّعَفَاء والمَساكين، ويَمزَحُ ولا يَقولُ إلا حَقًّا [[- أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة وهو عند الترمذي: بلفظِ قالوا إنَّكَ تُداعبنا قال: إي ولا أقول إلا حَقًا” وقال: حسن.]] .
سماحة الشيخ مُحمّد الطاهر بن عاشور
قصة المولد، ص. 38-41.
قلتُ: مِثالُكَ الأكْملُ، يا رَسولَ الله، مَرسومٌ في قَلبِ كلِّ عَاشق، ومِن مُكْتَنَزهِ الأسْنى تَنزَّلَت أسرارُ الحَقائق، وبِهَدْيِكَ الأعلى اهتَدى مِن الأولِياء كلُّ سَابِق ولاحِق. صاغَتكَ يَدُ العِناية من جَوهر الجَمال، وزَيَّنَتْ حقيقتَكَ بِشمائِل الكمال، فَكنتَ مفتاحَ أنْسِ الاتّصال بِرَبّ العِزَّة والجَلال. أخْلاقُك السَّنِيَّة وشَمائِلكَ العَليّة صورةٌ لأسْمى تَجليّات الأحَديّة، فَصَلَّى الله عليكَ وسلَّمَ ما تذلَّل لعزِّ عُلاكَ ساداتُ الرّجال.
ن. المدني، باريس.
31 ديسمبر 2012