مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا
(النساء147)
بِسم الله الرّحمَن الرّحيم
والصّلاة والسّلام عَلى المَبعوث رحمةً للعالمين، وقُدوَةِ المؤمنين، وأُسْوَةِ الحَامدين، أفضلِ مَن شكرَ مَولاه على الفَيض المُبين، وعلى صحابته المَيامين، وآل بيتِه الطّاهرين.
يقول الحقّ، تبارك وتعالى، في مُحكم تنزيله وهو أصدق القائلينَ، في الآية السابعة والأربعين بعد المائة من سورة النساء:”مَا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً “.
هذا الكلامُ ظاهرُه استفهامٌ، ومعناه تَقريرٌ لحقيقة عالية من حقائق الدّين ينقُلها إلينا القرآن الكريم، ومفادها أنَّ الله تعالى لا يُعذّب الشاكرَ المؤمن، لأنَّ تَعذيبَ الله عبادَه لا يَزيد في مُلكه شيئًا، كمَا أنَّ تَرك عقوبَتَهم لا يُنقص من سُلطانِه. والوعيدَ المُتَوَجِّهُ إلى المنافقين إنّما هو على نفاقهم، فإذا تابوا وأصلحوا غَفرَ الله لهم. والله لا يُعذّبهم لِكراهة في ذاتهم أو تشفٍّ منهم، ولكنّه جزاء السوء، وَالحَكيم يضع الأشياءَ مواضعها، فيجازي على الإحسان إحسانًا، وعلى الإساءة عدلاً، فإذا انتهى المسيء من الإساءة أبطلَ الله عِقابه، إذ لا ينتفع بعذابٍ ولا بثواب. وإذا كان المؤمنون قد ثبتوا على إيمانهم وشُكرهم، فالله لا يعذّبهم، إذ لا مُوجبَ لعذابهم.
فيجوز أن يُرادَ بالخطاب المنافقونَ ويجوزُ- وهذا هو الأظهر- أن يرادَ به جَميعُ الأمّة لتعريفهم إحدى صفات الله وهي الغنى فالله غنيّ عن الطاعة ولا تضرّهُ المعصية، وهوَ أيضا مخالفٌ للحوادث ولا يُشبه المُلوكَ الذين يتشفَّوْنَ من الرعايا غَيظًا إنْ عصوا، أو يستجلبون مُوالاتهم بالإحسان. فَاللهُ مخالف لهم فلا يفعل بعذاب المؤمن الشاكر أو بثوابه شَيئاً، لأنَّ كل ذلك محالٌ في حقه تعالى فالله غنيٌّ بذاته عن الحاجات، مُنَزَّهٌ عن جلب المنافع ودفع المضرَّات.
وفي هذه الآية قدّمَ الله ذِكرَ الشكر على الإيمان مع أنَّ الإيمان مقدَّمٌ على سائر الطاعات والسبب في ذلكَ أنَّ الشكرَ قد يكون طريقًا مُوصلاً إلى الإيمان، فالنّاظر في نِعَمِ الله يُدرك في مرحلة أولى وفرة النِّعَم في ذاته وفي الآفاق، فيشكر اللهَ شكرًا عامًا مُبهَمًا. وفي مرحلة ثانية، يَتَرَقَّى إلَى معرفة المُنعم بعد إمعان النظر في دلائل وَحدته وعَظَيم نواله، فيؤمنَ به.
وخُتِمَتِ الآية بقوله تعالى: “وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيمًا” وهو إعلام بأنّ الله لا يعطّل الجزاء الحَسَن عن الذين يؤمنون به ويشكرون نعمَهُ الجمّة، والإيمان بالله وصفاته أوّل درجات شكر العبد لِربّه.
ومن مظاهر لطف الله أنّه يجازي عبَادَه على طاعته مع أنّه هو الذي يَسَّرَهَا لَهم؛ فيتقبَّل منهم العَمَلَ القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكرٌ منه على عبادته. والشكر من الله تعالى الرضا أي إنَّ الله يَرْضى باليسير من الطاعة ومضاعفة الثواب من حسنة إلى عشرٍ إلى سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف.
وأما الشكرُ من العبد فهو الاعتراف بالنعمة الواصلة إليه.
وأما قوله تعالى: “عَليمًا” فيشملُ حَقَ الشكر والإيمان فَيَستحيل أن لا يوفّيَ اللهُ أجورَ المؤمنينَ.
ويَنْبغي لطالب الحقّ أن يَخضع له خضوعًا تامًّا ويشكره شكرا كثيرًا. ولذلك قال الجُرجاني، أحد كبار العارفين، عند شرح قوله تعالى: ” لئن شكرتم لأزيدنّكم”(إبراهيم: 7) أي لَئن شكرتم القُربَ لأزيدنَّكم الأنس. وعن علي، رضيَ الله عنه، :”اذَا وصلت إليكم أطراف النّعم فلا تُنْفِرُوا أقْصَاهَا بقلَّة الشكر”. ومعنى كلامه، كرَّم الله وجْهَهُ، أنَّ مَن لم يشكرِ النِّعَمَ الحَاصلة لديه حُرِمَ النَّعمَ القاصيةَ عنه.
هذا وتتضمّن هذه الآية الكثيرَ من لطائف الإشارات ورقائق التلميحات ومنها تذكير الله تعالى عبَاده المؤمنين بنعمه السابقة حتى يشكروا، ومنها إخراجهم من العدم ببديع إنشائه فيَعلموا فَضله، ومنها خلقُ أرواحهم الزكيّة قبل خلق الأشياء المادية فيُقرّوا بنعمائه، ومنها أنّه أفاض على أرواحهم بنور القدم فَيَسعَدوا. ومنها أنه لمّا أخطأت بعضُ الأرواح ذلك النور وأصابَ أرواح المؤمنين قال لهم: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم” حتَّى يعلَموا فضلَ ربهم عليه وينعموا. وكلّها أفضالٌ أنعم بها عليهم من غير استحقاق منهم، فإن شكروا هذه النعم برؤيتها ورؤية المُنعم وآمنوا بالله نَجوا مِن حجابه. فحَقيقة الشكر رؤية المُنعِم. والشكر على وجُود المُنعِم أبلغ من الشكر على وجود النّعم ولذلكَ قال تعالى: “واشكروا لي” أي اشكروا لوجودي. وقد أنالَ الله تعالى الشاكرين جزاءهم قبل شكرهم لأنّ الله شكور عليمٌ.
وفي الختام نسأل الله العليَّ الأعلى أنْ يجعلنا من الشاكرين الحامدينَ وأن يكْلأنا بحصنه الحَصين وأن يشملنا منه بنظرة العناية والتمكين إنّه عزيزٌ حكيمٌ. آمين يا رب العَالَمين.