بسم الله الرّحمان الرّحيم
أَسَّسَ الشيخُ سيدي محمد المدني، رَحمهُ الله، التصوَّفَ على فَهمٍ دقيقٍ لكتاب الله العزيز. ولِهَذا دارت جلُّ مُؤَلَّفَاته على تفسير سورٍ مِنَ القرآنِ المَجيد، وَشَرح لآياتِه الغَرَّاء، فَفَسَّرَ سورةَ الواقعة وأمّ الكِتَاب (الفاتحة) وآيَةَ النور إلى جانب آياتٍ عَديدة متفرِّقَة.
ويقوم منهجه على الجَمع العجيب بين دقائق الشريعة ولطائف الحقيقة فكان من بَيِّنِ الآيات يستمدُّ رقيقَ الإشارات فيُجليهَا للمُريدين نِبْراسًا يُهتَدَى به، وللعلمَاء مَنهَلاً يَرتَوونَ منهُ.
ويَسرُّنَا أنْ نُقَدِّمَ للقراء الكرام تفسيرَ آية النور(سورة النور: 35) الذي كتبه الشيخ سيدي محمد المدني سنة 1949 وطَبَعه سنة 1951.
ويعدُّ هذا التفسير على قِصَره دليلاً قاطعًا على استمداد التصوُّفِ المَدَنيِّ مِن بِحَار كَلام الله الذي لا يَنفَذ.
1- الحمدُ للهِ، نورِ السَّمَواتِ والأرض. أَرسلَ رَسولَه بالهدى فَبيّنَ السنّةَ والفَرضَ. وَصَلَّى اللهُ عَليه وَعلَى آله وأصحابِه وَأتباعِهِ إلَى يَومِ العَرْض.
2- أمّا بَعدُ، فَيقول العبدُ الضّعيف مُحمَّد المَدني القصيبي المديوني: هَذَا تفسيرٌ لآيةِ النّور، طَلَبَه مِنَّا بعض الفُضَلاَء من الأصدقاء والأَحباب، لِظَنّه الجميل فينا، فَكتَبتُ مَا أَلهَمنيه اللهُ، وهوَ حَسبي ونعمَ الوكيلُ. وسَمَّيتُه: رسالة النّور [[هذا نص ما وجدناهً مخطوطًا بخطِّ المؤلف في الأرشيف الخاص بالزاوية المدنية. ونظنّ أنه مقدمةٌ أولى كَتَبهَا ولَم يثبتها في كتابه المطبوع. “الحَمدُ لِلهِ، نُورِ السَّمواتِ والأَرضِ، يَهدي مَنْ يَشاء لِنوره، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى سَيِّدنَا مُحَمَّدٍ، الشَّفيع فَي يَوم العَرض وَعَلَى آلِهِ، وَأصْحَابه إلَى يَومِ الحَشْر والنُّشور. أمَّا بَعد، فَهَذَا تفسيرٌ على آيةِ النُّور، اقتَرحَه عَلينَا بعضُ الأَحبَابِ لِظَنِّه الجَميل، فَكَتبتُ مَا أَلهمَنيه اللهُ، وَهو حَسبِي ونعمَ الوَكيلُ. وقَد سَمَّيْتُه: “نُورُ الهِدَايَة ومِصبَاحُ العِنَايَةِ”. واللهُ المسؤول أنْ يَنفَعَ به وأَن يَجعَلَه خَالصًا لوجههِ، بِحُرمَة مَولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال الله تعالى:… ]]، واللهُ المَسؤول أن يتقبَّله ويُصلح به الأمور. والمرجوُّ الرّضا، والله المسؤول أنْ يَلطفَ بنا فيمَا جَرَى به القَضَاء.
3- قَال الله تَعالَى: “الله نُورُ السَّموَاتِ والأَرضِ [[النور : 35. ]] “.
الكَلامُ عَلَى مُفرَدَات الآية:
4- أَمّا الاسمُ المُفرَدُ “الله” فاخْتُلفَ فيه عَلَى عشرينَ قولاً، أَصحُّهَا أنّه عَلَمٌ غيرُ مُشتَقّ، مَوضوعٌ لذاتِه، تَعالَى، الجَامعة لسائر الصّفات. ولاَ يُطلق على غَيره تعالى في الجاهليّة والإسلام. وقَد قيل إنَّه: “الاسمُ الأعظمُ الذي إذا دُعيَ به أجابَ وإذَا سئلَ به أَعطَى” [[قسم من حديث رواه أبو داود و الترمذي و قال حسن صحيح على اختلافٍ في بدايته. ]] . ويُسَنُّ تفخيمُ لاَمِه إذا ضُمَّ مَا قَبلهَا أو فُتِحَ، وقيل يُفَخَّم لامُه ولَوْ كُسِرَ مَا قَبلَهَا. والأَفصحُ مَدُّ الاسم المُفرَد ولا يُحذَفُ أَلفُهُ وحَذفهَا لغةٌ حَكَاهَا ابنُ الصَّلاَح. وقيلَ يُحذَف في الوقف دون الوصل. والأفصَحُ إثباتُها كما تَقدّم حتّى قال بعضهم: إنَّ حذفَ الألف لَحْنٌ تَبطل به الصّلاة، ولاَ ينعَقد به صريحٌ اليَمين.
5- والذّكر بالاسم المفرد مِمّا اتّفقَ عَلَيه السَّادَة الصّوفيّة ورأَوا لَه خيرًا كثيرًا وتأثيرًا كبيرًا وفضلاً عظيمًا غَزيرًا، تطمئنّ به القلوب وتصل إلى حَضرَة عَلاّم الغُيوب.
6- غَيرَ أنّ بَعضهم يُلقِّن لمريديه الاسمَ المفردَ في البداية، وكلمةَ الإخلاص في النّهاية، وبَعضُهم بالعكس. وذلك اصطلاحٌ موكولٌ لِنَظَر الشّيخ مَعَ حالِ المريد. وللرّجال الكُمَّلِ، رضي الله عنهم، في الكَلاَم على الاسم المُفرَدِ وتَأثيره على النّفوس وسَوْقِهَا إلى حضرة القدّوس كتبٌ مؤلّفاتٌ ورسائلُ مصنّفاتٌ منها كتاب: القَول المعتمد في جواز الذكر بالاسم المفرد [[رسالة نظمها الشيخ أحمد العلاوي أول رجب الفرد سنة 1346]] لِحَضْرَة أستاذنا ومَلاَذنَا سيّدنَا ومولانا أحمد العلاوي المستغانمي، أسكنه الله جنّة الرّضوان.
7- وقد رَغَّبَ في الذكر بهذا الاسم الأعظم أئمَّة أعلامٌ ومحقّقونَ كرامٌ، منهم العلاّمة المبرور والمحقّق المشكور الشّيخ سيّدي عبد القادر الفَاسي في “نوازِله”.
8- وأمّا النّور فقد قال في “القاموس المحيط” [[معجم كبير وشهير للفيروزآبادي. ]] : “هو الضّياء أيًّا كانَ أوْ شعاعه” وعليه فقيل إنَّ النّورَ والضّياءَ مُتَرَادفَان وإطلاق أحدهما على الآخر شائعٌ، وقيل: هما مُختَلفَان إذْ فَرَّقَ بينهما جماعةٌ فقالوا إنّ النورَ هو الأصلُ والضّياء هو المُنتشرُ عَنهُ وقَولُهُ تَعالى: “وَهوَ الذي جَعلَ الشّمسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا [[يونس: 5.]] ” يُفهَمُ منه اختلافُهما. وهل النّور أبلغ أو الضّياء خِلافٌ بينَ الأولينَ ولكلٍّ نظرٌ.
9- والنّورُ أيضًا هو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. ويُطلَق النّورُ عَلَى مَا يُبَيّنُ الأشياءَ وَيُوضّحَهَا.
10- والسّموات جَمعُ سَماءٍ، وهي كلُّ مَا عَلاكَ، كَسقف البيت والسّحاب ويُطلق عَلَى المطر. والسّماء مَقَرُّ الأملاك للحديث القائل ما معناه: “أطَّتِ السَّماء وحقّها أن تئِط ما من موضع إلاّ وفيه ملك راكع أو ساجد [[حديث رواه الترمذي وابن ماجة من حديث إسرائيلَ، وقال الترمذي: حديثٌ حَسَن غريب، ويروى عن أبي ذر موقوفاً.]] “.
11- وقد وَرَدَ النصُّ الصّريحُ في القرآن بوجود سَبعِ سَمَوَاتٍ: الله الذي خلق سَبعَ سَمَوَاتٍ. وَوَرَدَت الأخبار بوجود عوالمَ أكثرَ من أن تحصرَ، منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: “إنَّ لله ثمانيةَ عشرَ عالَمًا كعالَمكم هذا”. وقوله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ لله ألف ألف عالَم. والمقصود المبالغة في الكثرة لا الحصر في العدد والله أعلم. وممّا يؤيّد ذلك ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم: السّموات السّبع والأرَضون السّبع في الكرسيّ إلاّ كحلقة في فلاة” [[أخرجه بن حبان فى ” الصحيح 362/2/213 ، والبيهقى ” الأسماء والصفات 831/2/404 والاجرى فى ” الأربعون حديثا 44/45 وابن عساكر فى تاريخ دمشق ( 23/274) .]] . نقله في روح البيان. وهل السّماء جرم كثيف كما يشير له قوله تعالى: “وَجَعلنَا السّماءَ سقفًا محفوظًا” [[الأنبياء: 32. ]] أم هو جُرمٌ لطيفٌ، لاَ يَحجبُ مَا وَرَاءه كما يشيرُ إليه قوله تعالى: “ثمَّ استَوى إلى السّماء وهي دُخَانٌ [[فصلت:11]] “، ذلك أمر موكولٌ إلى بَسطه في المُطَوَّلاَت، وإلى تحقيق النَّظر فنقول بلُطفهَا ونَفزَع إلى التّأويلات، أو إلَى الأخذ بِبَعْضِ الظّواهر من النّصوص فنقولُ بكثَافَتها ونَلجأُ إلى الاعتقادات.
12- والأرض مَسكنُ البَشَر ومَسكن أنواعٍ كثيرة مِنْ خَلْقِ اللهِ منها كثيرٌ لمنفعة البشر وفي القرآن ما يدلّ على أنّ عدَدَها يساوي عدد السّموات: “الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ ” [[الطلاق: 12.]] . أي سبع أرَضين. ويَجري الكلامُ عَلَى عدد الأرَضين مَجراه في عدد السّموات فيشملها كثرةُ عَدد العوالم والله أعلم بِغَيْبِه وهو الخلاّق العليم.
13- وهل الأرض مُنبسطة كما يشير له قوله تعالى: “أَلَم نجعل الأرض مهادًا” [[النبأ : 6. ]] وهي كرويّة كما يشير له قوله تعالى: فَامْشُوا في مَناكِبهَا [[الملك: 15.]] ” وهوَ الذي عليه المحقّقون من علماء الإسلام. ذلكَ أمرٌ مَبسوطٌ في المُطَوَّلاَت وقد ألّفت فيه كتب ومصنّفات لا تسعها المختصرات منها كتاب: “مفتاح الشّهود في مظاهر الوجود [[أحمد بن مصطفى بن محمد ابن عليوة، 2007، طبعة دار الكتب العلمية. ]] “. ألّفه أستاذنا وملاذنا الشّيخ سيّدي الحاج أحمد العلاوي المستغانمي رضي الله عنه. جمع فيه بين العلم الحديث وبين ما قاله المحقّقون من علماء الإسلام ويؤخذُ منَ القرآن والحديث.
14- الكلام على معنى الآية
أخبرَ القرآنُ أنَّ اللهَ، جلَّ شأنه، هو النّور الموجود في السّموات والأرض، والمقصودُ العالم كلّه، كَقَولِكَ: “سَافرتُ إلَى الشّرق والغَربِ” والمقصودُ إلَى جَميع الجهات. وكقولهم للصّحابة: “المهاجرون والأنصارُ”. ففَي هذا المعنى وصفَ الحقّ، جلَّ وعلاَ، بالضّياء المُنتَشِر في العالَم وهو أمرٌ يوهم التّشبيهَ ويُبعدُ عَن عقيدة النِدّيّة، عقيدة: “ولَمْ يَكُنْ لَه كفؤًا أحدٌ [[الإخلاص :4 ]] “، عَقيدة: “لَيسَ كَمثلِه شَيءٌ [[الشورى: 11]] “.
15- ولذلكَ يُؤَوَّلُ كلُّ نصٍّ يُوهمُ تشبيهًا أو حلولاً أو اتّحادًا أو تجسيمًا أو كيفيّةً أو نسبةَ وصفِ مخلوقٍ حادثٍ للخالق القديم، جلّ شَأنُه، كَهاته الآية التي ظاهرها يَقتضي وصفَ الحقّ تعالى بالنّور المُنتَشرِ في العَالَم.
16- وَلذلكَ أوّلَهَا سادتُنا الأقدمون، رَضيَ اللهُ عَنهُم، بمَا يَليقُ بتَنزيهه سبحانه وتَعَالَى غيرَ أنّهُم، رَضِيَ الله عَنهم، اختلفوا في طريقِ التَّأويل وذَهبوا مذاهبَ شتَّى وَكلّهم على هدًى مِنَ الله إنْ شَاءَ اللهُ – وَمَا أَصَحَّ علمَ مَنْ تَقَدَّمَ –
17- فإنّ مِنهم مَن قال: إنَّ مَعنَى النّور المُوجِدِ ( بكَسر الجيم ) أي إنَّ اللهَ موجِـدُ السَّمَواتِ وَالأَرض، فَأطلَقَ النّورَ وَأرَادَ به المُوجِدَ لأنَّ كلاًّ منهمَا يُظهِـرُ غيرَه فالموجِدُ يُظهِر غيرَه من العَدَم إلى الوجود، والنُّور يُظهِرُ غَيرَه من الخَفَاء إلى الظّهور. والتّأويل بهذا المعنى يَصلحُ لِمَن ينكر بأنّ اللهَ خالقُ السّموات والأرض حتّى إذا سمعَ الآيةَ بأذنٍ واعيةٍ وَتَمَكَّنَ هَذَا المَعنَى مِن قَلبه فَضْلَ تَمَكُّنٍ [[أي مزيد تمكن وثباتٍ]] رَفَعَه الله مِن حَضيضِ الإنْكَار إلَى مُستَوى الإقْرَار ثمَّ يَأخذ بمَجَامِعِه إلَى سَمَاء التّفكير والاعتبار، “ومَا ذَلكَ عَلَى الله بِعَزيزٍ [[فاطر:17. ]] ” .
18- وَمنهم مَن قال: مَعناه مُفِيض الإدراك ومُعْطِيه، فَيَكون الكلامُ عَلَى حَذف مُضَافٍ، والتّقدير: اللهُ مُفيض الإدراك لِأَهلِ السَّمَوَات والأَرض، فَيَهديهم بِذَلكَ إلَى سَوَاء السَّبيل، وَهوَ نورٌ مَعنَويٌّ يُنيرُ اللهُ به العقولَ ويُشرقُ ضِياؤُهُ عَلَى أَرض القُلوب، فَتَهتديَ بَعدَ الضّلالة وتَعلمَ بَعد الجَهَالَة.
19- قَال الأَلوسي:”وَهَذَا قريبٌ ممّا أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبَيهقي في الأسماء والصّفات عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: “الله نورُ السَّمَواتِ وَالأرْضِ” هَادِي أَهلِ السَّمَوَات والأَرض. قال الألوسي وهو وَجْهٌ حسن [[تفسير: روح المعاني للألوسي، آية النور في مختلف الطبعات]] .
20- وجاء في روايةٍ أَخرَجَهَا ابنُ جَريرٍ، رَضي الله تعالى عنه، أنّه فَسّرَ النّور بالمُدَبِّر (بِكَسْر البَاء) فَقال: اللهُ نورُ السّموات والأرض، يُدَبّر الأمرَ فيهمَا. وَرُويَ ذلكَ عَن مُجَاهدٍ أيضًا، فَيَكون معنى الآية على هذا التّأويل: الله هو الذي يفيض الإدراكَ عَلَى أهل السّموات والأرض فَيدركون مَا يضرّهمْ فَيَجتنَبوه وما ينفعهم فيتّبعونه، وتلكَ هي هداية الله لهم وذلك مِن تَدبيره تعالى لأهل هذا العالم مِن بَني الإنسان وغيرهم.
21- وَعَلَى هذا التّأويل تصلحُ أنْ تَكون الآيةُ إخبارًا لِمَن يُقرُّ لله بإيجاد السَّمَواتِ وَالأَرضِ، ولَكنّه غَير عالمٍ أنَّ اللهَ مُفيض الإدراك وهادي أَهل السّموات والأرض ومُدَبِّر أمورهم، فإذَا سَمعَ هَاته الآية وأفاضَ الله عليه مِن هدايته أدرك أنَّ اللهَ تَعالَى يُدَبّر الأمرَ كلَّه وبِيَده ملكوتُ كلِّ شيءٍ. وَهَذَا الوجهُ في التّأويل مِن خطاب الخُصوص بالنّسبة للوجه الأوّل قَبلَه.
22- وَمِنهم مَن قال: إنَّ مَعناه المُنَزَّهُ مِن كُلِّ عَيبٍ كَقولهم: “امرَأَةٌ بريئَةٌ نَوَارٌ” أي بَريئة مِن الرِّيبة بِالفَحشَاء فَيكونُ تَقديرُ الكلام: اللهُ مُنَزَّهٌ مِن كُلِّ عَيْبٍ. وهَذَا وإنْ كَانَ مَعنًى صَحيحًا في نفسه إلاّ أنّه تَبقَى إضافة النّور للسّموات والأرض لَم يَظهر لَهَا مَعنًى.
23- وَمنهم مَن قال إنَّ مَعناه: ذُو نورٍ أي صَاحب نورٍ كَقولهم: زَيدٌ كريمٌ أي صَاحبُ كَرَمٍ فَالآية عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَالتَّقديرُ: اللهُ صَاحبُ نُورِ السَّمَوات والأرض، والمَقصود خالق نور السّموات والأرض فَيَرجع إلى مَعنى التّأويل الأوّل الذي هو مُوجِدُ السّماوات والأرض ونُورُهُمَا.
24- ومِنهم مَن قال إنَّ “نُور” بمعنى مُنَـوِّر (بكسر الواو) ثمّ قيل تَنويرهما بالشّمس والقمر وسائر الكواكب وهو نورٌ حِسّيٌّ. ونُسبَ هذا القولُ للحسن وأَبي العالية والضحَّاك، وعَلَيه جماعةٌ من المفسّرين فتكون الآية إخبارًا لِمَن يُقرّ الله بإيجاد نور السّموات والأرض كالتّأويل الثّاني ولكن لا يدرك أنّ الله هو الذي أنارهما وزيّنهما بزينة الكواكب.
25- وَقيلَ تنويرُ السّموات بالملائكة عليهم السّلام وتنويرُ الأَرض بالأنبياء عَلَيهم السّلام والعلماءِ. وهو نُورٌ عَقليٌّ مَعنَويٌّ ونُسبَ هَذا القول إلى أبيٍّ بن كَعبٍ، فيكونُ مَعنَى الآية :اللهُ مُنَوِّر السّموات والأرض بالمَلائكة والأنبياء والعُلَماء، وهو حَثٌّ للسّامِعينَ عَلَى الاعتراف بِفَضْلِ هؤلاء الخاصّة العليا من عباد الله والانقياد إليهم لأنّ الله أنارَ بهم عقولَ العِبَاد وأَلهمهم سَبيلَ الرَّشَادِ، وهَدَاهم إلى طريق السّداد “ومَن يَهْدِ اللهُ فَهوَ المُهتدي [[جزء من سورة الأعراف:178]] “.
26- وقيلَ تَنويره للسّموات والأرض بما أودع فيهما من الآيات التّكوينيّة والتّنزيليّة الدّالّة على وجوده ووحدانيّته وسائر صفاته عزّ وجلّ والهادية إلى صَلاَح المعاش والمَعَادِ وعليه فتكون الآية : “الله نور السّموات والأرض” إخبارًا لِمَن فيه الأهليّة للتّفكير والاعتبار والنّظر في مَلَكوت الله من الآيات التّكوينيّة قيُقيم منها الأدلّةَ القاطعةَ والبراهينَ السّاطعةَ على وجود الحقّ تعالى واتّصافه بسائر الكمالات، ولِمن فيه الأهليّة لتدقيق النّظر والتّفهّم في آيات التّنزيل فيستنبط منها ما يُصلح مَعَاشَه ويَعمَلُ به لمَعَاده. فتكون الآية خطابًا للخَاصَّةِ مِن عبادِ الله الذين أهّلهم الله لاستخراج الآيات حتّى إذا سمعوا: “اللهُ نورُ السَّمَوَات والأرض”، تَسَابقت منهم جِيَادُ الأفكار وعقول التّدبّر والتّفكير والاعتبار وغاصت في بطون الكائنات وسَرَحَت في روضات معاني الآيات قُطُوفًا دانيةً وجواهرَ من الآيات غاليةً عاليةً “والله يؤتي حِكمَتَه مَن يَشَاءُ ومَن يُؤتَ الحكمَةَ فقد أوتيَ خيرًا كثيرًا [[اقتباس من سورة البقرة:269 ]] “.
27- قال الألوسي أيضا: “وَيُؤَيّدُ هذَا التأويلَ الذي هو نورٌ بمعنى مُنَوِّرٌ قراءَةُ بَعضهم: “مُنَوِّر السّموات والأرض” بِصيغَة اسم الفَاعِل كما يؤيّده قراءةُ عَلِيٍّ، كَرَّمَ الله وجهه، وابنِ جَعفر وعبد العزيز المكّي وزيد بن علي وثابت ابن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرّحمان السلمي وعبد الله بن عبّاس وابن أبي ربيعة: نَوَّرَ بفَتَحَاتٍ ثَلاث على أنّه فعلٌ ماضٍ وبِنَصبِ الأَرض على أنّه مفعول به [[الألوسي، روح المعاني، آية النور. ]] .
28- ثمّ اعلم أنّ جميع ما ذكرناه من التّأويلات أفهامُ فُحول من العلماء بأقوالهم يُقتدى وبأفعالهم يُهتدى، جَزَاهُم اللهُ عنَّا أحسن الجزاء. وهُنا يَجْمُل بنا أن نذكرَ باختصار حُجَّة الإسلام الغزالي في رسالته: “مِشكَاةُ الأنوار” ونَقَله عنه الألوسي: قال الغزالي: “لاَ يَخفَى عَليكَ أنَّ اللهَ هو النّورُ، ولاَ نورَ سواه، وأنّه كلُّ الأَنوار والنّور الكلّي والنّور الأعلَى الذي تنكشف به الأشياء ولَه ومِنه. وَالسّموات والأرض وسائرُ العَوَالم مَشحونَةٌ نورًا مِن طَبَقَتَيْ النّور أعني المنسوبَ إلى البَصَر والمَنسوب إلى البَصيرَة” [[كلامٌ للغزالي في : مشكاة الأنوار نقله الألوسي في تفسيره. ]] . اهـ .
29- وَهَذَا حَملٌ منه للنّور على معناه الحقيقي بدون تأويلٍ لَه ويَرَى أنّ كمالَ التّنزيه لا يكون إلاّ إذا كانت جميع الأنوارِ لَه، لاَ لغَيره ولا يشاركه فيها أحدٌ، وما هي إلاّ آيات أنوارٍ إلهيّة وأسرار جبروتٍ حَقّية، يُنَادي عليها في كثير من الآيات القرآنيّة: “سَنُريهِمْ آياتِنَا في الآفاق وفي أنفسهم حَتَّى يَتَبَيّنَ لَهُم أَنّه الحَقّ ” [[فصّلت: 53.]] . أراها الله تعالى لمن أورَثَهم مِن عباده سرَّ الخصوصيّة، فَتَبيّنَ لهم أنّه الحقّ وقرأُوا عَليها: “الله نورُ السّموات والأرضِ”. وحَجَبَهَا عَن أهلِ الرِّيبة والمِرْيَةِ ونادى عليهم بلسان العزّة والهَيْبَة: “ألاَ إنّهُم فِي مِرْيَةٍ من لِقَاء رَبّهم ألاَ إنّه بكلّ شيء مُحيطٌ [[فصلت: 54. ]] ” .
30- هذا وللصّوفيّة الأكابرِ فِي تَفسير الآية كلامٌ طويلٌ، يَكفي منه هذا الملخّصُ المُسْتَصفَى والعَسَلُ المَختوم المُصَفَّى الذي يكون فيه للنّاس نورٌ وهدًى وشِفَاءٌ. ولَفظُ الآية يَحمل جميعَ مَا قلتُه ومَا نقلتُه، وجميعَ مَا قَاله المفسّرون ممَّنْ لَم نطّلع على تَفاسيرهم أو يقولونه إلى يوم الدّين، ومَا هُم إلاّ غـَوَّاصون في بَحْر القرآن الزّاخر، يَلتَقطونَ مِن جَواهِره الغَالية، ويَوَاقيتِه العَالية ما تقع عَليهم أيديهِم ويُدركهُ فَهمهم وفيه: “مَا لاَ عينٌ رأَت ولا أذن سَمعت، ولاَ خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ [[اقتباس من الحديث: يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ ، أَنَّ أَبَا حَازِمٍ ، حَدَّثَهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، يَقُولُ : شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ : ” فِيهَا مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ” حديث مرفوع، إسناده حسن رجاله ثقات عدا حميد بن أبي المخارق المدني وهو صدوق حسن الحديث]] ” ، وما هو إلاّ قرآن كريم تُؤتِي شَجرَتُه “أكلهَا كلَّ حِين بإذنٍ رَبّها [[اقتباس من سورة ابراهيم:25. ]] ” .
31- والحَاصلُ أنَّ هَاته الآيةَ دَلّت على أنَّ اللهَ، سبحَانَه وتعالى، أوجَدَ السَّمَواتِ وَالأرض وسائرَ العَوالم وأَفاضَ عَليهَا الإدراكَ، وَهَدَى أهلَهَا لمَا فيه الخيرُ والصّلاحُ، وَألهَمَهُم التّفكيرَ في آياتِهِ البيّناتِ والنَّظرَ في مظاهر الكَائنات، فَأَرَاهُم آياتِه المُتَجَلّي بها في الآفاق وفَي أَنفسهم، فَتَبَيَّنَ لهم أنّه الحقُّ وكلُّ شَيءٍ مَا خَلاَه باطلٌ ومَمحوقٌ زائلٌ.
32- ثمّ ضَرَبَ مثلاً لِنوره المُبَيّن بما أَلفته عقولُ المُخَاطَبينَ فكانَ ذلكَ المَثَلُ فِي أَحسنِ صورةٍ للنَّاظرينَ يُقرَأُ
عَلَيه، فَتَبَارَكَ ربُّ العَالمين.فقال: – مثل نوره –
33- الكلامُ عَلَى مُفرَدَاتِ الآيَةِ:
34- الكَلاَمُ هنَا عَلَى ثَلاثِ مُفردَاتٍ: الأوّل هُو قولُه: “مَثَلُ” بِفَتْحِ المُثَلَّثَةِ [[يعني حرف “الثاء”]] ، وَهو فِي اللّغَةِ :مَا يُضْرَبُ مِنَ الأَمثَال، كَالمِثَالِ الذي نَحن بِصَدَدِه. وَمِنهُ قَولُه تَعَالى: ” مَثَلُ الجَنَّة التي وُعِد المتَّقُونَ [[الرعد:35]] ” أَيْ صِفَةُ الجَنَّةِ. وَقَوله: “مَثَلُ نُورِهِ” أَيْ صِفَةُ نُورِهِ. المُفرَدُ الثّاني: “النّور” وَقَدْ تَقَدَّمَ الكلامُ عَلَيْه مُفَصَّلاً.
35- المُفْرَدُ الثَّالِثُ: الضّميرُ فِي “نُورِهِ”، وهَذَا الضَّميرُ اختَلفوا في مَعَادِهِ [[أي على من يعودُ]] على طَائِفَتَيْن: الطّائفةُ الأولى يقولون إنّهُ عَائدٌ عَلَى الله عزَّ وجلَّ. الطّائفةُ الثانيةُ مِنْهُم مَنْ يَقولُ: الضَّميرُ عائدٌ عَلَى المُؤمن، وَرُوِيَ عَن عكرِمَةَ وأُبَيٍّ بنِ كَعْبٍ. وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: الضَّميرُ عَائدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وَرَوَى ذَلكَ جَمَاعَةٌ عَن ابنِ عَبَّاسٍ عَن كَعبٍ الأحْبَار. وَمِنْهم مَن يَقولُ الضَّميرُ عائدٌ عَلَى القُرآن. وَمِنْهُم مَن يَقُولُ الضّمير عائدٌ عَلَى الإيمَان اهـ. من الألوسي باختصارٍ [[راجع الألوسي نفس الصفحات]] .
36- قال الألوسي: لاَ يَخفى أنّ عَوْدَ الضّميرِ عَلَى غَيرِ مَذكورٍ، وَلَم يَكن في الكلام مَا يَدُلُّ عَلَيْه، أَو كَانَت دَلاَلَتُهُ خفيّةً مِن خِلاف الظّاهر جِدًّا، لاَسيَّمَا إذَا فَاتَ المقصودُ من الكلام . اهـ . وهو رَدٌّ لَطيفٌ مِنه عَلَى الطّائفَةِ الثانيةِ القَائِلينَ أنَّ الضّميرَ غيرُ عائدٍ عَلَى الله تعَالَى.
37- الكَلاَمُ عَلَى مَعنى الآية:
إذَا دَرَجْنَا مَعَ الطّائِفَة الأولى القائلينَ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي قَولِهِ: “نُوره” عَلَى اللهِ تَعَالَى لَزمَنَا أنْ نَذكرَ الخلافَ بَينَ المُتَقَدِّمينَ فِي مَعنَى النّور المُضَاف إلَى ضَمير الأُلُوهِيَّةِ. فَنقول: نَقَلَ الألوسيُّ في تَفسيره ثَمانيةَ أقوالٍ فِي مَعنَى هذا النّور.
38-
39-
40-
41-
42-
43-
44-
45- هَاتِه أَقوالٌ ثَمانيةٌ فِي مَعنَى النّورِ مِن قَولِه تَعَالَى: ” مَثَلُ نُورِهِ ” نَقَلَهَا الألُوسِيٌ. وثَمّ أقوالٌ غَيرُها لَم يَذْكُرَهَا. والآيَةُ الكَريمَةُ تَحملُ جَميعَ الأَقْوَالِ المَذكُورَةِ عَلَى اختِلاَفٍ فيهَا لاخْتِلاَفِ طَبَقَاتِ قَائِليهَا، وإنْ كَانَت كُلّهَا قَريبةً من بَعضها. وَالإنسانُ لاَ يَفهَمُ مِنَ الآيَةِ إلاَّ مَا أَهّلَهُ اللهُ لِفَهْمِه، حَسَبَ مَرتَبَتِه التي وَهَبَهَا اللهُ لَهُ. وفِي الأَمثال المَشهورَة والحِكَمِ المَأثُورة: العِبَارَةُ قُوتٌ لِعَائِلَةِ المُسْتَمِعينَ، وَلَيسَ لَكَ إلاّ مَا أَنتَ آكِلُهُ [[وردت هذه الحكمة في كتاب : إيقاظ الهمم بشرح الحكم لابن عجيبة، 1، ص. 191 ]] .
46- وَالحَاصِل أَنَّ مَعنَى قَولِه تَعَالَى: ” مَثلُ نُورِهِ ” أَيْ مَثَلُ أَدِلَّتِهِ العَقْلِيّةِ والنَّقليّة -التي أعْظَمُهَا القُرْآنُ الكَريمُ- التي هيَ حَقٌّ ثَابتٌ، لاَ يَأتيهِ البَاطلُ من بَينِ يَدَيْه وَلاَ مِن خَلفِهِ. واتِّبَاعُ الحَقّ هو الهُدَى مِنَ اللهِ وذلكَ يَغرسُ فِي قَلب المُهْتَدي الإيمانَ بالله وَرَسُولِه، وبمَا جَاءَ به، فَتَنْبُتُ لَه شَجَرةُ الطّاعة بِظاَهِره وبَاطنِه وَفَرائِضِه ونَوافِلِه، فَيَتَجَلَّى الحَقُّ تَعالَى، فَيَكُونُ لَهُ سمعًا وبَصَرًا، وَيَدًا ورِجْلاً [[ إشارةٌ الى الحديث القدسي الذي يقول فيه الله تعالى: ” مَن عَادَى لي ولياً فقد آذنته بحربٍ مني، وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينّه، وإذا استغفرني لأغفرنَّ له وإذا استعاذني أعذته”، فتح الباري 11.34041 حديث رقم 6502 وقد روى الحديثَ الإمام البخاري وأحمد بن حنبل والبيهقي.]] ، فَيُثمِرُ لَهُ العُلومَ والمَعَارِفَ التي يُفيضُهَا اللهُ عَلَى قَلْبِ المُؤْمِن، فَيَرَى بذلكَ البَصَرِ نورَ الله حَيثُمَا تَجَلَّى وَأَينَمَا تَولَّى.
47- وَمَعَ هَذَا كُلّهِ، فَأَنَا أَقولُ: إنّ مَعنَى النّورِ فِي قَولِهِ: ” مَثَلُ نُورِه ” عَلَى جَميعِ الأَقوَالِ المُتَقَدِّمَةِ لَيسَ مُطابِقًا غَايَةَ المُطَابَقَةِ لِمَعْنَى النُّور فِي الآيَة قَبلِهِ: ” اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ “، إلاَّ إذَا فُسّر النّورُ هُنَا بِمَا فَسَّرَهُ الغَزَالِي هُنَاكَ فَيَكون المَعنَى: مَثَلُ نُورِهِ المُتَقَدّمِ الذّكرِ الذي تَجَلَّى به عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أو نَقُول عَلَى العَوالِمِ كلِّهَا فاستَنَارَتْ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصبَاحٌ، المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ .
48- مُفْرَداتُ الآية:
49- وفِي القُرآنِ بعضُ ألفاظٍ لَيستْ بِعَرَبيَّةِ الأَصْلِ، أَدْخَلها فِي العربيّة اختلاطُ العَرَب بِبَعْض الأَجْنَاس فِي التّجارَةِ وَغَيرهَا مِنَ المُعَامَلاَتِ. ولَكِنّهَا ألفَاظٌ قَليلَةٌ لِقِلَّةِ الاختِلاَطِ لِبَداوَةِ العَرَبِ [[انظر كتاب :المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، للجواليقي، دار الكتب العلمية، 1998]] .
50- وَ
51- معنى الآية:
إنَّ نورَ اللهِ تعالَى كَنُورِ مِشكَاةٍ، فيهَا مِصباحٌ فِي زُجَاجَةٍ، أي فِي الإنارَةِ فِي نَفسِهِ والتّـنْويرِ عَلَى غَيْرِهِ. وهَذَا غَايَةُ مَا يُدركِهُ العَرَبُ في زَمَانِهِمْ وَيَعرفونه في قوَّةِ النّور والإضَاءَةِ. لأنَّ المِصبَاحَ إذَا كَانَ في زُجَاجَةٍ صَافِيَةٍ وَكَانَت تلكَ الزُّجَاجَةُ فِي كُـوَّةٍ غَيرِ نَافِذَةٍ فَلاَ شَكَّ يَنحَصِرُ ذلكَ السّائلُ النُّوريُّ وتُضَمُّ أَجْزَاؤُهُ لِبَعْضِهَا، فَيَصِلُ غَايَةَ القُـوَّةِ فِي الاسْتِضَاءَة وهوَ أَقوَى مَا يَعرِفُهُ العَرَبُ في زَمانِهم مِنَ النّورِ.
52- فإنْ قُلتَ إنَّ العَربَ كَانوا يَعرفونَ ضوءَ الشّمسِ وهوَ أَقوَى منْ نُورِ المِصْبَاح فَلمَاذَا لَم يَقُلْ: [ rouge]مَثَلُ نُورِهِ كَشَمْسِ مُشْرِقَةٍ مَثَلاً ؟ قلتُ إنَّ ذلكَ لاَ يَتِمُّ بِه الغَرَضُ المُرَادُ لأنَّ المَقصودَ تَشبيهُ نورِ اللهِ فِي ذَلكَ الزَّمَانِ المُظْلِمِ الذي أحَاطَتْ به ظُلُمَاتُ الجَهْل، وذلكَ لاَ يَتِمُّ إلاّ بِتَشبيهِ نُورِ اللهِ بِنُورِ مِشكَاةٍ فيهَا مصباحٌ لأنَّ المصبَاحَ مِن لَوَازِمه أَنْ يكونَ فِي ظَلاَم لَيْلٍ وَنَحْوِه بخلاَفِ الشَّمْس فإنّهَا لاَ يُحيطُ بهَا ظَلاَمٌ أبَدًا.
53- والحَاصِل أنَّ هَاته الآيةَ تَشتَملُ عَلَى مُشَبَّهٍ ومُشَبَّهٍ به [[ركنان من أركان التشبيه الأربعة: المشبه، المشبه به، وجه الشبه وأداة الشبه]] . أمّا المُشبَّهُ فَهوَ نُورُ اللهِ تَعَالَى المَذكور في قولِهِ: مَثَلُ نُورِهِ[/ rouge] عَلَى اختِلاَفٍ فِي المُرَاد بالنّور مَا هُو؟ وأمّا المُشَبَّهُ بِه في المُتَعَارَفِ كَونُهُ أَقْوَى مِنَ المُشَبَّهِ في وَجْهِ الشَّبَهِ الجَامِعِ بَيْنَهُمَا وهوَ هنَا قوّةُ الإشْرَاقِ والإنَارَة. ولكنْ في هَذَا التّشبيه كُـلّنَا يَعلَم أنَّ نورَ الله الذي هوُ مُشَبَّهٌ لاَ يُدَانيه نورُ أيِّ مَخلُوقٍ وهوَ أقْوَى مِن نُور أَلْف مَخلوقٍ؟
54- الجَوابُ: أنَّ ذلكَ يكونُ بِحَسَب المُخَاطَبِينَ. والمُخَاطَبُونَ هنا لاَ يعرفونَ إلاّ قوّةَ نورِ المِشكاة، ولَو كَانوا يعرفونَ قوّةَ نورِ اللهِ لانقَادُوا لِرَسولِه الأَمين وأَتَوْا إليْه مُؤمِنينَ ولَمَا احتَاجُوا إلَى ضَرْبِ مِثَالٍ، يُقَرِّبُ عُقولَهُمْ إلَى الحَقيقَة ويُبعدُهَا عَن الخَيَالِ. قلتُ هَذَا وإذَا قلنَا إنَّ الآيَةَ مِن خِطَاب العَامَّة. أمّا إذا قُلنا إنَّهَا من خِطَاب الخَاصّة فيكون المُرَادُ من ذلك التَّشبيهِ بَيانَ نُورِ الله تَعَالَى المُتَجَلّي به في كلِّ كَبيرَةٍ وصَغيرةٍ حتَّى استضَاءَ الكُــلُّ بِهِ.
55-
56- ثُمَّ نَقول إنَّ ذكرَ المُشَبَّه به عَلَى تلكَ الصُّورَة وهي مِشكَاةٌ فيهَا زُجَاجَةٌ فيهَا مِصبَاحٌ يُطابِقُ تَمَامَ المُطَابَقَة مَا هوَ مَوجودٌ عندَنَا مِنَ المِصبَاح الكَهربَائيِّ فِي زُجَاجَته الصَّافيَة المُحيطَةِ به في مِشكَاةٍ مِن الزّجَاجِ الأَزهَرِ، فَلا نُبْعِدُ إذا قلنا إنَّهَا مُعْجِزَةٌ قُرآنِيّة أَنْبَأَت عَن اختِرَاعَاتٍ غَيبِيّةٍ وَأَسرارٍ كَوْنِيَّةٍ. وكَمْ لهَذَا القُرآن مِن مُعْجِزَاتٍ تَظهَرُ في المُعَيَّنِ لها من الأوقَاتِ، منهَا مَا قَد مَضَى وَمِنهَا مَا هُوَ آتٍ[/ bleu]. ثمّ اعلم أنّ هاته الآية: ” كَمِشكَاةٍ فيهَا مِصبَاحٌ، المِصبَاح في زُجَاجَةٍ ” قَد ذَكَرَت أَجزَاء المُشَبَّه به الذي هو نُورٌ لِمِشكَاةٍ فيها زُجَاجَةٌ فيها مصبَاحٌ وَلَمَّا كَانَ المُشَبَّهُ به لَيسَ هو هَاتِه الأَجزَاء فَقَطْ بَل مُعتَبَرٌ فيهَا أَوصَافٌ لاَ يَتِمُّ التَّشبيه إلاّ بهَا أَخَذَ فِي بَيَانِ تلكَ الأَوصَافِ وبَدَأَ بِوصْفِ الزُّجَاجَة فَقَاَلَ: الزّجاجة كأنّها كوكب درّي .
57- مُفردَاتُ الآيَة:
الزُّجَاجَة تَقَدَّمَ بَيانُهَا. وكأنَّ حَرفُ تَشبيهٍ، تُلحِقُ النَاقصَ بالكامِل في الوَصفِ الجَامِع بَيْنَهمَا، وقَد أَلْحَقَت الزّجاجة بالكوكب الدُّرِّيِّ فِي البَريق واللّمَعَان. والكَوكَبُ يُطلَقُ في اللغةِ عَلَى معانٍ كَثيرةٍ. منهَا: النَّجمُ، ويقال لِسيّد القَوم وفَارِسِهم. ومنها: شِدّةُ الحَرِّ، ويُقَال: للسَّيْف والحَبْل والغُلاَم المُرَاهق. والكَوْكَبُ في اصطِلاَحِ أَهْلِ الهَيْأَة مَا كَان نُورُه غَيرَ ذَاتيٍّ، ولَه فَلَكٌ خَاصٌّ يَجري فيه، كَالأرْض فإنَّ نورَهَا مُكتَسبٌ من نُور الشّمس. فإنْ كَانَ نورُهُ ذاتيًّا قيلَ له: شمسٌ، وإن كَانَ فلَكه تابعًا لِغَيْره قيل لَه: قمرٌ.
58- و الدُّرّيُّ : نسبةً إلى الدُّرِّ، جَمعُ دُرَّةٍ وهَي اللّؤلؤة العَظيمَة. فالدُّرُّ كِبَارُ اللّؤلؤ كما أنّ المَرْجَان صِغَاره، هَكذَا قَال في القَاموسِ المُحيط [[الفيروزآبادي، القاموس المحيط،]] . وفي بحرِ فارسَ، المَعروف بخليج فارس، مَغَاصُ اللّؤلؤ الجيّد البَالغ الذي لا يُوجَدُ مِثله في شيءٍ مِنَ البِحَار. وفي جَزائِره مَعْدن العَقِيق وأنواعُ اليَواقِيت، وفيه العَنْبَرُ وسَمَكه، كما يوجد كثير من العجائب من قَبِيل اللّؤلؤ والمَرجان فِي البَحر الأحمر المعروف في القديم ببحر القَلْزَم . وقَال الالوسي في قوله تعالى: ” يَخْرُجُ منهَا اللّؤلؤُ والمَرْجَانُ [[الرحمان: 22.]] ” اللّؤلؤ صِغارُ الدُّرِّ.
59- الحاصلُ أنَّ الدّرَّ أعظمُ مِنَ اللّؤلؤِ وهوَ أكبرُ مِنَ المَرْجَان. وكُلّهَا نَوْعٌ واحِدٌ، تَختَلِفُ أسْمَاؤُهَا باخْتِلاَفِ حَجْمِهَا. والذي يُفْهَمُ مِمَّا نَقَلَهُ الألوسي أنّهَا كُلّهَا حَمْرَاءُ اللّونِ، لَكنَّه أَخبَرَنِي بَعضُ الأَصْدِقَاء الثِّقَاتِ أَنَّه رَأَى درّةً بِعَيْنِه، ولَونهَا أبيضُ مثلَ لَوْنِ الجَوْهَر.
60- مَعنى الآية: أنَّ صفَةَ تلكَ الزُّجَاجَة، لِصفَائها ولَمَعَانِها، تُشبهُ الكوكَبَ الدرّيَّ المُضيءَ المُشرقَ. ثمَّ نَقول: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكون قَولُه: ” كَوكَبٌ دُرّيٌّ ” كِنَايَةٌ عَن إشرَاقِهِمْ فَإنَّهُم يَقولونَ:كَوكبٌ دُرّيٌّ أيْ مُضيءٌ مُشرِقٌ، فَتكونَ نسبةُ الكَوكب إلى الدّرِّ نِسبَةَ تشبيهٍ، كأنّه قيل: كَوكبٌ كأنّه درٌّ، فَتكونَ الزّجَاجةُ شَبيهةً بالكَوكَب الشّبيه بالدرّ. وهو تشبيهٌ بما هو مُتَعارَفٌ عند العَربِ، وإلاّ فالكَوكب أقوى ضياءً مِن الدرّ. ويُحتَمل أن تكون نسبةً حقيقيّةً بمعنى أنّ الكوكب مخلوقٌ مِن الدُرِّ إذ قد وَرَدَ في بعض الآثار ما يُفهمُ منه أنَّ بعضَ الكواكب مِنَ الدُّرِّ، وبَعضهَا من الذَّهب، وبعضها مِنَ الزَّبَرجَد، ولاَ عَجَبَ إن كان الكوكبُ كذلكَ، فَيَكونُ خزانَةً للدرّ المُنَزّلِ في الأرض داخلاً تحت قولِه تَعالى: ” وإنْ مِنْ شَيءٍ إلاَّ عندنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزّله إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [[الحجر:21]] ” ثمّ أخذ في ذكر صفة ذلك المصباح الذي في الزّجاجة فقال: يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة
61- مُفرَدَات الآية:
62- و
63- مَعنى الآيَة: إنَّ ذَلكَ المصباحَ يَبتَدأُ ضوءُهُ مِن زَيتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ بأنْ رُويَت ذُبَالَة المصباح بزيت تلك الشّجرَة المُبَارَكَة التي تَكَاثَرَ نَفعها: أَكْلاً ودُهْنًا ونورًا فِي البَيت. وتلكَ الشَّجرَةُ المُبَارَكَة هِي زَيتونَةٌ، لَيست مَنسوبَةً للشّرق فَقَط ولا للغرب فَقَط، بل هي بَينَ ذَلكَ ضَاحيةٌ للشّمس، لاَ يَحجبهَا عَنهَا شَيءٌ من حين تَطلع إلى أن تَغربَ. والمَقصودُ أنَّ الزّيتونَةَ لا تُصيبُهَا الشّمسُ خَاصَّةً ولاَ الظلُّ خَاصَّةً، ولكن يُصيبُهَا هَذَا في وقتٍ وهَذَا في وقتٍ. وهَل أنّ هذا مُجَرَّدُ تصويرٍ للزّيتونة وضَرْب مِثَالٍ لَهَا أم هو وَصفٌ حَقيقيٌّ لِشَجَرَة الزّيتون المَوجودة؟ خلافٌ بَينَ المُتَقَدِّمينَ.
64- خَلَقَ اللهُ شجرَةَ الزّيتون وجعلَ فيهَا البَرَكَةَ وجعلَ في زَيْتهَا المَنافعَ الكثيرَةَ، ذَكرَهَا الأطبّاء. وقد وَرَدَ في الحديث: “أنَّ الزّيتَ مَصَحَّةٌ مِنَ البَاسور [[المعجم الكبير ج 17 ص 281 حديث 744 ، وكنز العمال ج 1 ص 47 حديث 28296 )]] “. قلت: وقد جرّبنا ذلك فَصَحَّ. وصَدق الذي لا يَنطق عَن الهَوَى، صَلّى الله عليه وسلّم. وأخرج عبد ابن حميد في مُسْنَدِهِ والترمذيُّ وابنُ مَاجَة عَن عُمَر، رَضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله، صَلَّى الله عليه وسلّم، قال: اِئْتَدِموا بالزّيت وادَّهِنُوا به فإنّه من شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [[رواه ابن ماجة (3319)، و الحاكم (4/122)، والمصنف (19568) والجامع (4374). روى الترمذي في سننه عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ، وعند ابن ماجة عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ . وفي رواية عن عَبْد اللَّهِ بْن سَعِيدٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ ، وفي مسند أحمد عَنْ عَطَاءٍ الشَّامِيِّ عَنْ أَبِي أَسِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ، وفي سنن الدارمي عَنْ أَبِي أَسِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُوا الزَّيْتَ وَائْتَدِمُوا بِهِ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ.
]] . وأخرَجَ البيهقيّ عن عائشةَ، رَضي الله تعالى عنها، أنّهَا ذُكرَ عندهَا الزيتُ فَقَالَتْ : كانَ رسولُ اللهِ، صَلَّى الله عَلَيْه وسَلّم، يأمُرُ أنْ يُؤكَـلَ ويَدَّهِنَ ويُسعَطَ به ويقول: إنّهُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [[ذكره الألوسي في التفسير]] .
65- وفي حاشية الجَمل [[حاشية كتبها العالم الجمل على لشرح تفسير الجلالين المعروف بختصاره. ]] : قَالَ ابن عبّاس: في الزّيتون مَنَافِع: يُسرَجُ بِزَيْتِه وهو إدَامٌ ودِهَانٌ ودِبَاغٌ ووُقُودٌ، يُوقَد بحطبه وثُفْله [[الثُّفل: الحَبُّ ويعني هنا حبَّ الزيتون أو ما رسب منه. ]] ولَيسَ فيه شيءٌ إلاّ وفيه مَنفَعَةٌ، حَتَّى الرّماد يُغسَلُ به الابريسَم. وَهوَ أوّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَت في الدّنيا، وأوّل شجرَةٍ نَبَتَت بعد الطّوفان، ونَبَتَت في مَنازلِ الأنبياء والأرض المُقَدَّسَة. ودَعَا لَهَا سبعون نبيًّا بالبَرَكَة، منهم إبرَاهيمُ ومنهم محمَّدٌ، صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه قَالَ مَرَّتَيْن: اللهمّ باركْ في الزَّيتِ والزّيتون” اهـ. ومِن أَوْصَاف الشَّجَرَة المُبارَكَة في قوله تَعَالَى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .
66- مُفرَدَات الآية:
67- مَعنى الآية: إنَّ هَاته الشّجرةَ المُباركَةَ يَقْرُبُ زَيتُهَا يُضيءُ، ويُنيرُ بِنَفسِه، ولَو لَم تَنَلْهُ النَّارُ لِقُوَّةِ صَفَائِهِ واسْتِنَارَتِه. وعَلَيْه فالمِصبَاح نُورٌ والزّيت نورٌ، والزُّجَاجَة نورٌ، وشُعَاعُ الضّياء نورٌ. فَهو كَما قال الله تَعالى: ” نُورٌ عَلَى نورٍ “، أَيْ ضِيَاءٌ عَظيمٌ، مُتَضَاعِفٌ كَثيرٌ قويٌّ، في هذا المِثَال الذي ضَرَبَه اللهُ تَعَالَى.
68- قُلتُ: ويَظْهَرُ ذلكَ تمامَ الظّهورِ إذَا جَعَلَ اللهُ للمؤمن نورًا فِي قَلبه، فَكَانَ يَنظرُ بنورِ اللهِ فَيَرَى أنَّ هَذَا الكونَ كلّهُ مِشكاةٌ يُنيرهَا مِصبَاحٌ عَظيمٌ مِن الحَقَائِق التَّوحيديّة والآيات الأحَديّة، ذلكَ المِصبَاح فِي زُجَاجَةٍ مِن الأَنوَار المُحمّديّة التي ظَهَرَتْ منهَا هَاتِه الأَنْوارُ الكَونيّة فَيُنْشِدُ عَلَيْهَا:
ويَقرَأُ قولَه تعالى: “إ نَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ واختِلاَفِ اللّيلِ والنَّهَار لآياتٍ لأُولِي الأَلبابِ [[آل عمران: 190.]] “. فَيَا لَهُ مِن نُورٍ تَجَلَّى وظُهُورٍ للقُلوبِ تَدَلَّى وحَقَائقَ مِن تَوحيدِ اللهِ تجلّت للعِيَانِ، ومَا بَعدَ البَيَانِ بَيَانٌ.
69- وهنا يَجْمُلُ بنا أنْ نَنقلَ للقَارئِ الكَريم مِن تَفْسيرِ العَلاَّمَة الألوسي ما فَاضَت به بَصائرُ أَهْل المَعرفَة من أهل اليَقين وسَادَاتنَا الأقدَمينَ الأَوّلينَ في هاتِه الآيةِ مِن حَقَائقِ التَّأويلِ وأَنوَارِ التَّنزيلِ حَسَبَ مَرَاتِبِهِم العَليَّةِ وإنْ اختَلَفَت الأَفهَامُ وتَبَايَنَ فيهَا الإلهامُ فَنَقولُ:
70- قَال الألوسيُّ: والمَعنَى عَلَى مَا ذَكره في إنسان العَينِ: يَكادُ سرُّ القُرآنِ يَظهَر للخَلْق قَبلَ دَعوةِ النّبيء، صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسلّم، وفيهِ مِسْحَةٌ مِن مَعنَى قَوله:
رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَقَّتِ الخَمرُ * فَتَشَابَهَا وتَشَاكَلَ الأمْرُ
فَــكأنّــمَا خَمْــرٌ ولاَ قَــدَحٌ * وكَـأَنّمَا قَـدَحٌ ولاَ خَمْـرُ [[بيتان منسوبان للصّاحب بن عباد.]]
71- وَعَن ابنِ عَبَّاسٍ تَشبيهُ فؤادِه، صَلَّى الله عليه وسلّم، بالكَوْكَب الدُرِّيِّ. وأنَّ الشّجَرَةَ المُبَارَكةَ إبراهيمُ، عَليه السّلام. ومَعنَى ” لاَ شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ ” لَيسَ بِنَصْرَانيٍّ فَيُصَلِّي للشَّرْق، ولاَ يَهوديٍّ فَيُصَلّي نَحوَ الغَرب. والزَّيتُ الصَّافي دينُ إبراهيمَ عليه السّلام.
72- ورَوَى البَغَويُّ عَن مُحمَّد بن كَعبٍ القُرظيِّ: تَكَاد مَحاسِنُ مُحمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم تَظهَرُ للنّاس قَبلَ أَنْ يُوحَى إلَيه. قالَ ابنُ رَواحَةَ:
لَو لَم يَكن فيهِ آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ * كَانَتْ بَدَاهَتُه تُغنِيكَ عَن خَبَرِهِ [[ذكره الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، الجزء الأول، ص 34 – 35 – 3]]
73- وفِي حَقَائِق السُّلَمي [[“حقائق التّفسير”، كتاب في تفسير القرآن، يقعُ في جزئين، لعبد الرحمان السلمي. ]] : “مَثَلُ نُوره في عَبدِه المُخلِصِ. وَالمشكَاةُ القَلبُ. والمِصبَاحُ: النّور الذي قُذفَ فيهِ. والمَعرفَةُ تُضيءُ فِي قَلْبِ العَارفِ بنُورِ التَّوفِيق. ويُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ يُضيءُ عَلَى شَخص مُبَارَكٍ تَتَبَيّنُ أَنوارُ بَاطِنِه عَلَى آدَابِ ظَاهِرِهِ وحُسنِ مُعَامَلَتِهِ. زَيتونَةٍ لاَ شَرقِيَّةٍ ولاَ غَرْبِيَّةٍ: جَوهَرة صَافية لا حظَ لَهَا في الدّنيَا ولاَ في الآخِرَة، لاخْتِصَاصِهَا بِمُوَالاَةِ العَزيزِ الغَفَّار وَتَفَرُّدهَا بالفَردِ الجبّار اهـ. من الألوسي.
74- وفِي حَاشِيَةِ الجَمَلِ: قالَ ابنُ العَربيِّ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلُ نُورِ اللهِ وهُدَاهُ فِي قَلْب المُؤمِنِ، كَمَا يَكَادُ الزَّيتُ الصَّافِي يُضيءُ قَبلَ أَنْ تَمْسَسْه النَّارُ فإنْ مَسَّتْه النَّارُ زادَ هُدًى عَلَى هُدًى ونُورًا عَلَى نُورٍ كَقَلْبِ إبرَاهيمَ مِن قَبلِ أَنْ تَجيئَه المَعرفَةُ: ” قَالَ هَذَا رَبّي [[الأنعام: 76 وما بعدها]] ” مِن قَبلِ أَنْ يُخبِرَهُ أَحَدٌ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا فَلَمَّا أَخبَرَهُ الله بِأَنَّهُ رَبُّه زَادَ هُدًى قَالَ لَه رَبُّهُ أَسْلم: قَالَ أَسلمتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ” اهـ.
75- هَذَا مَا نَقَلتُهُ وهْو قُلٌّ مِنْ كُثْرٍ [[أي قليلٌ من كثيرٍ. ]] ، تَسْتَنِيرُ إنْ شَاءَ اللهُ بِه القُلوبُ، فَتَتَقرّبُ مِنْ حَضْرَةِ عَلاَّمِ الغُيُوب. والآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ جَاريَةٌ بالمَاء المَعِينِ، يَشْرَبُ منهَا حَسَبَ استِعدَادِهِمْ المُقَرَّبُونَ. والعِبَارَةُ قُوتٌ لِعَائِلَة المُستَمِعينَ، ولَيسَ لَكَ إلاَّ مَا أَنتَ آكِلُهُ وأَهّلَكَ لَه رَبُّ العَالَمِينَ.
76- وقَولُه تَعَالَى: ” يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ” إخْبَارٌ بِأَنَّ اللهَ يَهْدي لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ، أَيْ لاَ يَهدِي جَميعَ النَّاسِ بَلْ يَهدي أنَاسًا اختَصَّهُمْ لِمَعْرفَة نُورِهِ وهُم الخَاصَّة مِن عِبَادِه. وَالمُؤمِنُونَ خَاصَّةً بالنّسبة للكَافِرينَ هَدَاهُم اللهُ للإيمَانِ بِرَسُولِهِ وبمَا جَاءَ بِهِ، والعَارِفُونَ خَاصَّةً بالنّسبَةِ لِعَامَّة المُؤمِنِينَ هَدَاهُمْ اللهُ لِمُشَاهَدَة أَنوارِهِ المُتَجَلِّي بِه في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرْضِ أَوْ نَقُولُ في كُلِّ ذَرَّةٍ منْ ذَرَّاتِ الأَكوَانِ. وأولئكَ أَهلُ الكَمَالِ فِي مَقَامِ الإحْسَان ولذلكَ اختَصَّهُمْ الحَقُّ فَهَدَاهُم وإلَى حَضْرَتِه قَرَّبَهُمْ واجتَبَاهُمْ، وهَو فَيْضٌ إلاَهِيٌّ اختَصَّ بهِ اللهُ مَنْ شَاءَ هِدَايَتُهم لِنُورِه مِن عِبَادِه المُقَرَّبِينَ وتَرْكِ البَاقِين في ظُلَمَاتِ الغَافلِينَ المَحْجُوبِينَ.
77- هَذَا ولَمَّا كَانَ مَقَام التَذكير والإرْشَادِ يَقتَضِي التَّعميمَ في البَيَانِ وضَرْبَ الأمْثَالِ للنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ تَعَالَى: ويَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ .
78- الأمْثَالُ جَمْعُ مَثَلٍ وتَقَدَّمَ مَعنَاهُ في قَولِه تَعَالَى: “مَثَلُ نُورِهِ”. وضَربُ المِثَالِ يُقَرِّبُ المَعَانِي البَعيدَةَ فَيبْرزُ المَعقولَ في هَيْأَةِ المَحْسُوسِ، ويُصوِّرُ الأوابِدَ مِنَ المَعَانِي فِي صُورَةِ المَأْنوسِ، غَيرَ أنَّه ينفَعُ أقْوامًا أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُمْ وسَبَقَ في عِلْمِه أَنّهُم مِن أهلِ السَّعاَدَة والهِدَايَة، وتَخْفى مَعَانِيه عَلَى أَقْوَامٍ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلوبِهم فَتدركَهُم الضّلالَةُ والغِوَايَةُ. و القِسمَةُ أزليّةٌ: فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَريقٌ فِي السَّعِيرِ.
79- وهَاهُنَا يَقف المُؤمنُ خَاضِعًا خَاشِعًا يَتَمَلَّكُه التَّسليمُ والرِّضَا والانقِيَادُ لمَا سَبَقَ بِه القَدَرُ والقَضَاءُ فَلاَ يَسْأَلُ بِلِمَ ؟ ولاَ عَلاَمَ؟ بَلْ يَقْرَأُ: “لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يُفْعَلُ [[الأنبياء 23]] ” اعتقادًا والتِزَامًا. عَمَّمَ فِي التَّذْكِيرِ والإرْشَادِ، وخَصَّصَت إرَادَتُه بِالهِدَايَةِ والانْقِيَاد. يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
80- وَاللهُ بِكلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ : يَعلَم مَا يُصلِحُ عِبَادَه في مَعَاشِهِم ومَعَادِهِم. أَو نَقولُ فِي دُنْيَاهُم وآخِرَتِهِم، وإنْ خَفِيَتْ الحِكمَةُ عَلَى أَكثَر العُقولِ التي مَا آتَاهَا اللهُ مِن العِلْمِ إلاَّ قليلاً، فلاَ يُحيطونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلمِهِ إلاَّ بمَا شَاءَ. ونُورُ الإيمَان أَوسَعُ وَأقْوَى مِن نُورِ العُقُولِ. وهاتِه الآيةُ تَسْتَغْرقُ جميعَ أَفرَادِهَا فَلاَ يُستَثْنَى منهَا شَيءٌ، بَلِ اللهُ يَعْلَمُ كلَّ شَيءٍ، مَحْسُوسًا كَانَ أو مَعقُولاً، ظَاهِرًا أوْ بَاطِنًا، كَيفَ لاَ وهوَ الخَالقُ لِكلِّ شَيءٍ، واللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ.
81- نَسألُه تَعالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ هَدَاهُمْ ولِحضْرَة قُدسِه اجتبَاهُم، ولاتِّبَاعِ الشَّريعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ اصطَفَاهُم، بِحُرْمَةِ مَولانَا رَسولِ الله، صَلَّى الله عليه وسلّم وعَلَى آله وأصحابِه وأتْبَاعِهِ، إلَى يَومِ الدّينِ والحَمد لله ربّ العالمين. وكَانَ الفَراغ منه في يَومِ الأربعاء المُوَفَّى عِشرينَ من رَمَضَانَ المُعَظَّمِ، سَنَةَ تِسْعٍ وسِتّينَ وثلاثمائةٍ وَألْفٍ 1369 هـ..
محمد المدني