الإهـــــداء
* إلى روح المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أثبت العارفين، في مشاهدة الحقّ جنانا..
* إلى روح سيّدي أحمد العلاوي أظهرهم في إثبات الحقّ برهانا..
* إلى أرواح كلّ الفقراء المنتسبين إلى طريق الحقّ احسانا ..
* إلى روح والدي المنعّم سيّدي محمّد المدني أنورهم في تعريف الحقّ بيانا..
• إليك يا من نذرت عمرك في آداء رسالة صنعتها من أوراق الصّبر وطرّزتها بمداد الفخر على سراج الأمل بلا فتور أو كلل، رسالة تعلّم العطاء كيف يكون العطاء..
. إليك أبتي نهديك كتابك ليكون شافعا و شاهدا لك بين يدي الله..
الشّيخ محمّد المنوّر المدني
المقدّمة
في العشريّة الأولى من القرن العشرين ، نظّم الشّيخ سيّدي أحمد العلاوي، رحمه الله ، قصيدة تتألّف من أَلفِ بيت، على بحر الرَّجَزِ ، سمّاها “الرّسالة العلاويّة في البعض من المسائل الشّرعيّة” [[1- ذكر للرّسالة عنوان آخر : ” الرّسالة العلاويّة في الأحكام الشّرعيّة” .]] . وكان غَرَضُهُ منها ذكرَ أهَمّ الأحكام العَقديّة والشّرعيّة(التّوحيد والعبادات) في متن يسهل حفظه. وفيها تعرَّضَ إلى أحكام الطّهارة والصّلاة والصّيام والحجّ والزّكاة، وغيرها من الفصول الّتي لا يستغني عنها مسلمٌ يريد معرفة أصول دينه والإطّلاعَ على أُمَّهَاتِ مسائله . وقد خـتم هـذه القصيدة الكـبرى “ بكتاب التّصوّف” في 132 بيتا ، حلّل فيه مذهبَ التّصوّف تحليلا دقيقا وغاص في خفايا النّفس ولطائف أسرار القلوب .
وقـد أشـار الشّيـخ سيّدي محـمّد المـدني إلى هـذه القـصيـدة قــائـلا : “ونظّم (الشّيخ سيّدي أحمد العلاوي) رسالة تشتمل على ألف بيت ابتـدأها ببيان ما يَلزم المكلّف من التّوحيد، وختمَها بجملة صالحةٍ من التّصوُّف يَحتاجها المريد لما يلزمه من بيـان الخَلوة وكيـفية ذكـر الإسم الأعـظم، وما يلـزم المـريد من الآداب مع شـيخه وإخـوانه وما يلـزمه أن يتحـلّى به من جمـيل الصّـفات وأنـواع المبـرّات . وجـعل وسطهـا فقــها في العـبادات جـمع فـيهـا ما تــدعو الضّرورة له ويكـثر الإحتـياج إليـه كالأضحـية والذّكاة وبـيان ما يجـب علـى المكـلّف معرفـته في حـقّ سيّد الـوجـود صلّى الله عـليـه وسلّم، وجـمع فـيها مـا تفـرّق في غيرها مـن شــتات المسـائـل بغـايـة الإيـجاز والإيـضاح، فهـي كافلة لمن أمعـن النّظـر فيـها بالتّحـصـيل والنّجـاح.(…)ولـقـد جعـلنا عليها شرحا مختصرا جاء على حسب
حالنا ولكنّه لم يُوفِ حقّ النّظام وعين الرّضا تقبله بسرور والسّلام ” [[1- الشّيخ محمّد المدني ، برهان الذّاكرين، صفحة 24، طبعة 2007 .]] .
وقد ارتأى الشّيخ سيّدي محمّد المدني رحمه الله، برّا بشيخه وصدقا في خدمته، أن يقوم بشرح كامل لهذه القصيدة المباركة حتّى يُفَصِّلَ مُجْمَلَهَا ويُبَيِّنَ مُغْلَقَهَا.فكان كتاب الأصول الدّينيّة الّذي يقع في أكثر من 300 صفحة، وهو شرح مستفيض– حسب الفقه المالكي–لما ورد في الرّسالة العلاويّة من الأحكام.وكان الفراغ منه مساء يوم الإربعاء، الرّابع والعشرين من ربيع الأوّل عام ثمانية وثلاثين وثلاثمائة وألف الموافق لـ 18 ديسمبر 1919.والجدير بالذّكر أنّ الأستاذ محمّد بن صالح التمسماني شرحها أيضا في كتاب:”الحُلل المرضيّة على الرّسالة العلويّة”ولكنّه اقتصر على 420 بيتا الأولى فقط في 28 فصلا،ولم يتناول الجزء الخاصّ بالتّصوّف. [[2- صدرت الطّبعة الأولى من هذا الشّرح الجزئي سنة 1938 والطّبعة الثّانية 1987 ]]
وأمّا كتاب التّصوّف الّذي نعتزّ بتقديمه اليوم للقرّاء،-بعد تحقيقه وإضافة ترجمة للمؤلّف- فهو زبدة هذا المُصَنَّف وخلاصته،إذ هو القسم الأخير،وكأنّ الصفحات السّابقة – الّتي سننشرها مستقلّة إن شاء الله–إنّما هي إعداد للمريد وتهيئة له حتّى يغوص في أعماق الأحكام،ويستشعر حلاوة العبادات.وقد تجوّل الشّيخ سيّدي محمّد المدني في ثنايا المعرفة الرّوحيّة، وبسط القول في مبادىء التّصوّف ومقاماته الوسطى ونهاياته.فكان هذا الجزء المبارك تعريفا بأهمّ المقامات والمدارج الّتي يتّبعها المريد حتّى يصل إلى معرفة ربّ العالمين.وهذا ما يؤكّد دون شكّ أنّ الطّريقة المدنيّة العلاويّة هي طريقة المعرفة والوصول،ولم تكن يوما طريقة تبرّك أو شعوذة. ولذلك شرح الشّيخ كلّ العقبات والقواطع الّتي قد تقف في وجه السّائر،كما ذكر الأدوية الواجب اتّباعها للقضاء على آفات النّفس وأمراضها، أَكَـانَ السّائر مـريدا مبتـدئا أو شيــخا واصلا. فالكلّ يستوي في ضرورة التحلّي بآداب المعرفة وتزكية النّفس لإدراك مقام اليقين الأكمل .
ويتميّز أسلوب الشّيخ سيّدي محمّد المدني رحمه الله في هذه الرّسالة – كسابق عهده في سائر الكتابات والرّسائل- باليسر والوضوح معتمدا كلّ الإعتماد على الأدلّة النّقليّة والعقليّة ، يستعملها للبرهنة على الأفكار المعروضة بكلّ أريحيّة ونورانيّة، فبلغ كلامُه المدى في الإقناع والإفهام . كما نرى طول بَاعِهِ وتمكّنه من التّراث الصّوفيّ الأصـيل الّذي تركـه كـبار القـوم . فهـدفـه الأساسيّ هـنا التّذكـير بشـرعيّة ما يقوم به أهل الله الذّاكرون .
وهكذا يمكن اعتبار هذه الرّسالة – على صغر حجمها- دستورا متكاملا لآداب السّير إلى الله . فيه ذكر سيّدي الشّيخ محمّد المدني كلّ ما يحتاجه السّائر إلى حضرة الله، ولم يترك شاردة ولا واردة تتّصل بعلم القوم إلاّ ذكرها، مستدلاّ عليها بقويّ الآثار وصحيح الأخبار وجميل الأشعار . وبهذا المنهج السّليم ردّ التصوّف إلى حظيرة السنّة النّبويّة المطهّرة . فكان في مطلع القرن العشرين ما كان عليه الإمام الغزالي في القرن الثّاني عشر. فكلاهما ربط التّصوّف بأنوار الشّريعة الطّاهرة وقيّد ما فيه من الرّياضات والآداب بتعاليمها وأحكامها الباهرة .
ولم يقتصر الشّيخ على ما في الرّسالة، بل تجاوزها وتوسّع في شرح معانيها حتّى قدّم إلى الطّالب كلّ ما يحتاج إليه من الأدلّة والمعارف . فهذا الكتاب هديّة من أثمن الهدايا إلى المريدين: فيه دلائل تفاني الشّيخ في خدمة الله الّذي لا يَأْلُ جهدا في التّذكير والإرشاد لعباد الله الذّاكرين ، وخدمة شيخه سيّدي أحمد العلاوي الّذي التزم بشرح كتاباته وحلّ مُغلَقهَا ومُجْمَلِهَا . وهو بهذا المقدار ينبئ عن تفانيه في خدمة شيخه ومريديه في ذات الآن .
ولعلّ أصالة الشّيخ سيّدي محمّد المدني تكمن في اعتبار التّصوّف الرّكن الثّالث من أركان الدّين الإسلامي، فلا يقوم تَدَيُّنٌ ولا يستقيم إيمان إلاّ إذا كانا مشيّديْن على هذه الأركان المتكاملة المترابطة . وكلّ ما في هذه الرّسالة إنّما هو تحرير مستفيض وتفصيل ممتع لعلم القلوب، مقام الإحسان، ومرتبة العارفين . فلا شكّ أنّ ما ورد فيه من الوصايا والمبادئ يحتاجه كلّ مسلم ينتوي الخروج من ربقة التّقليد والوصول إلى مدارك الوصل والتّوحيد . وهكذا ، يُظهرُ هذا الشّرح أنّ التّصوّف إنّما هو ركن الدّين الرّكين ومعدنه الأصيل، وكأنّ ما في الدّائرتين الآخرتين ( الإيمان والإسلام) هو تزكية للقلب وتهيئة للرّوح حتّى يشاهد المريد على وجه التّدريج مقامات المعرفة والتّفريد. وذلك لا يكون إلاّ بِجُمْلَةِ آدابٍ يتبعها الفقير مع الحضرة العليّة ، ثمّ مع النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، ثمّ مع شيخه ومع سائر المريدين والمؤمنين . وبهذا ضبط الشّيخ سيّدي محمّد المدني كلّ قواعد الحياة الباطنيّة وبيّن وجه الفضل فيها، فما من خير إلاّ وهو منوط بهذه الآداب الرّفيعة .
وأمّا المحور الثّاني الّذي يتجلّى في هذا الشّرح فهو محور المقامات المتدرّجة. فالمعرفة بالله ثمرة وغاية ودونها مراحل ومدارجُ،ومقاماتٌ ومعارجُ لابدّ من اتّباعها والسّير فيها رويدا رويدا.ولم يكتف الشّيخ بردّ هذه المقامات إلى حضيرة النّصوص القرآنيّة والسنيّة فقط،بل استدلّ بها على ضرورة الإنتظام في الطّريق واتّباع شيخ التّربيّة ليصاحبَ المريدَ في هذه المجالات الرّحبة ولا يدعه إلاّ وقد استوى بين يديْ ربّه عارفا.فالمقامات عـند الشّيخ سـيّدي محـمّد المدني–كما عنـد غيـره من كـبار أهـل الله- معـارج الرّوح تسـري فـيها مـركبا مركـبا حتّى يصــل السّائر إلى المراد ويزول عنه الحجاب .
وهكذا يُعدّ كتاب الأصول الدّينيّة على وجه العموم وشرح الرّسالة العلاويّة على وجه
الخصوص من أجمل البيانات الصّوفيّة الّتي اختطّها يَرَاعُ العارف الرّبانيّ سيّدي محمّد المدني رحمه الله . ويحقّ لكلّ سالك أن يقرأ هذا الكتابَ بتمعُّن وبصيرة فيغنيه عن كبير الأسفار والمجلّدات ومعقّد الكتب والصّفحات لأنّه احتوى على أمّهات هذا الفنّ بأسلوب عذب ومنهج سلس . وفي هذا الفنّ الرّفيع تغني اللّمحة الخاطفة والإشارة الفائقة عن الإطناب .
فرحم الله والدي المبرور ، الشّيخ سيّدي محمّد المدني لعلمه الأصيل وعمله الجليل ورزقه لذّة النّظر إلى الوجه الجميل ، أبدا دائما إلى يوم الدّين بحرمة الرّسول النّبيل وآله ذوي الغُرّة والتّحجيل .
الشّيخ محمّد المنوّر المدني