الأصول الدينية في شرح الرّسالة العلاويّة في البعض من المسائل الشّرعيّة
محتوى كتاب الأصول الدينية في شرح الرّسالة العلاويّة
تمهيد
في العشريّة الأولى من القَرن العشرين، نَظَم الشّيخ أحمد العلاوي (1869-1934) قصيدةً تتألّف من أَلفِ بيتٍ، على بَحر الرَّجَزِ، وسَمّاها : “الرّسالة العلاويّة في البعض من المسائل الشّرعيّة “. وكان الغَرَضُ منها ذكرَ أهَمّ الأحكام العَقديّة والشّرعيّة والرّوحيّة (التّوحيد والعبادات والتصوّف) في مَتنٍ واحدٍ، يَسهل على الطلاّب حفظُه وتمثّلُه. وفيها تعرَّضَ إلى الفُصول التي لا يَستغني عنها مسلمٌ يودّ معرفة أصول دينِهِ بأركانه الثلاثة، والاطّلاعَ على أُمَّهَاتِ المسائل والنّوازل. وقد خـتم هـذه القصيدة الكـبرى “بكتاب التّصوّف” في 132 بيتًا الأخيرة، حَلَّلَ من خلالها مذهبَ التّصوّف تحليلاً دقيقًا وغاص في خفايا النّفس ولطائف أسرار القلوب.
وقـد أشـار شارحُها الشّيـخ محـمّد المـدني إلى هـذه القـصيـدة في أحد كُتُبه قـائـلاً : “ونظّم (الشّيخ أحمد العلاوي) رسالةً تَشتَمل عَلى ألف بيتٍ، ابتـدأها ببيان ما يَلزم المكلّف من التّوحيد، وختمَها بجملة صالحةٍ من التّصوُّف يَحتاجها المُريد لما يَلزَمه من بيـان الخَلوة وكيـفيّة ذكـر الإسم الأعـظم، وما يَلـزم المـريد من الآداب مع شـيخه وإخـوانه وما يلـزمه أن يتحـلّى به من جمـيل الصّـفات وأنـواع المبـرّات. وجَـعلَ وسَطهـا فقـهًا في العـبادات، جَـمع فـيهـا ما تَـدعو الضّرورة له ويكـثر الاحتـياج إليـه، كالأضحـية والذّكاة، وبـيان ما يجـب علـى المكـلّف معرفـته في حـقّ سيّد الـوجـود، صلّى الله عـليـه وسلّم، وجـمع فـيها مـا تفـرّق في غيرها مـن شـتات المسـائـل بغـايـة الإيـجاز والإيـضاح، فهـي كافلة لمن أمعـن النّظـر فيـها بالتّحـصـيل والنّجـاح.(…) ولـقـد جعـلنا عليها شرحًا مختصرًا، جاء على حسب حالنا ولكنّه لم يُوفِ حقّ النّظام وعين الرّضا تقبله بسرور والسّلام”.
والجديرُ بالذّكر أنّ الأستاذ محمّد بن صالح التلمساني شرح هذه الألفيّة في كتاب : “الحُلل المرضيّة على الرّسالة العلويّة”، إلا أنّه اقتَصَر على 420 بيتًا الأولى فقط، في 28 فصلاً، ولم يتناول الجزءَ الخاصّ بالتّصوّف. ولذلك، ارتأى الشّيخ محمّد المدني، بِرًّا بشيخه وصدقًا في خدمته، أن يقوم بشرح كاملٍ لهذه القصيدة المباركة حتّى يُفَصِّلَ مُجْمَلَهَا ويُبَيِّنَ مُغْلَقَهَا. فكان هذا الكتاب “الأصول الدّينيّة” الّذي يقع في أكثر من 300 صفحة، وهو شرح مستفيض – حسب الفقه المالكي- لما ورد في “الرّسالة العلاويّة” من الأحكام الفقهيّة.
كما تَحسن الإشارة إلى أنَّ هذا الشَّرحَ تَمَّ في حَيَاة أستاذه الشيخ أحمد العلاوي، وبإذْنٍ منهُ صَريحٍ ومُبَارَكَةٍ كاملةٍ. يقول المُؤَلِّفُ، محمد المدني في مُقَدِّمَته : “فاستأذنتُهُ (أيْ الشيخ العلاوي) في شَرْحِهَا (أي الرسالة العلاَويّة) فَأَذِنَ لي وأشارَ عَلَيَّ أنْ أسيرَ حذوَ لَفظهَا وأنْ لاَ نأتيَ بالغريب مِنَ الكَلاَم. فَبِاللفظ المَألوفِ يَحْصُلُ المَرامُ”.
فهكذا التمس الشّيخ العلاوي من مريده اتّبَاعَ مَنهج التبسيط والتيسير مراعاةً لِفَهْم أَغْلَبيَّة النَّاس وجُمْهُورِ الفقرَاء والقرّاء، لأنَّ الغايَةَ هي نَفع الجَمِّ الغفير ولَيس تَحقيق المسائل وتحريرها على طريقَة كِبَار المُدَقِّقينَ والمتكلّمينَ.
هذا، وتتألّف هذه الرسالة المُطَوَّلة من ثلاثة أبوابٍ كبرى :
أ- كتاب العقيدة.
ب- كتاب الفِقه.
ت- كتاب التصوّف.
1. كتاب العقيدة
إنَّ مَوضوعَ علمِ الكلام هو الله تعالى. فهوَ أشرفُ العلوم وأعلاها، لِعُلوّ مَوْضوعِه وشَرفِه على سَائِر الموضوعات. وطريقةُ هذا العلم إمَّا نَصبُ الدليل وإقامة البرهان، وإمَّا معرفةٌ بالذَّوق والوِجدان وإدْرَاكٌ لصِفَات الله وعَلَيِّ أَسمائِه بمُكَاشَفَةٍ وعِرفانٍ. ولا يزال عُلَمَاءُ الأمَّة يَكتبون في هذا العلِم ويُثبِتونَ مَعانيه بإحْدى الطَّريقتين : البُرهَان أو العِرفان. ذلكَ أنَّ أساسَ الدّين الإسلامي عقيدةٌ رَاسخَة صافِية، وأُولَى دَعائِمِه المَعرفَةٌ بالله وبصفاته وأسمائه، ثمَّ عَلَيهَا تُشَيَّدُ قواعدُ الشَّرع الحَنيفِ، ومَبَادِئ السُّلوكِ القَويمِ. ومَا اهتمامُ العلماءِ في كلِّ عَصرٍ ومِصْرٍ بإصلاح العقائد وتمتينها وبيانِهَا وتَهذيبها إلا ليبقَى علم التوحيد خالصًا من كلّ شائبةٍ.
وقد سَارَ الشيخُ أحمد العلاوي عَلَى هذا المَنهَج القَويم وخَصَّصَ الجزء الأوَّلَ من مَنظومة الرِّسَالَة العلاويّة لبَيَان عَقيدة التوحيد وما تنْطَوي عَلَيْهِ مِن أقسام الإلهيَّات والنّبويات والسمعِيَّات. وتَبِعَه في ذلكَ مُريدُه الشَّيخُ محمد المَدَنِيُّ فَخَصَّ هذهَ الأبياتَ بشَرحٍ دَقيقٍ وافٍ، بَيَّنَ فيه مَا يَنبَغي للسَّائِر في طريق الله مَعرفَتُه من قَواعِد العَقَائد وأصول الغَيبِيَّاتِ.
ويشتمل الجزءُ الأولُ من هذا الشَّرح على تَذكيرٍ سريعٍ بقواعد الإسلام والإحسان ثمّ على بَيَان مُوسّعٍ لقَوَاعد الإيمان وهو الغَرَضُ الأساسيُّ لهذا الباب. وقد ابتدأه الشيخ المدنيُّ بِلَمحَةٍ مُوجَزَةٍ عن حَيَاةِ الشَّيْخِ العَلاَويّ وعن آثاره ومَنَاقِبِه، ثم صاغَ ديباجَةً بديعة، وذكرَ بعدَ ذلكَ أوَّلَ مَا يَجبُ على المُكَلَّفِ مع بَيَان معنى “المُكَلَّف”، وتذكير بأركان الدّين الثلاثة ثم فصّل الحديث عن الإيمان بالله ورُسُلِه وكُتبه وملائكته واليوم الآخر والقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وخَتَمَ بما يجب وما يَجوزُ ومَا يَستَحيلُ في حقِّ الله تَعَالَى.
منهج باب العقيدة
ويقوم منهج الشيخ المدني في شرحه لهذا القسم على قَواعدَ أهمها :
1. الاستدلال عَلَى العَقَائد بالقرآنِ والأحاديثِ الصَّحيحة. فالمعرفة الذوقيَّة التي يدافع عنها الشيخُ المدنيُّ في ثَنَايَا كتابِه هِيَ المعرفة السُنِيَّة المحمديّة الشرعيّة، التي يَستند كلُّ مَبدَأ من مبادئها على النّصوص المُحكَمَة المُقتَبَسَة من مشكاتَيْ الكتاب والسنَّةِ. وذلك حتَّى تَثبت معاني التوحيد والعقيدة داخل حظيرة النصوص الشرعية المطهرَّةِ ويُتَجَنَّبَ تكلّف المُتَكلمينَ.
2. التـأصيل الشّرعيّ لما وَرَد في الأبْيات، فما مِن مصطلحٍ دالٍّ على سلوكٍ أو فِكرة تناولها الشيخ العلاوي إلاَّ ويذكر لها الشّيخ المدني أصولَهَا الشرعية ويُبيِّنُ جذورَهَا، ومثال ذلك حديثُه عَن البَسملة والذِّكْر والأنبياء، كأنَّ هذه الرسالة باتَت ذريعةً للخَوض في أصول المسائل العَقَديّة وتحريرها على الوجه الأكمل.
3. الشّرح اللغوي : كثيرا ما يعرّج الشيخ المدني عَلَى المُفرَدَات الصّعبَة، فيشرحها شرحًا موجزًا، مثل ما ذَكَره بشأن مفردة “معتصمًا” وغيرها (ص. 20). كما كانَ يستدلُّ في شرحه بأبياتٍ من الشعر العربي القديم عمومًا، ومن الشِّعْر الصوفيّ خصوصًا حتى يضع المصطلحَ أو الفكرة في سياقها.
4. الاعتماد على الأدلَّة النقليَّة المبسّطة لوضوحها والابتعاد عن الأدلة الكلاميّة والجدليَّة وطَرائق السَّفسطة، التي حاربَها الإمام أبو حامد الغزاليّ، وكانت سائدة في كُتب علماء الكلام المتقدّمين. ولذلك استند الشَّيخ على الواضح البَيِّن من آراء العلماء الأشاعرة دون دخول في التفاصيل ولا ذكر لمسائل الخلاف والجزئيّات التي لا تفيد قارئ اليومَ، ولئن كان لها ما يبرّرها في الكُتب السابقة. وعند تفصيل الأمور الغيبية، نوّه الشيخ إلَى أنَّها بطبيعتها مخالفة للأفكار والأوهام ولا تدركُ بالعقول البشريَّة القاصرة والتعويل فيها على التسليم والإيمان.
5- التأويل : حيث يقول الشيخ محمد المدني بضرورة تأويل آيات القرآن وعَدَم حملها على ظواهرها، وذلك تماشيًا مع عَقَائِد أهل السنّة المحققين. ومثالُ ذلكَ الحديث عن عصمة الأنبياء، فينبغي تأويل ما وردَ في القرآن من آيات يوحي ظاهرها بنسبة التقصير إليهم، لتثبيت هذا المبدأ. ومن لَطيف تأويلاته أيضًا ضَرورة احترام الكُتُب المُقَدَّسَة التي هي الآن لَدى أهل الكتاب، لأنَّهَا تحتوي، رغم تَحريفها، على جزءٍ مِنَ الوَحْي الإلهيّ.
2. كتاب الفقه
“كِتاب الفِقه” هو أطول الأبواب الثلاثة وأوسعُها بيانًا وأكثرها تفصيلاً ومعلوماتٍ، فقد تَوَسّع الشارح الشّيخ المدني في ذِكْر الأحْكام الفقهيّة الخاصة بأقسام العبادات كلّها، مبتدئاً بِالطَّهارة ومنتهيًا بأركان الحَجّ وسننه، كما أضاف فصلاً متعلقاً بالسّيرَة النَّبَويَّة وبعض المعلومات المتصلة بالنّبيء الكريم، ذَكَرَها بعد الفراغ من قسم الحجّ، وكان ذلك منه على سبيل البَركة والتيّمُن، وجَريًا على سُنَن الفقهاء، مثلَ ابن جُزَيْ الغَرناطيّ، الذين كانوا يَختمون كتبَ الفقه بنبذة عن السيرة النبويّة المطهّرة.
وقد بنى الشيخ المدنيّ شَرحه للقِسم الفقهي على مبدأ التّفصيل بحيث عالَج كلَّ دقائق المسائل وفروعها، فعندما تَطرّق إلى فرائض الوضوء مثلاً توسّع في ذكر حُدود الوجه واليَدَيْن وتَفاصيل الغُسل والدَّلك، مما جعل هذا القسمَ أقرب إلى تحرير فقهيّ خاصّ. بل إنّ أبيات الأستاذ أحمد العلاوي المَشروحة تُصبح، في أحايين عديدة، مُجرد ذريعة يتوسّل بها الشيخ من أجل التوسّع في المسائل، وعَرض ما يتصل بها من المعلومات والتفاصيل التي يوردها بكل وضوحٍ ودقّةٍ.
ومن الطبيعيّ أن يكون الشيخ المدني قد عاد إلى الكتب الأصول في الفقه المالكيّ لاستشارتها وإثبات ما وَرَدَ فيها، وهي عين الكتب التي دَرَسها في جامع “الزيتونة”، حين كان طالبًا للعلم، فيها طيلة العقد الأول من القرن العشرين. وأهمّ هذه الكتب التي نقل عنها وذكر مواضعَ نَقله بكل أمانة هي “مختصر خليل” و”رسالة ابن أبي زيد القيروانيّ” فضلاً عن “متن ابن عاشر”، بشروحه “الصغرى” و”الوسطى” و”الكبرى”، إلا أنه كان يكتفي من كلامها بجُملٍ قصيرة وفقرات منتقاةٍ، يوردها فقط لبيان ما أثبِتَ في ألفية الشيخ العلاوي ويتقيّد بها، فلم يَنقل ما لا طائلَ من ورائه، وكلّ ذلك في عبارة موجزة ولفظ واضحٍ، لا ينسى كاتبُه أنّه يَتَوجّه به إلى قرّاء القرن العشرين في تونس والجزائر وأنّ الغاية منه هي الفهم والإفهام ونشر العلوم لدى عُموم المريدين وعامّة القرّاء
وأما اقتصارُه على باب العبادات دون المعاملات فيُعَلّل بتركيز الشيخ المدنيّ على ما يحتاجه المؤمن من الأحكام الشرعيّة في الحياة اليوميّة لأنّ مبادَلات البيع والشّراء أو الزّواج والطلاق وغيرها من تفاصيل المُعاملات والأحكام الجنائيّة هي مما يَعرض نادرًا للمؤمن، أو هي مما يَكتفي بمعرفته أهلُ الاختصاص ممن تلقّى زادًا كبيرًا وتكوينًا خاصًّا في هذا الحَقل الفقهيّ الدّقيق. وعلى هذا جَرَت كتبُ الفقه، في العصور المتأخّرة، مثل كتب الشيخ مَيّارة، وذلك لحمل الكافّة على الاعتناء بالعبادات وترك بقية الأبواب الدقيقة لأهل التخصص.
ويعدّ هذا القسم الثاني، المخصص لشرح الأحكام الفقهية، القسمَ الأهمَّ من حيث التفصيل وعدد الصفحات، فقد تَطرّق فيه الشيخ إلى كافّة الأحكام الفرعيّة التي تعترض المسلم في حياته التعبديّة، كما في معاملاته الاجتماعيّة والماليّة. وقد ذكر الشيخ هذه المسائل بوضوح وسلاسةٍ. وعادة ما كان يَقسم شروحه حسب الفُروض والسُّنَن والشّروط، فيرتبها ترتيبًا من أولها إلى آخرها لتجيء واضحةً ميسورةً. وقد اعتَمد، في بعض المواضيع، على آراء الشيخ سيدي خليل بن اسحاق المالكي، حلاًّ للإشكال وحسمًا للآراء المختلفة. ومن المعلوم أنّ “مختصر سيدي خليل” يعدّ المرجع الرئيس في المسائل الفقهيّة، وهو يتضمّن رَأي الجمهور والقول المشهور التي استقرّ عليه المذهب المالكيّ.
ولا شك أنّ تَخصيص القسم الثاني للأحكام الفقهيّة دليلٌ قاطعٌ على المكانة المكينة والرتبة الرّفيعة التي تحتلها الشريعة في بناء الطريقة المدنيّة العلويّة، فهي الأساس الذي انبنت عليه معارف الرّوح والأصل الذي شُيِّدَت وَفقَه معارجُ المعرفة. ولا شكَّ أيضا أنّ الشيخيْن، العلاوي والمدني، هدفا كلاهما إلى تَرسيخ الطّريق على أرضية الفقه وعلى مقولاته الشّرعيّة حتى لا يتّهما بتضييع الشرع والانجرار وَراء الشطحات. ولم يكن ذلكَ منهما مجرّدَ شعارٍ، وإنّما هو نهج متكاملٌ، كان الفقه في النقطة من مَركزه والمحلّ الأعلى من سَنَامه، وبهذا لعب هؤلاء الأعلام دورًا كبيرًا في الحفاظ على تراث الفقه المالكيّ، أثناء حقبة الاستعمار، كما في تَيسيره ونشره بين الأتباع، حتى لا تطمس الهويّة، بسبب السياسات التغريبيّة التي هَدَفت وقتَها إلى مَحو هذه الثقافة.
وقد التزم الشيخ المدني بشَرح “ألفية” شيخه وتقيّدَ بما ورد فيها من المعارف والأحكام مضيفًا إليها ما يَجب معرفته من التفاصيل حتى لا يظلّ كلام الشّيخ مُجملاً ولا تبقى فيه شائبة عمومٍ أو غموضٍ، هذا وقد أورد فيه من الفوائد والأحكام والقطعيات عددًا وافيا، مما يَجعَل من هذا النص مرجعًا مهمًّا في الفقه المالكي، ارتأى الشيخ المدني أن يسير فيه على نهج القدماء الذين اهتموا أكثَر ببيان الأحكام، كما وَرَدت عن السابقين ولم يعيروا كبيرَ اهتمامٍ لما طَرَأ على عصره من التغييرات، سائرين في ذلك على قاعدة عامّة مَفادها أن الأحكام الفقهيّة، ولاسيما في مجال العبادات، لا تَتغيّر بتحوّل الأزمان ولا تتجاوزها الحوادث، ولذلك نَجد إطلالات نادرة وإشارات عابرة إلى مَظاهر الجِدّة والحداثة التي شهدتها العقود الأولى من القرن العشرين.
هذا ولم يركّز الشيخ على الأدلّة النصيّة والتشريعية التي تعتمدُ عليها الأحكام ومنها تُستَنبط. ولعلّه لم يرد إثقال كتابه هذا بذكر الأدلة وبيان وجوه دَلالتها على الأحكام إجمالاً أو تفصيلاً. ومع ذلك، فقد أورد الشيخ بَعض الآيات القرآنية والأحاديث النّبويّة التي اعتُمدت في استخراج بعض الأحكام. وليس ثمّة من سبب واضح لعدم التزام خطّ واحدٍ في ذِكْر هذه الأدلّة النّصيّة من عَدمه إلا الرغبة في عدم الإثقال على القارئ وتقديم الأحكام مَيسورةً، دون ذِكر أدلّتها، وهي في الغالب متعارِضة الدلالة وأحيانًا غير قطعيّتِها. ولا ينبغي أن يَغرب على البال أنّ هذا الكتاب موجّه لجمهور القرّاء من الفقراء والمريدين، والغاية منه نشر المعارف الدينيّة وبثّها بين الناس حتى تكون يسيرةً في متناول اليد. وليس بكتابٍ موجَّهٍ إلى أهل الاختصاص.
3. كتاب التصوف
وأمّا كتاب التّصوّف فهو زبدة هذا المُصَنَّف وخلاصته، إذ هو القسم الأخير، وكأنّ الصفحات السّابقة إنّما هي إعداد للمريد وتهيئة له حتّى يغوص في أعماق الأحكام ويستشعرَ حلاوة العبادات. وقد تجوّل الشّيخ محمّد المدني في ثنايا المعرفة الرّوحيّة، وبسط القول في مبادىء التّصوّف ومقاماته الوسطى ونهاياته. فكان هذا الجزء تعريفًا بأهمّ المقامات والمدارج الّتي يتّبعها المريد حتّى يصل إلى معرفة ربّ العالمين.
وهذا ما يؤكّد أنّ الطّريقة المدنيّة العلاويّة هي طريقة المعرفة والوصول، وليست طريقة تبرّكٍ. ولذلك شرح الشّيخ كلّ العقبات والقواطع الّتي قد تقف في وجه السّائر، كما ذكر الأدوية الواجب اتّباعها للقضاء على آفات النّفس وأمراضها، أَكَـانَ السّائر مـريدًا مبتـدئًا أو شيـخًا واصلاً. فالكلّ يستوي في ضرورة التحلّي بآداب المعرفة وتزكية النّفس لإدراك مقام اليقين الأكمل.
وقد تميّز أسلوب الشّيخ محمّد المدني في هذا القسم، – كسابق عهده في سائر الكتابات والرّسائل- باليسر والوضوح معتمدًا على الأدلّة النّقليّة والعقليّة، يستعملها للبرهنة على الأفكار المعروضة، فبلغ كلامُه المدى في الإقناع والإفهام. كما نرى طول بَاعِهِ وتمكّنه من التّراث الصّوفيّ الأصـيل الّذي تركـه كـبار القـوم. فهـدفـه الأساسيّ هـنا التّذكـير بشـرعيّة ما يقوم به أهل الله الذّاكرون.
وهكذا يمكن اعتبار هذا الباب الثالث – على صغر حجمه – دستورًا متكاملًا لآداب السّير إلى الله تعالى. فيه ذكر الشّيخ محمّد المدني كلّ ما يحتاج إليه السّائر إلى حضرة الله، ولم يترك شاردة ولا واردةً تتّصل بعلم القوم إلاّ ذكرها، مستدلاّ عليها بقويّ الآثار وصحيح الأخبار وجميل الأشعار. وبهذا المنهج السّليم ردّ التصوّف إلى حظيرة السنّة النّبويّة المطهّرة. فكان في مطلع القرن العشرين ما كان عليه الإمام الغزالي في القرن الثّاني عشر. فكلاهما ربط التّصوّف بأنوار الشّريعة الطّاهرة وقيّد ما فيه من الرّياضات والآداب بتعاليمها وأحكامها الباهرة.
ولم يقتصر الشّيخ على ما في الرّسالة، بل تجاوزها وتوسّع في شرح معانيها حتّى قدّم إلى الطّالب كلّ ما يحتاج إليه من الأدلّة والمعارف. فهذا الكتاب هديّة من أثمن الهدايا إلى المريدين : فيه دلائل تفاني الشّيخ في خدمة الله الّذي لا يَأْلُ جهدا في التّذكير والإرشاد لعباد الله الذّاكرين، وخدمة شيخه أحمد العلاوي الّذي التزم بشرح كتاباته وحلّ مُغلَقهَا ومُجْمَلِهَا. وهو بهذا المقدار ينبئ عن تفانيه في خدمة شيخه ومريديه في ذات الآن.
وتكمن أصالة الشّيخ محمّد المدني في اعتبار التّصوّف الرّكن الثّالث من أركان الدّين الإسلامي، فلا يقوم تَدَيُّنٌ ولا يستقيم إيمان إلاّ إذا كانا مشيّديْن على هذه الأركان المتكاملة المترابطة. وكلّ ما في هذه الرّسالة إنّما هو تحرير مستفيض وتفصيل ممتع لعلم القلوب، مقام الإحسان، ومرتبة العارفين. فلا شكّ أنّ ما ورد فيه من الوصايا والمبادئ يحتاجه كلّ مسلم ينوي الخروجَ مِن ربقة التّقليد والوصول إلى مدارك الوصل والتّوحيد. وهكذا، يُظهرُ هذا الشّرح أنّ التّصوّف إنّما هو ركن الدّين الرّكين ومعدنه الأصيل، وكأنّ ما في الدّائرتين الأخريين (الإيمان والإسلام) هو تزكية للقلب وتهيئة للرّوح حتّى يشاهد المريد على وجه التّدريج مقامات المعرفة والتّفريد. وذلك لا يكون إلاّ بِجُمْلَةِ آدابٍ يتبعها الفقير مع الحضرة العليّة، ثمّ مع النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، ثمّ مع شيخه ومع سائر المريدين والمؤمنين. وبهذا ضبط الشّيخ محمّد المدني كلّ قواعد الحياة الباطنيّة وبيّن وجه الفضل فيها، فما من خير إلاّ وهو منوط بهذه الآداب الرّفيعة.
وأمّا المحور الثّاني الّذي يتجلّى في هذا الشّرح فهو محور المقامات المتدرّجة. فالمعرفة بالله ثمرة وغاية ودونها مراحل ومدارجُ، ومقاماتٌ ومعارجُ لابدّ من اتّباعها والسّير فيها رويدا رويدا. ولم يكتف الشّيخ بردّ هذه المقامات إلى حضيرة النّصوص القرآنيّة والسنيّة فقط، بل استدلّ بها على ضرورة الانتظام في الطّريق واتّباع شيخ التّربيّة ليصاحبَ المريدَ في هذه المجالات الرّحبة ولا يدعه إلاّ وقد استوى بين يديْ ربّه عارفا. فالمقامات عـند الشّيخ محـمّد المدني كما عنـد غيـره من كـبار أهـل الله- معـارج الرّوح تسـري فـيها مـركبا مركـبًا حتّى يصـل السّائر إلى المراد ويزول عنه الحجاب.
4. سنة التأليف
يقول الشيخ المدني في آخر صفحة من مخطوط رسالته هذه : “وكان الفراغ منه مساء يوم الأربعاء، الرّابع والعشرين من ربيع الأول عام ثمانيّة وثلاثين وثلاثمائة” (الموافق لـ18 ديسمبر 1919). إلا أنّه يذكر غير ما مَرّة (خمس مرات على الأقل) في كتابه “برهان الذاكرين”، الذي فَرَغ من صيغته الأولى سنة 1923، مما يعني أنه فرغ من “الأصول الدينيّة” بعدَ هذا التاريخ، وأنّ ما ذُكرَ في النهاية كان ربما تاريخ الفراغ من الصيغة الأولى.
فهو يقول، على سبيل المثال، : “وقد نظمت سندنا في طريقتنا العلاويّة وضَمَمْتُه في رسالتنا المسماة برهان الذاكرين”، فهل هي جملة أضافها بعد المراجعة بسنواتٍ؟
والراجح أنّ هذا التأليف مرّ بمَرحلتين :
۞ الأولى وهي الشرح الكامل للقصيدة الألفية ولا شك في أنها كتبت كما هو مذكور في نِهاية الكتاب سنة 1919. بل إننا نظنّ، ولكن لا دليل على ذلك، أن التّشاور حول شرح هذه الأبيات حصل أثناء زيارة الشيخ العلاوي إلى تونس سنة 1918 وأنه دار الحديث بشأنها وتلقّى في ذلك الحين الإذنَ، فَشَرَع فيها بعد عودة أستاذه العلاوي، وكان ذلك في حدود سنة 1919.
۞ وأما المقدمة التي صدّر بها هذه الرسالة والتي تتضمن نبذة عن حياة الشيخ العلاوي فليس ثمة أدنى شكّ في أنه أضافها إضافة بعد أن دوّنهَا سنة 1923، تاريخ كتابة “برهان الذاكرين”، الذي يشير إليه ولعله لخّصها مما كَتَبَه هناكَ وأضافها إثرَ تبييض النسخة ومُراجعتها. وعلى كلٍّ، هما وَرَقَتان فَحسب أدمجتا لإكمال الرسالة كما أضاف جملة “وإني قد ذكرتُ جملةً كاملة في رسالتنا المسماة : برهان الذاكرين”، فلا شك أنها أضيفت بعد.
وفي الكتاب إشارة أخرى تؤكّد أنّ “هَديّة الإخوان”، التي صاغها الشيخ في 250 بيتًا، كُتبت قبل شَرح الرّسالة العلاويّة، لأنّه ضَمّن في قسم زيارة النبيء، عليه الصلاة والسلام، أبياتًا قد كان قد سَاقَها في مَتن هديّة الإخوان، واستَشهد بها، ممّا يرجح أنّ الشَّرحَ كتب خلال السنوات الأولى من عشرينيات القرن العشرين، أي بين سَنَتَيْ 1920 و1923 تقريبًا.
5. منهَج الشَّرح وأغراضه
كان الشيخ المدني يُدمجُ طَيَّ الشَّرح إشاراتٍ إلى وقائع حَصَلت مع ناظم القصيدة الألفية، الشَّيخ أحمد العلاوي وإلى ما كان يُذاكر به في مجالسه ويَتَعامل به مع الفقراء والمريدين، وهو ما يجعل تلك الإشارات توثيقًا تاريخيًّا نفيسًا لمَنهج أستاذه في التربية والإرشاد وطريقته في التعامل مع الزائرين في أوقات العافية والمَرض، وخاصّةً في القسم الثالث، قسم التصوف. فكان يدمج هذه الإشارات بقوله : “رَأينا من شَيْخِنا أو ” قال شَيخُنا…”
وأما غرض الكتاب الأصليّ فتفصيلُ مَا وَرَدَ مُجمَلاً في المَنظومَة العلاويّة الجامعة للضَّروري مِن عُلوم الدّين. ولمَّا كانت عبارة الشيخ العلاوي مُختَصَرَةً، سَعَى الشارحُ إلَى تَبيينها وتفصيلها حتّى تكونَ المعارفُ المنطويةُ عليهَا جَلِيَّةً مستقصاةً. ولم يقتصر َ الشيخ المدني على الشرح، بل تعدّاه إلى تأصيل المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلاَميِّة. فلم تكن الرسالةُ مُجَرَّدَ تفسيرٍ ظاهريٍّ لقواعدها، بل هي أشبهُ ببَيَانٍ وافٍ يسترجعُ أصولَ المَسَائِل ويُجَلِّيهَا ويستعرضُ فضائلَ الأعمال وينبّهُ عليها.
ولكنَّ غايةَ الغَايات التي يَصبو هذا الكتاب إلى تحقيقها هي التذكير بالقاعدة العامة في علم التوحيد وهي أنَّ أساس الإيمانِ باللهِ ومَعْرِفَتِه هو القلب، أي الذوق الباطنيّ أو الاستشعار الداخليّ الذي به تُدْرَكُ الصفاتُ وبها يؤمنُ ويُصَدَّق. فالحديث هنا عن صفات الله ليسَ حديثَ الفلاسفة والمتكلّمين، التائهين في مُشَاحَّات الاصطلاح ومنازعات البَرهَنَةِ، بل حديثَ الذائق المُسَلِّم إلى الله بالربوبية، المُقِرّ له بالوحدانية، العَارف بعجز العقول البشريَّة عن إدراك حقيقة الذات الأَحَديَّة، السَّاجِد أمامَ عَظَمَة الصفات وعليّ الأسماءِ. ونظريَّتُه هنَا أنَّ العقائدَ من الأمور الغيبيَّة التي يجب الإيمانُ بهَا تسليمًا، لأنَّ الاختبارَ واردٌ فيها، ثمَّ لأنَّ عقولَ البشر، وإن تطاولت منها الأفهام، لنْ تدركَ تلك الحقائق العَالية، فضلاً عن أن تقيمَ عليها الدليلَ العقليَّ أو أن تثبتها بأدواتٍ هي في طبيعتها قَاصِرَة.
ولمَّا كانت غاية هذا التفسير أيضا تَربيَّة الأرواح وتهذيب القلوب، أودَعَه الشيخ المدني الكثيرَ مِنَ الحكم والمأثورات حتّى يجتنيَ القارئ في ثَنَايَا الكلام لطائفَ المعاني وعَذبَ الحِكَم البالغة فيجمعَ بذلكَ أنوار المعرفة ورقائق الأفهامِ. وللعلم فإنَّ هذا الشرحَ قد احتوى على أبياتٍ للشيخ المدنيِّ لا توجدُ في الديوان ولم تُنشَرْ من قبل. فغالبًا مَا ينطلق الشارحُ من الأفكار الجزئيَّة ليَصلَ إلى التعريف بالقضايا الكلّيَّة والتعريفات العامَّة التي تَخُصُّ الدينَ الإسلاميَّ في كُلِّيَتِه. فَهوَ يَضع لنا هذا التعريفَ الجامعَ المانعَ حول مفهوم الإسلام : “وَفي الحقيقة، إنَّ جميعَ قواعدِ الإسلام نتيجةُ الاعترَافِ بالمَعبود، وثَمرَةُ الانقياد للمنفرد بالوجود، فَظَاهرُهَا إسْلاَمٌ وبَاطنها استسلام”.
خاتمة
“الأصول الدينيّة” مَرجعٌ كليّ، ضَمَّنَه الشيخ المدني كلَّ التّفاصيل والأحكام الفقهيّة والإيمانيّة والإحسانية الضروريّة لسَير المريد في طريق الله على بَصيرة. وفيها كلّ المعارف اللازمة التي تقارن أعمالَ الجوارح والقلوب وتتّصل بالأساسيّ من عُلوم الدّين حتّى لا يُعبَد الله ولا يُتَقَرّب إليه دون فهم ولا إدراك. ولَعَلّه أراد لكتابه هذا أن يكونَ مَرجع المُريدين في السّير إلى الله، يأوون إليه في كلّ ما يَحتاجون إليه، مع التعبير عنه بِلسانٍ واضحٍ وكلماتٍ مَيسورة ونَظْمٍ جليّ، بعيدًا عن تعقيدات الفقهاء وخلافيّاتهم. وحَريّ بهذا الشرح الشامل أن يسير بين الناس اليوم وأن يُعتَمَد على ما فيه من الأحكام في ثقةٍ بالنظر إلى ما كان عليه صاحب المَتن الشِّعْريّ (الشيخ العلاوي) وكاتِب الشَّرح المنثور من العِلم والصَّلاح.
فهذا الشرح الجامع حقيقٌ بالحِفْظ والاستقراء لأنَّ فيه حقائق التوحيد منظومةٌ جَلِيَّة، ومعالمَ الإسلام الثابتَة مشيّدةٌ على الهدى. وهو بيانٌ يذكّر المسلمينَ عامّةً أصولَ الدينِ وما به يَكتمل الإيمان، ويتنوّر القَلبُ والجَنانُ فيرتقي العارف في مقامات الإحْسَان.
ولئن كان شرح “الرّسالة العلاوية”، في الأصل، علامة مَبَرَّة عبَّر عنها مُريدٌ لشيخه، فإنّه صار بفضل الجهود التي بُذلت فيه مَصدرًا من مصادر الفكر الدينيّ، أو هذا ما يَجب أن يَرتقيَ إليه، لتضمّنه كلّ القواعد الإيمانيّة والشرعيّة والروحيّة التي على طالب العلمِ أن يَطّلع عليها زادًا يؤول إليه في مسائل العبادات والعقائد ومَقامات التزكية القلبية. وقد كانت عبارة الشيخ المدني في هذا الشرح ميسورةً سَهلةَ المأخذ، مُبينةً لما استَقَرّ عليه جمهور عُلماء السنَّة، طيلةَ العصور الماضية، مُحلاةً بذكر فوائد تغذّي القلب الظمآن لحقائق الإيمان وتقنع العقلَ المُتَشوّف للتماسك البرهانيّ.
ونَأمل من خلال هذه الطّبعة الجَديدة (الرقميّة والورقيّة) أن تُتيحَ لطلاّب العِلم، في العالَم الإسلامي قاطبةً، مَرجعًا مهمًّا، يُعتمد في معرفة المنهج المالكيّ- الأشعري- الجنيديّ، ويَستَند عليه في خوض ميادين الرّوح والقلب وأن تزوّدَهم بمدونة متكاملة تُغني عن الأسفار المُطوّلة وتَحُثّهُم على مزيد التعمّق في مسائل الأركان الثلاثة (الإسلام والإيمان والإحسان)، وهذه غاية الغايات ومَطمح جِياد العقول التي من أجلها صيغ هذا الشرح. ويحقّ لكل سالكٍ أن يقرأَ هذا الكتابَ بتمعُّنٍ وبصيرة فَيغنيه عن كبير المجلَّدَات ومُعقَّد الكتب والصفحات لأنّه احتوى على أمّهات هذا الفنّ بأسلوب عذب ومَنهج سلسٍ. وفي هذا الفن الرفيع تُغني اللمحة الخاطفة والإشارة الفائقة عن الإطناب.
أبَرَّ الشيخ المدني في هذا الشَّرح بشَيخِه، فَأحسَن المَبَرَّة وأوسَعَ الإرضاء.
ن المدني.
07-05-2023 مونتيني.