هذا شرّح لطيفُ لدعاءٍ نبويّ شريف جاد به علينا سيدي الشيخ محمّد المنور المدني، نفعنا الله وإياكم ببركة دعاء المصطفى، صلَّى الله عليه وسلّمَ.
والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى صَفوَة المُحبِّينَ، وإمَامِ العَاشقينَ، قُدوة الأبرار المقرَّبين، والشَّفيع في يوم الدّين، وعلى آله
المطهّرين، والصحابة أجمعينَ.
جَاء في سُنن الترمذيِّ، عَن أَبي الدرداء، رَضيَ الله عنه، قال رسول الله، صلَّى الله عليه وسلّمَ:
كانَ من دعاء دَاوودَ، صلَّى الله عليه وسلّمَ: “اللهمَّ إنِّي أسألكَ حبَّكَ، وحبَّ مَن يُحبَّكَ، والعَمَلَ الذي يُبلّغنِي حبكَ. اللهمَّ اجعَلْ حبّكَ أحبَّ إليَّ مِن نَفسي وَأهلِي ومِنَ المَاء البَارد”.
وردَ هذا الكلام بصيغة الإخبارِ، من رسول الله، صلَّى الله عليه وسلّمَ، بدعاءٍ أجراه الله، تَعالَى، عَلَى لسان سيدنا دَاوود، عَلَيه السلام، يَدعوَ به ربّه ويتقرّب به إليه. وقد صَدَرَ هذا الإخبار عن النبيّ، صلَّى الله عليه وسلّمَ، بوَحْيٍ مِنَ الله الذي أعلمه به وعَلَّمه إيَّاه. وهذا الكلام تَعليمٌ ربَّانيٌّ، يَندرج ضمن الوحي غير المَقروء، الذي لم يُثبَت في جملة القرآن المحفوظ. وَرَغمَ أنَّ مرتَبَتَه دونَ كلام الله إعجازًا ونظمًا، فإنَّه يُعَدُّ من الوحي والتعليم الربَّاني، كَما جاء في الآية الكريمة: “وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُن تَعلمُ”.
وأما مَوضوع هَذَا العِلم فَهو دعاءٌ، أَلهَمَه الله تعالى نبيَّه داوودَ عليه السلام. والظاهر أنَّ الصَّيغَةَ من وضع النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلّمَ، لأنَّ سيَدَنَا داوودَ لا يتكلم العَرَبيّة، وفيهَا نُلاحظُ دلائلَ البَلاَغَة النبويّة العالية.
وَأمّا مَضمون الدّعاء الذي بَلَّغَه النبيُّ، صَلَّى الله عليه وسلّمَ، إلى أصحابه وإلَى مَن جَاء بَعدهم من سائر الأمَّة المحمّدية، فَهو التضرّع لنيل حبّ الله، والحبّ في الله والحبّ بالله، وكلٌّ مقامٌ مختلف عزيزٌ. فَقد جاَءَ فيه: “اللهم إنّي أسألكَ حبّكَ”. فأوّلُ ما يطلبه النبيّ، صَلَّى الله عليه وسلّمَ، أن يَهديَه اللهُ ويوفَّقَه إلى مَحبة الله، لأنّ حبَّ الله لا يكون إلا بتوفيقٍ من الله وإرشادٍ منه، وتوجيهٍ ربّاني للقلوب الكائنة “بينَ أصابع الرحمان”، فَهو الذي يُميلهَا إليه.
وفي الحقيقة لا يمكن لأحَدٍ أن يحبَّ الله إلا إذا سَبَقَت له من الله المحبّة الله، مصداقًا لقوله، تعالى، في سورة المائدة، الآية 54″ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.” فَإذا شَعَر الإنسان بمحبة الله تعالى تجيشُ في قلبه، وتفيضُ عليه بالأسرار، فَليَبشرْ لأنَّ الله تعالى هو الذي أكرمه بها.
وبعد ذلكَ عُطفَتْ الجملةُ بالواو وهي تفيد هنا الترتيب الرتبي، لأنّ ما يَكون بعد حب الله هو حبّ أهل الله من خاصة المسلمين الذين يُحبونَ اللهَ، ولا عَجَبَ أن يسأل النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلّمَ، حبَّ مَن يحبُّ اللهَ، وقد أثنى الله عليه في قوله تعالى: “يُحبّهم ويحبّونه”، وفي الحديث القدسي: “وَجَبَت محبتي للمتحابّين فِيّ”. فموضوع الطلب أن يكون القلب عامرًا بمحبَّة كلِّ مَن اشتغل بمحبة الله، فحبُّ المحبين عبادة وقربى وطهارةٌ للروح وتزكية لها، ولذلك طلبَهَا النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلّمَ، ولأنّها أيضًا تقتضي التواضع لَهم وخدمتهم وتعظيمهم. فكأنَّ مَحبتَهُم جامعةٌ لكلِّ أَخلاقِ الخَير والمودَّة والتآخي، ولأنها أيضًا محبَّة خَالصةٌ لوجه الله لا يُرادُ من ورائها جزاءٌ ولا شكورٌ. وهذا مصداق قوله، صلَّى الله عليه وسلّمَ :”ثلاث من كنَّ فيه ذَاقَ حَلاوَةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممن سواهما، وأن يحبَّ المَرءَ لا يحبّه إلا لله…”.
ثم يَطلب المصطفى، صلَّى الله عليه وسلّمَ، من الله أن يعطف قلبَه الشريف على كل عملٍ يُبلّغ -أي يوصل- إلى محبة الله وهذا أيضًا من لطائف الإشارات لأنَّ شأنَ المَحَبّة الصادقة أن يتبعها عملٌ صالح يجسدّها ويؤكّدها وإلا صارت دعوًى بلا برهان، وصورةً بلا مضمون كما قال الشاعر الحكيم:
تعصى الإله وأنت تُظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إنَّ المحب لمن يحب مطيعُ
هذا وتذكّر هذه العبارة النبوية الجامعة بمفهوم التقوى “وَحاصلها امتثالٌ واجتنابٌ” كما قال علماء المالكيّة، أي طاعةٌ لله فيما يُحبّ من الأعمال الجالبة لرضاه، وابتعادٌ عن كلّ عملٍ، يُغضبُه ويبعد عنه. وفيها أيضا إشارةٌ ألطف وهي أنّ هناك من الأعمال ما يوصل إلى حبّ الله ومنها ما يُوصِلُ إلى ثوابه، وإن كان الفرق لطيفًا، فسأل النبي، صلَّى الله عليه وسلّمَ، أن يرشده الله تعالى إلى تلك الأعمال التي بها يحصل حبّ الله وهيَ مَرتَبَة أعلى من أن يعمل الإنسان لمجرد عدّ الحسناتِ وإن كان ذلكَ طيباً. وله نظيرٌ فيما جاء في الحديث القدسي : “مازال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل فأحبّه، فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به….”
وفي القسم الثاني من الحديث يبتهل المصطفى، صلَّى الله عليه وسلّمَ، إلى خالقه أن يكون حبُّ الله في قلبه أعظم من “حبّ نفسه وأهله والمَاء البارد”. وفي هذا الكلام طلبٌ وضراعةٌ أن يكون الله أحبَّ إليه من نفسه التي بَينَ جَنبَيه ومن أهله ووَلَدِه ومن “المَاء البَارد” وهي كنايةٌ عن كلّ ملذّات الدنيا لأنَّ الماءَ الباردَ في الصحراء الحارَّة كان يُعَدُّ من علامات التَّرَفِ والنَّعيم.
وخلاصةُ هذا الدعاء أنَّ همّةَ الكاملين من الأنبياء والصَّالحينَ، وعلى رأسهم تاجهم وأميرُهم، صلَّى الله عليه وسلّمَ، متَّجهَة إلى محبّة الله فقط، مستغرَقَةٌ بالكلّية في المحبَّة والتقرَّب. فَلَم تكن الدنيا أكبرَ همَّهم ولا مَبلَغ عملهم لأنَّ المَحَبَّة الربَّانية هي سفينة النجاة وهي التي بها يكمل الإيمان كما جاء في الحديث :”لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما”.
وفَّقَنَا الله وإيَّاكم إلى مَحبَّته على الدوام وجَعَلَنَا له ولنبيه من جملةِ الخدَّام، المعظمّين لجنابه والمَقام، بجاه من حنّ إليه الحمام. آمين.