بُليَ التّصوّفُ الإسلاميُّ وَمَا يَحملهُ من مَعَانِي الإحسان بالانْحِرَاف -كغيره من العلوم الدّينيّة والدّنيويّة- حتَّى تَوَهَّم كثيرٌ من المتسرعين أنَّ رجالَ التّصوف يُقلِّلونَ من شأن العلم ولا يُعطونَه ما يستحقّ مِنَ العناية وَالاهتمام. ولَعَلّ أعظمَ دليلٍ لبَيَانِ زَيغِ هذه الأباطيل سيرةُ الشيخ سيدي مُحمّد الـمُنَوَّر الـمَدَني، حفظه الله، التِّي سخّرها لنشر العلم اقتداءً بوالده الشّيخ العالم العامل سيدي محمّد المدني رحمه الله. فَمنذُ العَقْد الأوّل من القرن العشرين ظهرت الطّريقة المدنيّة مُمارَسَةً عَمَليّةً لجوهر الدّين والعقيدة سلوكًا وعلما وعملا بِمَا جَاءَت به سنّة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، واليوم في زمن التّكنولوجيا والاختراعات والثّورات العلميّة المتسارعة ظَهَرَ الشّيخ سيدي مُحمّد المنوّر المدني بسلوكه ومبادئه داعيًا إلى اكتساب العلم الضّروري كأساس للمنهج العملي للتّصوف مؤكِّدًا عَلَى أنَّ الطّريقةَ المدنيّةَ هي تطبيقٌ عمليٌّ للإسلام بإخلاصٍ من القلب وإيقانٍ من الجوارح. وما انفكّ الشّيخُ يبرز أهميّةَ العلم وفضلَه ذاكرًا قولَه عزَّ وَجَلَّ: “[vert]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[/vert]” (فاطر الآية 28).
وقوله تعالى: “[vert]قلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [/vert]” (الزمر الآية 9)
وقوله: “[vert]يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[/vert]” (المجادلة الآية 11).
وَحياةُ الشّيخ حفظه الله امتزاجٌ رائعٌ بينَ طلب العلم وتعليمه ونشره وتوجيهه ليكونَ عَمَلاً بعلمٍ خالصًا لوجه الله تعالى.
وصدقًا منه في هذا النّهج النّفيس عَمَلَ الشّيخُ على نَشر العلم بين جَميع الفئات العمريّة فبدأ منذ أواخر الستينات بإلقاء دروس لـمَحْوِ الأميّة وتعليم الكهول وأقام دروسًا تكوينيّة لمدّة 20 سنة في السّجون ومراكز التكوين المهني والمصانع والمدارس ودُور الشّعب كما ساهم بدروسٍ فِي التّعليم الابتدائي والتّعليم الاجتماعي فضلاً عَن 27 سنةً من الدّروس الدينيّة في الجامع الكبير بقصيبة المديوني و30 سنةً خَطَبَ فيها الجمعةَ وأقامَ مُحَاضَرَاتٍ ودروسًا بالإذاعة الجهويّة فتحصّل على 3 أوسمة:(الأول برنزي والثاني فضّي والثالث ذهبي) لما قام به من عمل جليلٍ في النّهوض بالمستوى التّعليمي والدّيني والاجتماعي كَمَا تَحصَّل على وسام للشرف من وزارة الدّاخليّة لجهده الّذي تواصل 20 سنةً عمل فيها مَجّانًا للإحاطة بالمساجين وتأهيلهم ليكونوا عناصرَ فاعلينَ في المجتمع من خلال وَعيهم بسماحة دينهم وانفتاح فكرهم على قِيَمِهِ العالية مثلَ العمل والعلم والسّموّ الروحي. وقد بذل الشيخُ كلَّ هذه الجّهود لِمَا يَرَى من تَحقيقٍ لمبادئ الإسلام الداعية إلى النّهوض بالفرد والمجتمع المسلم.
وفي نَهج الطّريقة المدنية رسمَ الشّيخ لمريديه تخطيطًا علميّا متكاملاً وبسيطًا من خلال سلوكه وبَحثه المتواصل في نشر العقيدة السّليمة وإثبات الخصائص المحمديّة وما يدور حولَهَا من معانٍ وَأَسرارٍ مَاانفَكَّ الشّيخ يُظهرهَا خدمةً لجناب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فألّف في ذلك كتاب:”
أما سُلوكُ الشّيخ فدعوةٌ إلى طَلَب العلم من خلال عمله وإصراره على البحث والمطالعة وترغيبه لمريديه في شتّى العلوم وخاصّة حِفظ القرآن الكريم حتّى منّ الله عليه بصدقه في خدمة كتاب الله فَتَكَاثَرَ حَمَلَةُ القرآن من أبناء طريقته وبَرَعوا
في علوم التّجويد والقراءات واقتبسوا من نور صدق شيخهم وهمّته الشّريفة في التأكيد على الإخلاص فِي أيِّ عملٍ من الأعمال وأداؤها على وجه الإحسان فدروسُ الفقه والسّيرة والتّفسير والحديث ركيزةٌ من ركائز المنهج العلمي في الطّريقة المدنيّة.
وإلى يومنا هذا، يسأله المريدونَ فَيَجِدونَ عندَه ما يَشفي من الجواب المتفتح على العصر ومَا يتطلّبه الخطاب الدّيني والجواب الفقهي من حكمةٍ وتَجربَةٍ واطّلاع على سَيْرِ الحياة والتّغيّرات الاجتماعية والاقتصاديّة وغيرها ممّا يتطلّب إحاطة كاملة بالفقه الإسلامي حتّى يكون الجواب مُحافظةً على ما جاءت به الشّريعة الغرّاء وعملاً عَلَى تطبيق نَهج المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في التيسير والرّفق وجعل الأوامر الشّرعيّة متمّمةً لسعادة الفرد الإسلامي ونَجَاح المجتمع بكامله من خلال تَحقيق مبدأ الوسطيّة والاعتدال مع التشبّث العميق بقواعد الشّرع المبين.
إنّ عمل الشّيخ (بارك الله في عمره) على نشر العلم جعل الطّريقة المدنيّة مَلْجأً لطالبي التّصوف الإسلامي الحقيقيّ المبني على العلم والتّقوى والاستقامة وحصول كمال اليقين والفوز بكرامة الدّنيا من خلال صدق الوَرَع وحسن النيّة وإخلاص العمل ومَحبة العلم قال تعالى: [vert]وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ[/vert] (البقرة الآية 281 )
ولا يتمّ هذا كلّه إلاّ بصحبة رجلٍ صالحٍ وشيخٍ ناصحٍ، فَقال بعضهم: “وَالله مَا أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح“.
فَالتّصوّف الإسلامي أو مقام الإحسان شرطٌ في كلّ العلوم إذ لاَ عمَلَ إلا بصدق التّوجِّهِ لقوله صلّى الله عليه وسلّم:”إنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يقبل من العلم إلا ما كان له وليبتغي به وجهه ” (رواه الترمذي)
وقال عليه الصّلاة والسّلام في حديث أخرجه التّرمذي عن ابن عبد البّر قال: “العلمُ علمان، علمُ اللّسان فذلك حجّة الله تعالى على خَلقهِ وعلمٌ في القلب فذلك العلم النّافع“.
لَقد نَجحت الطّريقة المدنيّة في المحافظة على أسس التّصوف الإسلامي من خلال سلوك مريديها لطرق السّنّة النبويّة المطهّرة وتمسكهم بكتاب الله ودعوتِهم إلى الله بحكمةٍ وَوَسَطيّةٍ تَتَماشى مع التّطورات العصريّة المتسارعة حتّى يتيسر على المسلم تطبيق الأوامر واجتناب النّواهي ويَحترز من الشعوذة والانحراف إلى ما ذهبت إليه بعض المتصوّفة الّذين ضيّعوا أصول التّصوّف وهي القيام بما جاء به الكتاب والسّنّة وزاغوا عن منهج طلب العلم وركنوا إلى ما لا يليق بما يدعوا إليه الإسلام والتّصوّف فأصبحوا صورة خاطئة لما تدعو له الطّرق الصّوفيّة السّنيّة والطّريقة المدنيّة منهم براء إلى يوم الدّين، أمّا العالم الصّوفي الّذي نراه متمثلا في شخص الشّيخ سيدي محمّد المنوّر المدني (حفظه الله) ما هو إلا حقيقة الإستقامة الدّينيّة ووصلة روحيّة وسموّا خُلُقِيّا ورقيّا فقهيّا وتوحيدا خالصا نقيّا وإقامة صادقة للسّماحة الإسلاميّة فهو مقيم لحقّ ربّه داعيا إلى إقامة الدّين وإتقانه وتحقيق صفة كماله بالتّوجه بالعبادة للمعبود إذ هو المقصود الأسمى إشارة منه إلى أنّ قطب السّعادات هو إخلاص النّيات لخالق المخلوقات والشّيخ الفاضل بمعاملاته وسلوكه وعلومه وانفتاح فكره وحثّه على العلم ومحاربته للجهل والشّعوذة تطبيقٌ لقول الفاروق عليه رضوان الله: “رَحِمَ اللهُ امرءً استقامت طريقته وعرفَ زَمَانَه“.
فالحمد لله على ما أنعم به في هذه الطريقة المدنيّة من روح الصّفاء وعبق الوفاء ونسيم الاهتداء والاقتداء بسيّد الأصفياء ولقد تبيّن من حياة الشّيخ ودعواته العلميّة العمليّة وجهوده في السّموّ بالمريد فكريّا وعِلْمِيًّا واجتماعيًّا أنَّ الطريقَ ليسَ رسومًا باليّة قعد عليها القومُ أو صيغًا حاضرةً مَحفوظَةً يردّدها الأتباع دون فهم ودراية أو اجتماعات لتضييع الوقت بل هو منهاجٌ كاملٌ في الحياة مبادِئه قواعدُ الشّرع الحكيم وحبّ المصطفى الرءوف الرّحيم والعمل بالعلم السّليم سعيا إلى معرفة الرّب الكريم، “وأنَّ إلَى رَبِّكَ الـمُنْتَهَى“.