والصَّلاة والسّلام على سيّد السادات، مولانا محمَّدٍ، المَبعوث رحمةً لِكُلِّ الكائنات، المُرسَل إلى العالَمين بأحْكَمِ الآيَات، يبيّنُ لهم سُبُلَ الهُدَى والبيَّنات، ويَهديهم إلى صراط الله، ربِّ الأرَض والسَّمَوات، وعَلى آلِه وصَحَابته ذَوي الأخْلاَق الفَاضِلَة والمَكرمات، ومَن تَبعهم بإحسانٍ إلَى يَوم الميقات.
نحتفل الليلةَ بميلاد أفضلِ الكائنات، صلَّى الله عليه وسلَّمَ، الذي لَولاه لَم تخرج الدنيا من ظُّلمة المعدومات، وإنَّهَا لَفرحة عظيمة أن نتذاكرَ الليلةَ معًا، حبًّا في الله وفي رسوله، ونَستعرضَ بعضَ النَّفَحَات العَطرَة التي نَستَلهِمُهَا من هذه الذكرى المُبَارَكَة. وأستمدّ، بعون الله، حديثي من قوله تَعالى:” وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 52 صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ 53 (الشورى)”.
وَرَدَت هذه الآية الكريمة عَقبَ إخبار الله تَعالَى أنَّه أَوحَى إلَى نبيّه رُوحًا مِن أَمره، بعدَ أن اختارَ فؤادَه الشَّريفَ ليكونَ مَهبطًا لأنوار القرآن ويكونَ، صَلَّى الله عليه وسلم بذلكَ مَحَلَّ الهداية الربَّانية، إذ أخرجه الحقُّ تعالى من الغفلة عن أنواره الذاتيّة إلى المعرفة الكاملة به والإيمان بكلامِهِ.
ثمَّ بلطيف الخِطَاب وَرَقيق المَعنَى، أثْنَى اللهُ عَلَى حَبِيبِه قائلاً: “إنَّكَ تدلّ على الطريق السويِّ وتشير إلَى الصراط المستقيم”، وأعْظِمْ بها مِنَ اللهِ شَهَادَةً وأَكْرِمْ بهَا تَشريفًا حيث جعله الله عَلَمَ الهدى، ومنَارَ الصلاح وسفينة النجاة. حتىَّ ذهبَ أَجلَّة المفسّرين ومنهم أبو العالية، والحسن البصري، رضي الله عنهما، إلى أنَّ الصراطَ المستقيمَ هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وَخِيَار أهل بيته وأصحابه، حَكَاه عنهما أبو الحسن الماوردي [[القاضي عياض، الشفاء]] .
فكأنما يدلُّ النبي، صلى الله عليه وسلم، الناسَ على ما في باطنه من الأنوار، ويُخْبِرهم بمَا أودَعَ الله فؤادَه مِن الأسرار، فهو الهادي وهو المَهْدِيّ إلَيْه، وهَو الدَّال والمدلول عَلَيه.
ولقد جيءَ بهَذِه الشهادة مؤكَّدة بثلاث أَدَواتٍ: بــإنَّ التي تَتَصَدَّر الكلامَ، وبلاَم التوكيد، ثمَّ بنعت الصَّراط بالاستقامة وهي صيغة مبالغة.
ومعنى الآية أنَّ المصطفى، صلَّى الله عليه وسلّمَ، بأخلاقه الرضيّة، وأحواله الزَّكيَّة، وكلماته العَطرة وسِيرَته الغَرَّاء يَهدي أي يدلّ على وَحدانيَّة الله ويُبَيّن طُرقَ الوصول إليه، ومنهاجَ السَّير إلَى حَضرَتِه العليّة. وأما الهداية بمعنى التوفيق الربَّاني فتلك خاصَّة بالله وَحدَه، وهي المرادة بقَولِه تَعَالَى: ” وإنَّكَ لاَ تَهدي مَن أَحبَبْتَ “. ولهذا قال شيخ المفسرين، العلاَّمَة سيدي الطاهر بن عاشور: “استدرَكَ (القرآن) بأنَّ اللهَ هَدَى (النَّبيَ) بالكتاب وهدى به أمَّتَه، والتقدير: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هَدينَاكَ بالكتاب ابتداءً، وعَرَّفنَاكَ به الإيمانَ، وَهَدَيت به النّاس ثانياً، فاهتدى به من شِئنا هدَايَتَه، (…) فالهداية هنا هداية خاصَّةٌ وهي خَلْقُ الإيمان في القلب. أي نَهدي به مَن نَشاءُ بِدعَوتكَ وواسطتك فلمَّا أثبتَ الهديَ إلى الله وجعل الكتابَ سَبَباً لتحصيل الهداية عَطفَ عَلَيه وَساطةَ الرّسول في إيصال ذلك الهَدْيِ تَنويهاً بشأن الرّسول صلى الله عليه وسلم. والهداية في قوله: ” وإنَّكَ لَتهدي ” هدَايَةٌ عَامَّةٌ. وهي إرشَادُ النّاس إلى طريق الخَير فهي تخالف الهدايَةَ في قوله: ” نَهدي به مَن نَشاء “. وحذف مفعول “لَتَهدي” للعموم، أي لَتَهدي جميع النّاس، أي ترشدهم إلى صراط مستقيم، وتأكيد الخبر بــ (إنَّ) للاهتمام به لأنَّ الخَبَرَ مستعملٌ في تثبيت قلب النبيّ، صلى الله عليه وسلَّمَ، بالشهادة له بهذا المقام العظيم [[التحرير والتنوير، سورة الشورى. ]] “.
ومصداقاً لهذه الآية، اهتدى بهدي رسول الله وأخلاقه في حياته أكثرَ من مائة وعشرين ألف صحابيّ، كلّهم نجومٌ زاهرةٌ. ونقتصر الليلةَ على نماذج تبيِّنُ أنَّ المصطفى دعا الى الله بحاله ومَقَاله، وهَدَى الناس إلَى طريق الله بسرّه وأحواله، فَرَغمَ ما قاساه من قريش، “وَأذى الجاهلية، وَكَثرَة الشدائد الصعبة معهم حتى أظفره الله عليهم، فَمَا زَادَ على أن عفا وصفح وقال: “مَا تَقولون إنّي فاعلٌ بكم؟ قالوا : خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كَريمٍ، فَقَالَ : أقول كما قال أخي يوسف: “لا تثريبَ عَليكم اليومَ” [[سورة يوسف : 92 .]] ، اذهبوا فأنتم الطلقاء”. فكان ذلك سببًا لهداية العشرات ودخولهم في دين الله أفواجا.
وقال لأبي سفيان، وقد سيقَ إليه بعد أنَ جَلَبَ إليه الأحزاب، وقتل عمَّه، وأصحابه، ومثَّلَ بهم، فَعَفَا عنه، وَلاطفه في القول: وَيْحَكَ يا أبا سفيان، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أن تَعلمَ أنْ لا إلهَ إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت وَأمِّي! مَا أحلَمَكَ وأوصلك وأكْرَمَكَ”.
وجاءه زيد بن سَعنَة قبل إسلامه يتقاضاه ديْنًا عليه، فجبذ ثوبه عَن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وَأغلَظَ لَه، ثمَّ قَالَ : إنَّكم يا بني عبد المطلب مُطْلٌ، فانتَهَرَه عمر، وشدَّد له في القول، والنبي، صلَّى الله عليه وسلم، يبتسم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنا وهو كنَّا إلى غير هذا أحوجَ منك يا عمر، تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي. ثمَّ قال : لقد بقي من أجله ثلاثٌ، وأمر عمر يقضيه ماله، ويَزيده عشرين صاعًا لما رَوَّعَه، فَكانَ سَببَ إسلامه.
وروي أيضا أنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعطى صفوانَ بنَ أميَّةَ مائةً من النَّعَم، ثم مائةً، ثمَّ مائةً. فقال صَفوان: وَاللهِ لقد أعطاني مَا أعطَاني، وإنه لأبغضُ الخَلق إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنَّهُ لأحَبُّ الخَلق إليَّ.
ورُوي أنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، لمَّا كُسرَت رباعيته (سِنُّه)، وَشُجَّ (جُرحَ) وَجهه يومَ أحدٍ، شَقَّ ذَلكَ عَلَى أصحابه شقًّا شديدا، وقالوا : لو دعوتَ عَلَيهم! فَقَالَ: إنِّي لَم أبعث لعّانًا، ولكني بعثت داعيًا، ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
بَل لَقد اهتدى من الناس نفرٌ لمَا رَأَوْا من شدة محبة أصحابه له، فَكَانت محبتهم لنبيهم سببًا لاهتداء الآخرين، كما اهتدى على يديه الجنّ والشياطين بصريح القرآن، وآمن به الأطفال والشيوخ وحتى الحيوان. بل إنَّ الجذع الأخشب والصخرة الصمَّاء حنّا إليه وعرفا ما في ذاته الشريفة من الأسرار.
هذا، والاهتداء على يَدَيْه، صلى الله عليه وسلم، معجزة من المعجزات الخالدة ومظهرٌ من مَظَاهر رَحمة الله الذي اشتقَّ لَه من اسمه نصيبًا وهو الهادي. وهذه المعجزة باقية ببقاء العالم فكلُّ مَن يهتَدي إلى الإسلام، إلى يوم القيامة، إنما يَهتَدي بتوفيقٍ من الله وبأثر بركة هدي رسول الله الذي ذكره الله في هذه الآية. فهدايته للقلوب ليست بمنقطعة ولا زائلة، بل ما يزال نبراسه الشريف ينير القلوبَ والعقولَ في كل العصور وإلَى يوم القيامة، ودليل ذلكَ أنَّ الفعلَ ” تهدي ” جيءَ بصيغة المضارع الدالَّة على الحدوث والتجدُّدِ في كل آنٍ.
وفي الآية معنى ثانٍ وهو شهادة من الله أنَّ الطريق الذي يهدي إليه المصطفى هو طريق مستقيم، لاَ يأتيه الباطل، فيه صلاح الأمَّة، وخَيرُ الدنيا والدين، فيه الفوز في الأولى والنجاة في الآخرة، به تزكية النفوس وطهارتها وعروج المُهَج وارتقاؤها. وهو طريق مستقيم لأنَّ اللهَ بدايتُه ومنتهاه، ومن هنا عُرِفَ أنْ لا هدايَةَ إلا من باب رسول الله، ولا وصولَ إلا باتّباعِ منهاجه الشريف. فهو الهادي إلَى الطريق الموصل لله وكل مظهرٍ فيه، صلى الله عليه وسلم، كاشفٌ عَن مَعدن الصِّفات ومكتنز الأسماء والتجلّيَات. لذلك قال الشيخ الوالد سيدي محمد المدني رحمه الله:
كلّ مَظْهَرٍ أَنتَ فيه مِصبَاحٌ في مشكاة البين
ولذلك قال الامام مالك: “هذا النبيّ مؤدب الخلق الذي هدانا به وجعله رحمة للعالمين، يخرج في جوف الليل إلى البقيع فيدعو لهم ويستغفر كالمودع لهم وبذلك أمره ربه [[ذكره القاضي عياض في الشفاء. ]] “.
وقد فهمَ أصحاب الأحوال هذه الإكرامَ الربّانيَّ، فَقَالَ العارف بالله سيدي البقلي، في تفسيره عرائس البيان في حقائق القرآن: “بَيَّنَ الحق تفصيلَ مواهبه التى وَهَبَهَا لحبيبه، صلَّى الله عليه وسلَّمَ، من خَصائص النبوة والرسالة وشرائف المعارف والكواشف التى خَفيت عنه في أوائل حاله إذْ كَانَ في غواشي صورة الانسانية عن أحكام الاولية، وما سبق له من حسن العناية والكفاية بقوله: ” مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ ” (…) أي هذه المعاني التي كشفتُهَا لَك نورٌ وهدايةٌ، تَهدي به إلَى مَعرفتنَا، وشَرَفُكَ عندنا، من عبادنا من العارفين والموحدين والمحبين الذين كانوا في سوابق الغيب منك صَدَرُوا، وأنت سيدهم وإمَامهم، تعرِّفُهم سُبَلَ وُصولنَا وذلك قوله: ” وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ “، ثمَّ أضَافَ ذلكَ السّبيلَ بنعت الخصوصيّة الى نفسه فقال: ” صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ” أي صراطك المستقيم هو طريق الله الذى مهّدَ للعارفين والمشتاقين ليسكنوا فيه إلَيه بنوره وهدايته، ثمَّ وصفَ نفسه بأنَّه مالك الأعيان من العرش إلَى الثَّرى، حتى طابت أرواح الصديقين بوحدانيته إذ لا متصرّفَ إلا هو، ولا مُصَرِّفَ، من جميع الوجوه، إلا ساحةُ كبريائه وعظمته وذلك قوله: ” أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ “.
وقال الواسطي: أظهرَ الأرواحَ من بَين جماله وجلاله مكسوة بهاتين الكسوتين، لَولا أنه سترها لسجد لها كل ما أظهر من الكونين فمن رآه برداء الجمال فلا شئَ أجمل من كونه فى ستر”.
وقال القاسم في قوله: ألاَ إلَى الله تصير الأمور: لأنّه مبتدأ كل شيءٍ وإليه منتهى كل شيءٍ، فمن كانَ مِنهُ وَلَه فَهوَ السَّاعَةَ به”.
وقال سهل التستري: “تدعو إلَى ربك بنور هداية ربّك” وقال بعضهم: دعا الله أقوامًا في الأزل فأجابوا، فأنت تهديهم إلينَا وتدلهم علينا”.
اللهم اجعلنا بهدي رسول الله مستمسكين، وبأنواره الذاتية من الموصولين، وعلى بساط الأنس معه من الساجدين، ولحضرته العلية من المُعَظِّمين.
اللهم اجعل اهتداءنا بكَ إليكَ، وتوكلنا كلّه عليكَ، واجعل هذا المولدَ قربةً لديكَ، حتى إذا ابتهلنا إليكَ: لبيكَ لبيكَ، شفّعتَ رسولَ الله فينَا وقلتَ له سعديكَ سعديكَ، واغفر اللهم لكلّ الحاضرين والذاكرين وارحم كل سلسة الطريق الميامين، بأسرار السبع المثاني والقرآن العظيم.