بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم
اللَّهمَّ صَلِّ وسَلِّم وبارِكْ عَلى سَيِّدِنا ومَولانا مُحَمَّد، وعلى آلِ سَيِّدِنا مُحَمَّد، الذي سَرى وقَد غَمَرَتْهُ الأنْوار، والمُنادي يُنادي: هَذا مُنقِذ العُصاة مِن النَّار.
غِذاءُ نُفـــــوسِ المُؤمنين وقوتُها * مديحُ رَسولِ الله بَل هُو أبْلَغُ
غِياثٌ لَنا مَلجَأ ومَنْجى لِمن جَـــنا * به كلُّ جانٍ للجِنان مُـــــبَلَّغُ
غَنيٌّ بمـــــــــا في قَلبِهِ مِن حَبيبِهِ * وجيهٌ، عَلَيهِ اللهُ للجـاهِ مُسبِغُ
*****************************************************
الحَمدُ لله الذي زَيَّن المصطفى بأعَزِّ الشَّمائِل والصِّفات، وشَرَّفَهُ بأفْضَل التَّجَلِّيات وأبْلَغ المُعجِزات، وأشْهَد أن لا إلَهَ إلا الله، وَحْدَهُ لا شَريكَ لَه، غَفَّار الذنوب والسَّيئات، وأشهد أنَّ سَيِّدَنا ومَولانا وقائِدَنا وحَبيبَنا وعَظيمَنا وشَفيعَنا مُحمَّدًا، سَيُّدُ الأبرار وأفخرُ المَخلوقات. اللهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم وبارِك عَلى سَيِّدنا محمد وعلى آله وأصْحابِهِ وأتباعِهِ ومُحبِّيهِ إلى ما بَعدَ الدُّخول في أعْلى الجَنَّات.
أما بَعْد،
يا أمَّة المُصطَفى، يا أشرَفَ الأمَم * هذا نَبِيُّكم المَخصوص بالكَرَم
هو الرَّءوف الرحيم الطاهر الشيم * إن شئتم أنْ تَنالوا رِفْعَةً وغِنًى
صلوا عليه لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُنا
******************************************************
إنَّ جَوهَرَ الحَقيقَةِ المُحمَّديَّة هو الرَّحمة في أعلى مَعانيها، والرَّأفة في أجْمَل مَجاليها. وسيرَتُه، عَليه الصلاة والسلام، لَهي المِثالُ الأكْمَل يُجَسّدُ مِن الرَّأفة أرقى مَراميها. ولذلكَ كان من أسْماء سَيِّدنا محمَّدٍ، صَلَّى الله عَلَيهِ وسَلَّم، “نبي الرحمة”، و”الرَّحيم”، و”الرؤوف”، لأنَّه كانَ رَحمَةَ الله مُثِّلَت بَشَرًا، وهَدِيِّتُه العُظمى كَمُلَت أصْلاً وطابَت أثَرًا. وهو الذي وصفَ نَفْسَه فَقالَ: ” إنَّما أنا رَحمَةٌ مُهْداة”.
ولذلكَ تَحَلَّى السيد الأعظم، صَلَّى الله عليه وسلم، بكلِّ صِفاتِ الكَمال، وتَجَلَّى بِسَنِيِّ الشَمَائِل والفِعال، فكانَ في الذُّرْوَة العُليا من كَمالاتِهِ، وبه تَزَيَّنَت الرَّحمَةُ حتَّى فازَت مِن مَكارِمِهِ بأعَزِّ تَجلياتِهِ. فَكانَ يَرقُّ للضعيف، ويُشْفِقُ عَلى المساكين، ويَعطف عَلى الخَلق أجمعين. ويقول في هذا المعنى الشاعر أحمد شوقي:
وإذا رَحمتَ فأنت أمٌّ أو أبٌ * هَذان في الدنيا هُما الرُّحَماء
وإذا خَطَبْتَ فللمَنـــابِرِ هِزَّة * تَعرو النَّـــديَّ وللقلوب بُكاء
يا أيــها الأمي حَسْبُكَ رتبَةً * في العلم أن دانَت بك العُلَماء
ومما يُجَسِّدُ هذه المعاني الباهرَة والحقائق الفاخِرَة، شِعارُهُ يَومَ فَتحَ مَكَّةَ، مُخاطِبًا قَومَه الذين أخرجوه مِن دِيارِهِ: “ا ذهَبُوا فَأنْتُم الطُّلَقاء”، حَقْنًا لِدماء أهله وذَويهِ، وأبناء عشيرته وقَرابَتِه، مع قدرتِهِ على قتلهم جَميعًا. وحفظًا لأبناء مكةَ من اليُتْم لأن قتلَ الآباء إيتامٌ للأبناء. وصيانَةً لِنِساءِ البَيْت العَتيق من الترمَّل والضَّيَاع. وإنقاذًا لِرِجال قُريش من الأخذ بالثأر لأنَّه مَجلبةٌ لِمَزيدِ القَتل. ومَع النَصْرِ الذي أيَّدَهُ به الله، لم يُجبر أحدًا عَلى اعتناق الإسلام بل قال لَهم: اذهَبوا فَأنْتُم الطُّلَقاء. وهي كلماتٌ لطيفةٌ فتحَت قُلوبَهم للدخول في الإسلام، هدايَةً مِنَ الله لَهم، بِبَرَكَة حِلمِهِ وسَماحَتِهِ.
ومن عَظَمة أخلاقه، عَلَيْه الصَّلاة والسلام، تَأدُّبُهُ بآداب الله، والإعراض عَمَّا سِواه، ومقابلة الإساءة بالإحْسان، والعَفو الواسع الجميل وإن عَظُمَ الذَّنب، وقلَّ في الصفح الرَّجَاء: عظمةَ روحٍ مُستَغْرِقَةٍ في أنوار باريها، ولَطافَةَ أسرارٍ مُنبَثِقَة من مَكْنون الرَّحمَة ومَجاليها: فَقَد رُويَ عن هشام بن عاصم الأشكمي أنه قال: لما خَرجتْ قُريش إلى النَّبِي، صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة أحُدٍ، نَزلوا بالأبواء، قالت هند بنت عُتبَةَ لزوجها أبي سفيان: لَو بَحَثتم قَبرَ آمنةَ، أمِّ محمدٍ، فَإنَّهُ بالأبْواء، فإن أُسِرَ أحَدٌ منكم افتَدَيتم كل إنسان بإِرْبٍ من آرابها أي: بِعَظم من عِظامها. فَلم تجد لقريش رهينة أعَزَّ ولا أغلى من بَقايا الجُثَّةِ الطاهرة، الثاوية هناك. وجاءَ وَحشيٌّ إلى هند بنتِ عتبَةَ في غَزوة أحُدٍ، و قال لها: ماذا لي إنْ قَتَلتُ قاتلَ أبيك؟ قالت سَلَبي (السَّلَب هو الثياب والسلاح وغير ذلك). فَقال: هَذِهِ كَبدُ حَمزة. فأعطته ثيابَها وحَلْيَها وَوَعَدتْهُ إذا وصلتْ إلى مَكَّةَ أن تَدفعَ لَه عشرَةَ دنانيرَ. ثم لاكَت هندُ قطعَةً من كَبِد حَمزَة فما استساغتها ولَفَظَتْها.
وعندَما جاءَ رَسولُ الله، صَلَّى اللهُ عَلَيه وسلم، لِفَتْح مَكَّةَ، قَدِمَتْ هندُ بنتُ عُتْبَةَ مُتَنَكِّرَةً وتَكَلَّمَت، فَانْتَبَهَ، عليه الصلاة والسلام، إلَيْها وقال: إنَّك لَهِندُ بنتُ عُتبَةَ؟ قالت: نَعَم، فَاعفُ عَمَّا سَلَفَ، عَفا الله عَنك يا نَبِيَّ الله. إنِّي امرأةٌ مُؤمنةٌ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّكَ عَبدُهُ وَرَسولُه. فَقال عليه الصلاة والسلام: مَرحبًا بكِ. وكانَ ذلك الموقف فاصلاً في حَياة هندٍ بعد أن تَجَلَّى عليها الحقُّ بأنْوار الهِدايَة، وَحَسُن إسلامُها. بل وتَشَرَّفَت هندُ بدعاء السيد الأعظم لها تفضلاً منه ورحمةً بأصحابِه. وذلكَ لَمَّا أرسلت إليه ذاتَ مَرَّةٍ بِجَدْييْن مَشوِيَـيْـن مَع جارية لَهَا. وأبلغت سيدَ الوجود، صلى الله عليه وسلم، أنَّ مَولاتَها هندٌ تَعتَذِر وتقول: إنَّ غَنَمها اليومَ قليلُ الوالِدَة. فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم باركْ لَكم في غَنَمِكم، وأكْثِرْ والِدَتَها فَكَثَّرَ الله ذَلكَ. وتَقول تلك الجاريَةُ: لَقَدْ رَأينا من كَثرَةِ غَنَمِنا ووالدَتِها ما لم نَكنْ نَرى مِن قَبْلُ.
ومن لَطائف مُخاطبات الله تعالى لِنَبِيِّهِ تَشريفًا له وتعظيمًا أن قالَ له :”فَ بِما رَحمة من الله لِنْتَ لَهم ولَو كنتَ فَظًّا غَليظَ القلب لانفضوا مِن حولكَ “. فَالسَّبب الذي جَمَعَ قلوبَ الناس حَولَ رَسولِ اللهِ، صلى الله عليه وسَلَّم، ما كانَ قوَّةَ سلطانٍ ولا سَطوةَ سلاحٍ، وإنَّما رَحْمَةُ اللهِ الغامِرة تَجَلَّت مَعانيها، وهداياتٌ منه فاخرة، ألانَت من القلوب جافيها، بِبَرَكة حِلمِ رَسول الله وسماحَة شمائله وأخلاقه الطاهرَة.
ولقد صَوَّرَتهُ السيدة عائشة، رَضيَ الله عنها، أبلغَ تَصوير فَقالَت:
وأجمل منك لم تَر قَطُّ عَيني * وأكمَلُ منكَ لَم تَلدِ النِّساء
خُلقتَ مُبَرَّأً مـــــن كل عيبٍ * كأنك قد خُلقتَ كما تَشاء
فَصلوا على سيدنا محمد و زيدوا في مَحَبَّته.
غَزالُ الفَلا والجِذع حَنَّ لِوَجهِهِ * وفــــــي كلِّ وَجْهٍ للحَنين مُسَوِّغ
غَليلي مَتى يُشفى بتقبيل قَبــــره * مَتى صَحن خَدِّي في ثَراه يُمَرَّغ
غَرست بقلبي حُبَّه زَمَنَ الصــبا * فوالله مــــــــــــا عن حبه أتَرَوَّغ
لَقد دَأبْنا، بِفَضل الله تعالى، منذُ أكثرَ من ثَلاثة عُقودٍ على تَصحيح مَفاهيم التَّصوُّف، حتَّى تكون أعمالُنا مُطابِقةً للشرع الحَنيف، متصلةً بأنوار القرآن الكريم والسُنَّة المُطَهَّرة. ونُواصلُ – عَلى بركة الله- في خُطبَتنا هذه نَفسَ المَنهج. وسنَتَطرَّق إلى الحَضْرة باختِصارٍ بَيانًا لِمَعناها وشرحًا لِمَشروعِيَتِها وذِكْرًا لآدابِها وثَمراتِها.
ومِن المعلوم أنَّ الشيخ سيدي محمد المدني، رَضيَ الله عنه، قد أفردَ للحَضْرَة فَصْلَيْن كامِلَيْنِ في كِتابهِ “برهان الذاكرين“، فَصلٍ في اسم الصدر وفَصْلٍ في الاهتزاز، كما تعرَّضَ لَها في رِسالَةِ تُحفَة الذاكرين بمُحاوَرَة وحِكَم العارِفين. فَقالَ في بَعض حِكَمه: ” الحُضور مع الله في كلِّ حالٍ من الأحوال من لَوازِم الدِّين”، كما تَعَرَّضَ لَها في بَعضِ أشْعارِه، ومِن ذلك قولُه:
فَيا لَهـــا من خَمرَةٍ هامَت بها * أرْواحُ أهـلِ الذَّوق والمَحَبَّة
تَطارَب الأشباح غيبًا في البَها * فَهَززتها رَقْصَةٌ مَع رَقْصَة
وقولُه:
لا تَلم عَبدَ الهَوى فيما جَرى * في اهتزازٍ واضطرابٍ واصطلامٍ
وقوله أيْضًا:
يا لائمي دَعني مالي بَراح * عِشْق الإله فَنِّي فلا جُناح
فَلا مـلام عَنِّي إن قلت آح * أو قُمتُ أغَنِّي بَينَ المِلاح
وللحضرة أسماءُ عَديدَة بحسب المقصود منها: فَهِيَ “الحَضْرَة” عند أهل الطريقة المَدنية وتَعني: الحُضورَ مَع الله في نَفْحَةٍ ربانِيَّة، ومنها: “اسْمُ الصَّدر” لأنها ذِكْرٌ مَخْصوصٌ يَخْرُج مِن الصَّدر، ومِنها “العِمارَة” وهي تَسمية أهل المَغرب والجَزائر، ومَعناها أن يَعمُرَ المريد قلبَهُ بِحبِّ الله ورَسوله، صلى الله عليه وسلم من خلال الذِّكْرِ. ولا مُشاحَّةَ في الأسماء، والعبرة بِمَعانيها.
فَمعنى الحَضْرَة مِن خلالِ أسمائِها المُتَعَدِّدة يَشْمل هذا النَّشاط الرُّوحي التي يُزَوِّد المُريدَ بنورٍ قَلبِيٍّ من خلال الذكرِ، يُمَكِّنُه من مُتابَعَة السير إلى الله والنشاط في التَّوَجُّهِ إلَيْهِ. وقد ذَكرَ الشيخ سيدي محمد المدني، رضي الله عنه، ما يفيد أنَّ الحضرة في الطريقة المدنية وَسيلَة مِن وَسائِل تَربية الفُقَراء وتَرقية نُفوسِهم فقال: “الاهتزاز – يَعني الحَضرَة- يَقْطَع عُروقَ الكِبْر ويُمَزِّقُ رداءَ الخُيَلاء لِما فيه من مُخالَفَة حُظوظِ النَّفس، التي هي مَهْرُ طَريقِ الله، إذِ الوُصول إلى اللهِ لا يَكون إلا بِتَرْك النَّفْسِ ولَوازمِها”.
ويَقودُنا هذا التعريفُ إلى البَحث عن مَشروعية الحضرة. يقولُ الشيخ سيدي أحمد العلاوي، رَضيَ الله عنه، لَمَّا سُئِلَ عن حُكم اهتزاز الصوفية أثناءَ الأذكار: “إنَّ الصُّوفيَّة لا يَقولون بوجوب ذلك، ولا بِتَبديعِه، حتَّى يُعَيَّروا بأنَّهم زادوا في دين الله ما لَيس منه، وإنَّما يَبعَثهم على الاهتزاز ما يُهاجِمُهم من الشَّوق والوِجدان حَالَةَ الذِّكْر”. يَقول الشاعر :
ما في التواجد إنْ حَقَّقتَ مِن حَرَجٍ * ولا في التَّمايُل إن خَلَصْتَ من بأس
فَقمتَ تَسْعى علــى رِجْلٍ وحُقَّ لِمَن * دَعـــاه مَولاه أن يَسعى عَلى الرَّأس
فالحَضرَة هي ذكر لله تعالى في حالة الوُقوف حَلْقَةً ومُرافَقة الذِّكرِ بِشَيءٍ من الاهتزاز والتَّواجُد. يقول الله تعالى : ” الذين يَذكرونَ اللهَ قِيامًا وقعودًا وعلى جُنوبهم “، ويَقول العلاَّمَة الألوسي في تفسيره: رُوحُ المَعاني: “حُكِيَ عن ابْنِ عُمَرَ وعُروَةَ بن الزبير وجَماعَةٍ من الصحابة، رَضيَ الله عَنهم، خَرجوا يَومَ العيد إلى المُصَلَّى فَجعلوا يَذكرونَ الله تعالى. فَقال بَعضُهم أما قال الله تعالى: “يَذكرونَ اللهَ قِيامًا وقُعودًا”، فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامِهِمْ.
وأخْرَجَ الحافِظُ المَقدسي برجال الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: كانَت الحَبَشَة يَرقصون بين يَدَيْ رَسولِ الله، صَلَّى الله عليه وسَلَّم، فَقال عليهِ الصَّلاةُ والسلام: مَاذا يَقولون؟ فقيل إنَّهُم يَقولون: مُحَمَّدٌ عَبدٌ صالح. فَلم يُنْكِر عَلَيْهِم، بَل أقَرَّهم على ذلك. والمَعلوم أنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ تُؤخَذ من قول النَّبي، صَلَّى الله عليه وسلم، ومن فِعلِهِ وإقرارهِ. وفي الحديث دليلٌ عَلى صِحَّةِ الجَمْع بَينَ الاهتزاز المُباح ومَدْح المصطفى عليه الصلاة والسَّلام. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ” كان رسول الله صلى لله عليه وسلم يَذكرُ اللهَ في كلِّ أحيانِهِ”. وذُكِرَ في مُسنَد الإمام أحمد عَن عليٍّ، كَرَّم الله وَجهَه، قالَ: أتيتُ النَّبيَ، صَلَّى الله عليه وسلم، أنا وجَعفَر وزَيدٌ. فقال عليه الصلاة والسَّلام، لِزَيدٍ: أنتَ مَولاي فَحَجَل (أي مالَ وتواجَد) وقال لِجَعفَرٍ: أنتَ أشبَهْتَ خَلْقي وخُلُقي. فَحَجَلَ، وقال لي: أنتَ منِّي، فَحَجَلتُ. والحَجْل هو رَفْع رِجْلٍ ومشيٍ على الأخرى، وهو من نَتائِج التواجد كما ذكر ذلك الشيخ محمد الكُردي في كتابه: تَنوير القُلوب.
ومَعنى قَول “آه”، حسبَ عُلَماء اللغة، هو التأوُّهَ الذي يَعْنِي الشَّفَقَة، إمَّا على الناس فيفيد الرحمةَ والدُّعاء لهم، وإمَّا على النفس فَيفيد الضراعة إلى الله والاستغفار. فَكلمة “آه” اسمُ فِعْلٍ، بِمَعنى: أتَوَجَّع وهو كنايَةٌ عن الرَّأفة والتَّضَرُّع حين يُطلقُهُ مَن لا وَجَعَ لَه.
فالحَضْرَة في حقيقتها وجَوهَرها ابتهالٌ إلى الله، وضراعةٌ إليهِ، ورَجاءٌ فيه حَتَّى يَشفيَ قلوب الذاكرين، وهذا النهجُ في الضراعة مُستَمَدٌّ مُبَاشَرَة من الحَديث النبويِّ الذي أورده الإمام الرَّافعي في كتابه: التَّدوين في أخبار قَزوين، بِرَقم 1499 عن السَيِّدَة عائشة، رَضيَ اللهُ عنها، قالَت: “دَخَلَ عَلينا رَسولُ الله، عليه الصلاة والسلام، وعِندنا عليل يَئِنُّ. فَقُلنا لَه: اسكُتْ فَقَد جَاء النَّبيء، صَلَّى الله عليه وسَلَّم، فقال النبيء: دَعوهُ يَئِنُّ، فَإنَّ الأنينَ إسْمٌ مِن أسْماءِ الله تَعالى، يَستَريحُ بِهِ العَليلُ. وحَديثُ الأنين هَذا رَواه الدَّيْلَمي، المتوفى سنة 509، في كِتابِهِ: فِردَوس الأخبار بِمأثور الخطاب، وذَكَرَهُ وَلَدُهُ الحافظ شَهْرَدارَ مَع بيان أسانيده. وذَكَرَهُ الحافظ جلال السيوطي في كتابِهِ: الجامِع الصَّغير، ورَواه المُتَّقي الهندي في كِتابِهِ: كَنْزُ العُمَّال في سُنَنِ الأقوال والأفعال، وذَكَرَ العَزيزي، شارحُ الجامعِ الصَّغير، أنَّ هَذا الحَديثَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
وفي هذا الحَديث أعلَم النبيء، صَلَّى الله عليه وسَلَّم، الصحابِيَّ المَريض (والغالب أنه من آل البيت وإلا ما كانَ لِعائشةَ أن تَتَكَلَّمَ مَعَه) أنَّ أنينَهُ تَضَرُّعٌ مَحمودٌ، وذكرٌ لِله، وأجازَ لَهُ التَّأوُّهَ مُعتبرًا إيَّاهُ ذِكْرًا ودُعاءً بالشفاء والرحمة، تَعليمًا منه، صلى الله عليه وسلم، لَنا أنْ يَكونَ المُؤمِن ذاكِرًا لله في كلِّ أحْوالِه، متضرعًا لَه في أوقات شِدَّتِهِ ورخائِهِ. وممَّا يَدعَم هذا الاعتبار المَحمود وَصْفُ اللهِ تعالى سَيِّدَنا إبراهيمَ عليه السلام -في القرآن- بِالأوَّاه الذي فُسِّرَ بكثرة الضراعة و الدعاء. ولا يصفُ اللهُ تعالى إبراهيم إلاَّ بأمرٍ مَحمودٍ، يليق بمقام النُّبُوَّة.
وأمَّا ما ذَهب إليه الحافظُ الغُماريُّ من أنَّ الحديث مَوضوعٌ، لوجود محمد بن أيوب بن سويد في سَنَدِهِ، فَرَدَّه العالم الأزهريُّ الشيخ محمد بن عِمران بن أحمد قائلاً: قَد التبس على النَّافي اسم الراوي الكاذب باسم غيرِه مِن رُواةِ هَذا الحديث، لِأنَّ رَاوي الحَديث هو مسعود بن محمد الرملي، رَوى عَن أيوب بن رشيد، لا عن أيوب بن سُوَيْد، المُتَكَلَّمِ فيهِ بالضَّعْفِ.
فَنَحن نُغَلِّبُ الظَنَّ في حُسْنِ الحَديث الشريف كما غَلَّبَه الشيخ سيدي محمد المدني لا سيما وأنَّه مَعضود بِغَيره من الأحاديث التي تُؤَكِّدُ أنَّ التأوه أي قول: آه هو صيغة عَربيَّة فصيحة من صيغ الضراعة والذِّكْرِ والرَّجاء. فَقَد أورَدَ الإمام القرطبي أنَّه ذُكِرَ رَجلٌ عندَ النبيء، صلى الله عليه وسلم، يُكثِرُ ذكرَ اللهِ ويُسَبِّح فَقال: إنَّه لَأوَّاهٌ، وهناكَ حديث ثالثٌ قال فيه أبو ذَرٍّ: كانَ رَجلٌ يُكثرُ الطوافَ بِالبَيْت ويَقول في دُعائِهِ: أوْهِ أوْهِ. فَشكاه أبو ذرٍّ إلى النبيءِ، صَلَّى الله عليه وسَلَّم فقال: دَعه فإنَّه أوَّاه. فَخَرجتُ ذاتَ لَيلَةٍ فإذا النبيء، عَلَيه الصَّلاة والسلام، يَدفنُ ذلكَ الرَّجلَ ليلاً ومَعَه المِصباح.
ويَقول الله تعالى في وصف سيدنا إبراهيم ” إنَّ إبراهيمَ لأوَّاهٌ حَليمٌ “. ويقول أيضًا “إنَّ إبراهيمَ لَحليمٌ أوَّاهٌ مُنيب “. واتَّفَقَ المفسرون على أنَّ كلمةَ “أوَّاه” هي صيغة المُبالغة من التَّأَوُّهِ، تَدُلُّ عَلى المَدح والثَّناء، وقَد فَسَّرها العلماء بخمسَةَ عَشرَ قَولاً، تَعود كلُّها إلى الشَّفَقَة إمَّا عَلى النَّفس، فَتفيدَ الضَّراعَةَ والاستغفارَ، وإمَّا على النَّاس فتفيدَ الرَّحمَةَ بهم والدُّعاءَ لَهم”، كما ذكرَ العَلامة الإمامُ مُحمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير.
ولَو لَم يَكُن الـتَّأوُّه من فَضائِل الأعْمال، لَما مَدحَ به الله تَعلى أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام في مُناسَبَتَيْن اثنَتَيْن، فليُتَأمل ذلكَ.
هذا ولِهَذه الهَيئَة من الذِّكْر ضَوابِطُ وآدابٌ لابدَّ مِن مُراعاتِها ومن ذلك:
1- عَدَم الشُّروع في الحَضرَة دون إذن الشيخ أو المُقَدَّم الذي يعطي إشارة انطلاقها بِيَدَيْهِ أو عَينَيْهْ دونَ اعتمادِ التَّصفيق.
2- عَدم تَحريف النطق باسم “آه” الذي دَلَّت عَليه الآثار المُحَمَّديَّة وثَبَتَت صيغتهُ عندَ أئِمَّة اللغَة.
3- لُزوم الوَقار والسَّكينَة أثناءَ الاهتزاز حتَّى لا يَذهَبَ الخُشوع والحُضورُ مَع الله، فالمقامُ مقامُ ذِكرٍ وتَضَرُّعٍ، مَع وجوب الإنصات الى الحادي الذي يسوق الحَضرَةَ من خلال الإنشاد ومُتابَعة المعاني التي يوردها إعانةً للأرواحِ عَلى العُروج وتَرقيةً لها في مَعارج اليقين. واستَدَلَّ على ذلك الإمام الغَزالي بأنَّ الحداء بالرَّجْز والشعر لَمْ يَزَلْ يُفعَل في الحَضْرَة النَّبَويَّة، ورُبَّمَا التَمَسَ النَّبي ذلكَ.
4- استِشعار حالة العُبوديَّة المُطلَقَة لله والمَحَبَّة الخالصة له والرَّجاء في فَضله ورحمته أثناء الذكر، فَالحَضْرَة دعاءٌ وتَضَرُّعٌ للهِ، يَجب أن يَكونَ بكلٍّ خُشوعٍ حتَّى يَطمِئنَّ القلب: “ألا بِذِكرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القلوب”. وقد يساعدُ عَلى الخشوع إغماضُ العَينين.
5- إنهاء الحَضرَة بصيغَة: الله، مُحَمَّد رسول الله – و الصلاة والسَّلام على رسول الله والدُّعاء وقراءة الفاتحة حتى يَستعيد المريد حالة التَّوَجُّهِ القَلبي لله عزَّ وَجَلَّ. ويُختم الدعاء بالصلاة على النبيء، صلى الله عليه وسَلَّم لقوله عليه الصلاة والسلام : “كلُّ دعاءٍ مَحجوبٍ حَتَّى يُصَلَّى عَلى النبيء، صَلَّى الله عليه وسَلَّم.
6- لا تكون الحَضرة أمرًا مُصطنعًا بل هي ثمرةُ التقاء مَجموعَةٍ من الأركان: أمْداح الحَضْرَة الأحدية أو المحمدية باللفَظ الرَّائق والمعنى الفائق، مَعَ الصَّوت الحَسَن الخارِق، فيصادفُ ذلكَ قلبًا سليمًا صافيًا تُحَرِّكُه داعية الهوى، وتُهَزهزه الأشواق الصادقة لله.
وصَفوة القول إنَّ الحَضرَةَ في الطريقة المدنية لا تَخرج عن كَونِها هَيْئَةً مَخصوصة في ذِكر الله، وعَمَلاً مباحًا، لا نَصَّ على حُرمَتِه أو كَراهَتِهِ، بل هي نهجٌ لتَربية المُريد، وهي من لَحظات الأنس مع الله الحَميدِ، وانعِتاقٌ من الإطلاقِ والتَّقييد، تَسبقها تلاوة القرآن المجيد، وإنشادُ المَديح، فَتَنتَعش الأرواح وتَهتَزُّ خلالها الأعضاء بسبب الأحوال الربَّانيَّة التي تَعتري الذاكرين أثناء الذكر.
وهذا ما فَتَحَ الله به في المسألة أوْرَدْناهُ مع جَمال الظنّ في الله. وهو المسؤولُ أن يُجازينا بقَدر حُسن الظنّ “وإنما الأعمال بالنِيات”.
فَصَلوا على سيدنا محمد وزيدوا في مَحَبَّتِه.
غــوادٍ إلى قبر الحبيب بشوقهم * وقَد فَرغوا إلا أنا لَست أفرَغُ
غَرامي به فوق الغرام ومُهجَتي * تَــذوب وقَلبي بالصبابة يُلدَغ
غَـــرقت بأمواج الذنوب وإنَّني * لأرجــو به سبلَ النَّجاة تُسَوَّغ
ومِسكُ الخِتام : يَقول سيدنا إبراهيم الخليل في بيت المقدس ليلة الإسراء والمِعراج بالسَّيِّدِ الأعظم، صَلَّى اللهُ عليه و سلم: الحمد لله الذي اتَّخَذني خليلاً وأعطاني مُلكًا عَظيمًا، وجَعَلَني أمَّةً قانتًا يُؤتَمُّ بي، وأنْقَذني من النَّار وجَعلها عَلَيَّ بَرْدًا وسَلامًا.
ثمَّ إنَّ موسى أثنى على رَبِّهِ فَقال: الحَمد لله الذي كَلَّمني تَكليمًا وجَعَلَ هَلاكَ آلِ فرعونَ ونَجاةَ بَني إسرائيلَ عَلى يَدَيَّ، وجَعلَ من أمتي قومًا يَهدون بالحق وبه يَعدِلونَ.
ثم إنَّ داودَ أثنى على رَبِّه فَقال: الحَمدُ لله الذي جَعلَ لي مُلكًا عَظيمًا، وعَلَّمَني الزَّبورَ، وألانَ لي الحديدَ وسَخَّرَ لي الجِبالَ يُسَبحنَ والطيرَ وأعطاني الحكمَةَ وفَصلَ الخِطاب.
ثم إنَّ سُليمانَ أثنى عَلى رَبِّهِ فَقالَ: الحَمد لله الذي سَخَّرَ لي الرياحَ وسَخَّرَ لي الشياطينَ يَعملون ما شئت مَحاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجَوابي وقدورٍ راسياتٍ، وعَلَّمني منطقَ الطَّيرِ وآتاني من كلٍّ شَيءٍ فَضلاً وسَخَّرَ لي جنودَ الشياطين والإنْس والطَّير وفَضَّلَني عَلى كَثيرٍ مِن عِبادِهِ المؤمنين وأتاني مُلكًا عَظيمًا، لا يَنبَغي لأحدٍ مِن بَعدي وجَعَلَ مُلكي ملكًا طَيِّبًا لَيس فيه حِساب.
ثمَّ إنَّ عيسى أثنى على رَبِّه فَقال: الحَمد لله الذي جعلني كلمتَه وجَعَلَ مِثلي مثل آدَمَ خَلَقَه من تُرابٍ ثمَّ قالَ لَه: كُن فَيكون وعَلَّمني الكتابَ والحكمَة والتوراةَ والإنجيلَ وجَعَلَني أخلُق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله وجَعَلَني أبرِئُ الأكمَهَ والأبْرَص وأحْيي المَوتى بإذنِهِ ورَفَعَني وطَهَّرَني وأعاذني وأمِّي من الشيطان الرجيم. فَلم يكن للشيطان عَلينا سَبيلٌ.
ثمَّ إنَّ مُحَمَّدا، صَلى الله عليه وسَلَّم، أثنى على ربه فقال: الحَمد لله الذي أرسلني رَحمَةً للعالمين وكافَّةً للنَّاس بشيرًا و نَذيرا، وأنزَل عَلَيَّ الفرقانَ، فيهِ بَيانٌ لكلِّ شَيءٍ. وجَعلَ أمَّتي خَيرَ أمَّةٍ أخرِجَت للنَّاس، وجَعَلَ أمتي أمَّةً وسَطًا وَجَعَلَ أمتي هم الأولين والآخرين وشَرَحَ لي صدري، وَوَضَعَ عَنِّي وِزري ورَفَعَ لي ذِكري، وجَعَلَني فاتحًا وخَاتِمًا. فَقال إبراهيم: بهذا فُضِّلَكم محمد.
فَصلوا على سيدنا محمد وزيدوا في مَحَبَّتِهِ.
والسلام عليكم ورَحمَةُ الله وبَرَكاتُه.