مَنارَاتُ الجَمَال بِمَوْلِد سَيِّدِ الرِّجال (1).
لا يَقولُ أحدٌ مِن العُلَمَاءِ بِأنَّ المَوْلِدَ النَّبَويَّ عيدٌ شرعيٌّ، يُضاهِي العِيدَيْنِ الشَّرعِيَيْنِ: الفِطْر والأضحى. وإنَّما اعتبروهُ “عيدًا” بالمَعنى الأصليِّ للكلمة الذي فَسَّرَهُ ابنُ الأعْرَابِيِّ : “سُمِّيَ العيدُ عِيدًا لأنَّه يَعودُ كُلَّ سَنَةٍ بِفَرَحٍ مُجَدَّدٍ”.
وأسْعَدُ الأفْراح مَا كانَ بِرَسولِ الله مُتَجَدِّدًا، ولِمَحَبَّتِهِ مُتَعَهِّدًا، ولِذاتِهِ المُحَمَّديَّة الشَّريفَةِ مُمَجِّدًا. فَرَسولُ الله عيدُ العَاشقَينَ الذي لا يَنْقَضي، وسِرُّ سُرورِهِمِ الذي يَرتَضي…
مَنارَاتُ الجَمَال بِمَوْلِد سَيِّدِ الرِّجال (2).
وحَقيقَةُ الاحْتِفالِ بِالمَوْلِد النَّبَويِّ إنَّمَا هوَ تَعظيمٌ لِمِقْدار رَسولِ الله العَالِي، وتَفْخيمٌ لِجنَابِهِ الغَالي.
وإجْلالُ المَقام المُحَمَّدِيِّ إنَّما هوَ مَسْلَكٌ قُرآنِيٌّ رَبَّانيٌّ، فِي آياتِ الفُرقانِ دَلاَئِلُهُ: فَقَدْ أمَرَ اللهَ تَعالَى بِالصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَيْهِ، ونَهَى عَن التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ودَعَا لِغضِّ الأصواتِ عندَ السعيِ إلَيْهِ، وَكُلُّ أولئكَ رَفْعٌ لِذِكْرِهِ الأسْنَى، وإعْلاءٌ لِشَأْنِهِ الأزْكَى.
وَأجلُّ مَظاهر تَوقِير الجَنابِ المُحَمَّدِي، السرورُ بِيَوم مَقْدَمِه والاحْتفاء، وصدِقُ اتِّبَاعِ سِيرَتِهِ والاقْتِدَاء، اعتِنَاءً بِنَفَائِسِ الآثار، وإكْبَارًا لشَمائِلِ المُخْتَار.
فَأعظمُ مَنْ عَظَّمَ مَقامَ رَسولِ اللهِ إنَّما هو الله، وأكبرُ مَنْ أكْبَرَ شَمائِلَه، هو بارئُهُ ومولاهُ، فَجَلَّ مَن سَوَّاه.
مَنارَاتُ الجَمَال بِمَوْلِد سَيِّدِ الرِّجال (3).
وجُمْلَةُ مَا يَأْتِيهِ المُسلمونَ، احْتِفالاً بِمَولِد الهادي، صلَّى الله عَليه وَسَلَّم، لا يَخْرُجُ عَن تِلاوةِ الذِّكْرِ الحَكيم، واسْتِحْضارِ سِيرَة النَّبِي الكَريم، وإنْشادِ المَدائِح الرَّائِقَة، فِي وَصْفِ الشَّمائِلِ المُحَمَّديَّةِ الفائِقَة، ومُهُادَاة آلِ بَيْتِهِ الأطْهار، وإكْرامِ عامَّة المُسلِمين الأخْيار…
فَهَل فِي هذه الصَّالحاتِ المُنْبَعثة مِن مَعِينِ المَحَبَّة لِرَسول الله مَالا يَجوز؟
بل حَقيقٌ بِذِكْرى سَيِّدِ السَّاداتِ أن تُقْرَنَ بِالبِرِّ والقُرُبات، وتُتَوَّجَ بجَليلِ الأعْمالِ والمَكْرُمات…
مَنارَاتُ الجَمَال بِمَوْلِد سَيِّدِ الرِّجال (4).
سُئِلَ رَسولُ اللهِ، صَلّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّم، عَن صَوْم يَومِ الاثْنَين فأجَابَ:
“ذلكَ يَومٌ وُلِدْتُ فيهِ، ويَومَ بُعِثتُ، وفيهِ أُنْزِلَ عَليَّ” (رَواه مسلم).
فَعَــلَّــلَ رسولُ الله صيامَ الاثنَينِ بِأنَّهُ:
1. حَمدٌ للهِ تَعالى على إرْسالِه رَحْمةً للبشريَّة، مُتَنَزِّلاً مِن غُيوبِ الإرادَة الرَبَّانِيَّة…
2. شكرٌ لله تعالَى عَلى تَجميلِهِ بالهَدْيِ القَويم وإمدادِهِ بالكلام القَديم.
3. ثناءٌ على اللهِ تَعالى لِمَا أجْرَى عَلى يَدَيْهِ مِن أنْوار الهدايَة، ولَطائِفِ الرِّعَاية.
وكأنَّ يومَ مَولِدِهِ وَاسطة هذهِ النِّعَمِ التي لا تُحْصَى، فَصامَ للهِ قيامًا بحقوق الشكرِ لمولاهُ. وهو سَيِّدُ الحامدينَ.
ونحنُ نَقتدي بِهَدْيِ رَسول الله، عليه الصَّلاة والسلام، في شُكرِهِ لبارئِهِ، واحتفاؤنَا بِمَولِدهِ حمدٌ خالصٌ لِله تَعالى على إظهار الدُرَّةِ المُحَمَّدِيَّة.
مَنارَاتُ الجَمَال بِمَوْلِد سَيِّدِ الرِّجال (5).
“مِمَّا جُرِّبَ مِن بَرَكَةِ رَسولِ اللهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ، أنَّ الاحْتِفالَ – يَومَ مَوْلِدِهِ- أمانٌ في ذلكَ العَامِ، وبُشْرَى لِمَن فَعَلَهُ بِنَيْلِ المَرامِ”. (ذَكَرَهُ الشيخُ الطاهر بن عاشور، قِصَّة المَوْلِدِ، ص. 12، طبعة 1972).
فَــبِــبَرَكَة رَسولِ الله اطمَأَنَّتِ الأكوانُ، وبِآثارهِ تَنَوَّرَتِ الأعْيانُ والأذهانُ:
فَذِكْراهُ العَطِرَة، عَليهِ الصلاة والسَّلام، أمانٌ للقلوبِ مِن ظُلُماتِ الغَفْلَة والنِّسيان…
ومَحَبَّتُهُ جَبْرٌ للأفْئِدَة من آلامِ البِعادِ وَسلامٌ لها على مَرِّ الأزْمان..
وذِكْرُهُ نَسيمٌ يَهُبُّ عَلَى الأرْواح فَيَجْلِبُ آلاءَ الرَّحْمن…
واستذكارُ شَمَائِلِه الفاخِرَة بُشرى بِنَيل الرَّضا مِن الله والرِّضوان…
وتِذكْارُ الحَبيبِ يَقي من غَضَبِ الدَّيَان: “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ” (الأنفال: 33 ). فَهو أصْلُ الأمْنِ والأمَان، ومَنْبَعُ الحَقِّ والإيقان…
مَنارَاتُ الجَمَال بِمَوْلِد سَيِّدِ الرِّجال (6).
لا يدلُّ تَركُ رسولِ الله، عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ، لِعَمَلِ المَولِدِ عَلَى كَرَاهَتِهِ أَبَدًا. بَل في ذلكَ التَّرْكِ تَوسِعَةٌ عَلى العِباد، وإفساحٌ لِعلمَاء الأمَّةِ حَتَّى يَرِدُوا مَناهِلَ الاجْتِهاد، ويُسابِقوا في مَيادين الفقهِ الجِياد. وهذه أمثلةٌ عن أمورٍ تَرَكَها الرسولُ مَع أنَّهُ الأعْلمُ بِلطائف الرَّشَادِ:
1- جَمْعُ سُورِ القُرآنِ وتَدوينُها في مُصْحَفٍ واحِد.
2- تحريرُ تَفسيرٍ كاملٍ للقُرآن الكريم.
3- اتِّخاذُ المَآذِن والمَحاريب في المَساجدِ.
4- تَدريسُ النَّحو والبَلاغَةِ وهما عِمادا فَهْمِ القُرآن الكريمِ.
5- إقامة صَلاةِ التَّراويح جَماعَةً.
6- تَأليف الكُتبِ للرَدِّ عَلى الجاحد المعاندِ.
7- البَرهَنَةُ العَقليَّةُ عَلَى ما في الدين من العَقائِدِ.
8- اتخاذ المرافق العامة كالمُستَشفيَات والمدارس والمعاهد.
9- استِعمالُ التَّقويم الهجريِّ.
10-تَعيين الخلفاء وبيان نُظُم الحُكْم.
والأمثلةُ لا تُحْصى، أقرَّهَا سَلَفُ الأمَّة وعلماؤها الأماجِد، الذين ألْهَمَ اللهُ قلوبَهم الرَّشَادِ، وهَداهُم سبلَ الخيرِ والسَّدَاد. والاحْتِفاءُ بِالمَولِد وإنْ تَركَهُ رَسُولُ الهُدَى، لَهو من مَسالِكِ الفلاحِ ويَنابِيع الإمداد…