بـسم الله الرحـمان الرحيـم
اللهم صلّ وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد الذي أعطاه الله من الفضل أعلاه, ومن العزّ أوفاه , ومن الجاه أرقاه.
موسم الإتجار مع الله
قال الله تعالى في الذكر الحكيم وهو أصدق القائلين: يَاأَيُّها الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. صدق الله العظيم
هذا نداء من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين خاصّة. ويشتمل على حرف يا وهو حرف نداء وهو نداء من الحبيب إلى الحبيب , وأيها تنبيهٌ من الحبيب إلى الحبيب وآمنوا شهادة من الحبيب إلى الحبيب.
قال سيدنا الحسن إذا سمعت الله يقول يَا أيّهَا الذين آمنوُا فارفع لها سمعك فإنه لأمر تؤمر به أو لنهي تُنهى عنه . وقال سيدنا جعفر الصادق . لذّةٌ في النّداء أزال بِها تعب العبادة والعناء . ويشير هذا النّداء إلى أن الله تعالى فرض الصّيام على المؤمنين بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما فرض على الأنبياء وأممهم من لدن آدم عليه السلام إلى الأمة المحمّدية .
وأن الله سبحانه تعالى أمرنا بصيام شهر كامل ليوافق عدد السنة في الأجر الموعود بقوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فالشهر الكاملُ ثلاث مائة , وستّةُ أيامِ شوال , ستون يومًا فإن نقص يوم من عدد الشهر لَمْ ينقص من الثواب . وقد كان النبىءُ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُ أصحابه بقدوم رمضان ويقول : قدْ جاءكُم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السّماء وتغلق فيه أباب الجحيم وتغلُّ فيه الشياطين وفيه ليلةٌ خير من ألف شهر من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ. قال بعض العلماء هذا الحديث أصل في تَهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان . قال السخاوي في المقاصد الحسنة . التهنئة بالشهور والأعياد ممّا اعتاده الناسُ . جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما . رفعه منْ لَقِيَ أخاهُ عند الإنصراف من الجمعة فليقل تقبل الله منا ومنك . وجاء عن النبىء صلى الله عليه وسلم أنه قال حكايةً عن ربّه تعالى : كلُ عمل ابن آدم له إلا الصّوم إنه لي وأنا أجزي به . لأن الصَّومَ سرٌّ ليس فيه عمل يشاهَدُ له بخلاف سائر الطّاعات ولأنَّهُ سِرٌّ لا يراه أحد إلا الله تعالى فالتزم جزاءَهُ, ولذا رُوِيَ عن النبىء صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا كان يوم القيامة يجيءُ قوم لهم أجنحة كأجنحة الطير فيطيرون بها على حيطان الجنة , فيقول لهم خازن الجنة من أنتم؟ فيقولون نحن من أمة محمد عليه الصلاة والسلام فيقول هل رأيتم الحساب ؟ فيقولون لا , ثمَّ يقولُ ثانيا هل رأيتم الصراط؟ فيقولون لا, ثمّ يقول بم وجدتم هذه الدرجات ؟ فيقولون عبدنا الله سرًّا في دار الدنيا وأدخلنا الجنة سرًّا في الآخرة .
وصيام شهر رمضان من خصائص الأمة المحمدية , أكرمها الله به ورتب على ذلك الثواب الذي لا يحصى , والخير الذي لا يستقصى . قال النبىء صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى خلق ملكا له أربعة أوجه , من وجهٍ إلى وجهٍ مسيرة ألف سنة . فبوجه يسجد لله إلى يوم القيامة يقول في سجوده سبحانك ما أعظم جمالك . وبوجه ينظر إلى جهنم ويقول الويل لمن دخلها , وبوجه ينظر إلى الجنان ويقول طوبى لمن دخلها , وبوجه ينظر إلى إلى عرش الرحمان. ويقول ربّ ارحم ولا تعذب صائمي رمضان من أمة محمد عليه الصلاة والسلام . يقول العلماء الصوم ثلاث درجات , صوم العوام, وصوم الخواص, وصوم خواص الخواص.
فأمّا صوم العوام فكف البطن والفرج عن قضاء الشهوة , وأما صوم الخواص فهو صوم الصالحين؛ وهو كف الجوارح عن الآثام . فلا يتم ذلك إلا بمداومة خمسة أشياء .
الأول : غضّ البصر عن كل ما يذمّ شرعًا.
الثاني : حفظ اللسان عن الغيبة والكذب والنميمة واليمين الغموس. جاء عن أنس عن النبىء صلى الله عليه وسلم أنه قال : خمسة أشياء تحبط الصوم أي تبطل ثوابه . الكذب والغيبة والنميمة واليمين الغموس والنظر بشهوة.
الثالث : كف الأذن عن استماع كل مكروه.
الرابع : كف جميع الأعضاء عن المكاره وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار إذْ لا معنى للصوم عن الطعام الحلال ثم الإفطار عن الحرام فمثله كمن بنى قصرًا وهدم مصرًا. قال عليه الصلاة والسلام : كم من صائم ليس من صيامه إلا الجوع والعطش.
الخامس : أن لا يستكثر من الحلال وقت الإفطار بحيث يملأُ بطنه .
وأما صوم خواص الخواص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية , وكفه عمّا سوى الله بالكلية.
وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا كان آخر ليلة من رمضان بكت السماوات والأرض والملائكة لمصيبة أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قيل يا رسول الله أي مصيبة هيّ ؟ قال عليه الصلاة والسلام ذهاب رمضان فإن الدعوات فيه مستجابة والصدقات مقبولة والحسنات مضاعفة والعذاب مدفوع –إنتهى- فأي مصيبة أعظم من ذهاب رمضان . فإذا بكَت السماوات والأرض لأجلنا فنحن أحق بالبكاء والتأسف لما ينقطع عنّا من هذه الفضائل والكرامات.
جرت العادة أن التجار ينتظرون مواسم التجارة فإذا جاءت تلك المواسم شَمّروا على ساعد الجد في أعمال التجارة واستحضروا من الأصناف أجودها وأعلاها , واختاروا من الألوان أجملها وأحسنها يسوقهم إلى ذلك رجاء الربح. فها هو موسم الإتجار مع الله قد أقبل فلنسارع إلى العبادات والصدقات , وعمل البر والحسنات لنحظى بالربح الوفير الذي ليس له حصر ولا تقدير , قال رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يطعم أخاه حتّى يُشْبِعُهُ ويسقيه حتى يرويه إلاّ أبعده الله تعالى من النار وجعل بينه وبينها سبعة خنادق بين كل خندقين خمسمائة عام ونادت جهنّم يا ربِّ إئذنْ لي بالسجود شكرًا لك فقد أردتَ أن تعتق أحدًا من أُمّةِ محمد من عذابي لأني كنت أستحي من محمد أن أعذِّبَ المُتَصَدِّقَ من أمّته فلا بدّ لي من طاعتك . ثم أمر الله تعالى ليدخل الجنة المتصدق بلقمة خبز أو بقبضة تمر . وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : لمّا خلق الله تعالى الأرض وتحرّكت, خلق الجبال فوضعها فاستقرت فتعجب الملائكة وقالوا يا ربِّ هل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم, الحديد , فقالوا يا ربّ هل من خلِقكَ شيء اشد من الحديد ؟ قال نعم النار, فقالوا يا ربّ هل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال نعم الماء , فقالوا يا ربّ هل من خلِقكَ شيء اشد من الماء ؟ قال نعم الريح. فقالوا يا ربّ هل من خلِقكَ شيء اشد من الريح؟ قال نعم ابن آدم يتصدق صدقة بيمينه يخفيها عن شماله فهوَ أشدُّ منه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الضيف فقد أكرمني , ومن أكرمني فقد أكرم الله تعالى , ومن أبغض الضيف فقد أبغضني , ومن أبغضني فقد أبغض الله تعالى. وقال النبيء صلى الله عليه وسلم إنّ الضيف إذا دخل بيت المؤمن دخل معه ألف بركة وألف رحمة , وقال عليه الصلاة والسلام ما من أحد يأتيه الضيف فيكرمه بما وجد من الطعام إلاّ فتح الله تعالى له بابًا في الجنة . ومن عمّر خرابا يعني أشبع جائعًا وجبت له الجنة . ومن منع الطّعام عن الجائع منع الله تعالى فضله عنهُ يوم القيامة وعذّبه بالنار. ومن أطعم جائعا لوجه الله وجبت له الجنة.
وفي يوم من الأيّام خرج سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يبيع إزار فاطمة رضي الله عنها ليأكلوا بثمنه فباعه بستة دراهم فرآه سائل فأعطاه إياها فجاءه جبريل في صورة أعرابيّ ومعه ناقة فقال يا أبا الحسن إشتري هذه الناقة , فقال ما معي ثمنها . قال إلى أجل فاشتراها منه بمائة ثم تعرض له ميكائيل في طريقه فقال أتبيع هذه الناقة ؟ قال نعم واشتريتها بمائة قال ولك من الربح ستون فباعها له , فتعرض له جبريل , فقال بعت الناقة ؟ قال إدفع لي ديني فدفع له دينه مائة ورجع بستين فقالت له فاطمة من أين لك هذا ؟ قال تاجرت مع الله تعالى بستة دراهم فأعطاني ستين . ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال البائع جبريل والمشتري ميكائيل والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة .
وقال عليه الصلاة والسلام إن الصدقة تقع بيد الله قبل أن تقع بيد السّائل فيربيها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ والفلوّ الفصيل وهو ولد الناقة.
وأختم هذه العجالة بذكر قصّةٍ أكرم الله فيها ذا النّورين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه لكرمه وحسن معاملته لآل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم.
رأى سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه , درْعَ عليٍّ يباعُ بأربعمائة درهم ليلة عرسه على فاطمة الزهراء رضي الله عنها , فقال عثمان هذا درع فارس الإسلام عليّ . لا يباع أبدًا فدفع لغلام عليّ اربعمائة درهم وأقسم عليه أن يخبره بذلك وردّ الدّرع معه, فلمّا أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس في كل كيس أربعمائة درهم مكتوب على كل درهم هذا ضرب الرحمان لعثمان بن عفان . فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال هنيئا لك يا عثمان.
والضّرب : هو السكة التي يتعامل بها الناس.
وفي هذا القدر كفاية, والله يتولانا وإياكم بعين الرعاية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المراجع : تفسير روح البيان ج2 ص269 و291 و295
كتاب دار الناصحين ص11 و12 و24 و26
كتاب نزهة المجالس ج2 ص233 و235
كتاب الحاوي للفتاوي ج2 ص34