بِسم اللهِ الرَّحمن الرَّحيم
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وَ بارِك عَلى سَيِّدنا ومَولانَا مُحَمَّدٍ، وعَلى آلِ سَيِّدنا مُحَمَّدٍ الّذي جَعلَ اللهُ حُبَّهُ أجَلَّ ما يَكتَسبهُ العِباد، وأفْضَلَ ما يُدَّخَرُ لِيَومِ المَعاد.
أهْــدت لنا طيــــبَ الرَّوائِـــــحِ يَثـــــرِبُ * فَهُبُــــــوبُها عِنـدَ التَّنَـــسُّمِ يُطْــــــرِبُ
رَقَّـت، فَـــرَقَّ مِن الصَّبــــابَةِ والأَســــى * قَلــــبٌ بِنيـــــــران البِعــــاد يُعَــــــذّبُ
شـــــوقًا إلى أســـــنى نبــــــــيٍّ، حُـــبُّهُ * كنزُ النَّجــــــاة فَنـــــعمَ هـــذا المَطلَبُ
الحَمدُ للهِ الواحِدِ الأحَدِ، العَزيزِ الوَهَّاب، مَالِكِ المُلوكِ ورَبِّ الأرْباب، أمَرَ جميعَ عبادِه بالسنَّةِ والكِتاب، ونَهاهُم عَن ارْتِكابِ الذُّنوبِ لِيَبْتَعِدوا عَن العَذابِ.
نَحْمَدُه تَعالى ونَشكرُهُ عَلى نِعَمِهِ التي لا يُحْصيها عَدٌ ولا يَسَعُها كتابٌ، وأشْهَد أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شريكَ لَه شهادَةً نَجِدُها يومَ العَرض والحِساب، وأشْهَدُ أنَّ سَيِّدنَا ومَولانَا وحَبيبنَا وطَبيبَنَا مُحَمَّدًا، عَبدُهُ وَرَسولُه ومُصطَفاهُ مِن خَلْقِه، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ عَلى سيِّدنا محمدٍ، وعَلى آلِهِ وكافَّةِ الأصحاب، وأهلِ عِتْرَتِهِ والمُؤمنينَ به إلَى يَوم المَآب.
أمّا بعدُ،
فَيا أيها الحاضِرونَ، صَلُّوا عَلى المُصطفَى، لَعَلَّ اللهَ يَرحمُنَا.
أجَلُّ الكَرامات دَوامُ التَّوفيق للطَّاعاتِ
إنَّ الكَرامَةَ أمْرٌ خارقٌ للعادَة، يَظْهَرُ عَلى يَدِ عَبدٍ صالِحٍ، مُلتَزمٍ بِمتابَعة النَّبيّ، صلَّى الله عليه وسَلَّم، في أقْواله وأفْعالِهِ وأحوالِه، يُزَيِّنُه صَحيحُ الاعْتقاد، وصالِحُ الأعمال. يَقول الإمامُ القرطبيُّ في تفسيرهِ (الجامِعُ لِأحْكام القرآن): “كَراماتُ الأوْلياء ثابِتَةٌ عَلى ما دَلَّت عَليه الأخبارُ الثابِتَةُ والآياتُ المُتَواتِرَةُ وهُوَ مَذْهَبُ أهلِ السنَّة”. ولاَ تَقَع الكرامة باخْتِيار العَبد وطَلَبِهِ بَل يُجريها اللهُ تَعالَى عَلى يَدَيْهِ دُونَ شعورٍ ولا سابقِ طَلَبٍ. فَمَذهب الأشاعرة ثُبوتُها قَطعًا وهذا ما يُؤَيِّدُه الإمامُ البَاجوريّ في شَرح جَوهَرَةِ التَّوحيد حينَ قالَ :
وأثْبِتَــــنْ للأوليـــــــاء الكَـــــرامَـــــــة * ومَــــن نَفــــــاها فانْــــــبُذَنْ كَــــلامَه
يَعني: اعتَقَدوا وقوعَ الكَرامَة ، التي قد تَقَعُ في حَياة الوَليِّ وَبَعدَ مَوتِهِ، كَما ذَهبَ إلَيه جُمهورُ أهلِ السنَّة. جاءَ في قصَّةِ السيِّدَة مَريمُ في قوله تعالى :” كلَّمَا دَخَلَ عَليهَا زكرياءُ المِحرابَ وَجَدَ عندَها رِزقًا قَال يَا مَريَمُ أنَّى لَك هذا ؟ قالت هوَ مِن عِندِ اللهِ، إنَّ اللهَ يَرزُق مَن يَشاء بِغَيرِ حِساب ” صَدَقَ اللهُ العظيم، سورة آل عمران .الاية 37. فكانَ عندَها فاكهةُ الصَّيفِ في الشِّتاء، وبالعَكس. ومِنه أيضًا، ما جَاء في قِصَّةِ أهْلِ الكَهفِ الذينَ لَبِثوا في الغارِ نِيامًا بلا طعامٍ، ولا شَرابٍ، فَلَمْ تَتَحَلَّلْ أجْسادُهم مُدَّةَ ثلاثمائةِ عامٍ وازْدادوا تِسعًا.
هذا ولا يَنْبَغي النَّظر في الكرامة على أنَّها مِن فِعلِ العَبد، بَلْ هي مِن آثارِ فِعلِ اللهِ تَعالى. كما تُعَدُّ أيْضًا من إكْرام اللهِ للنَّبي، صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم، فَكلُّ كَرَامَةٍ لِوَليٍّ هي مُعجزَةٌ للنَّبيّ، عَلَيهِ السَّلام، لِدَلالَتِهَا عَلى صِدْقِه وصِحَّةِ دِينِهِ، كَما ذَكَرَ الإمامُ النَّبهانيُّ. ويَقولُ الإمام القُشَيْري في الرِّسالَة القُشَيْريّة :”اعْلَمْ أنَّ مِن أجلِّ الكَرامات التي تَكونُ للأوْلِياء، دَوامُ التَّوفيق للطَّاعاتِ، والعِصْمَةُ عَن المَعاصي والمُخالَفات”.
ومَع إقْرارِنا بِحُصول الكَرامَة – كَما بَيَّنَه عُلماءُ العَقيدَةِ- فَنَحنُ في الطَّريقَة المَدَنيَّة نَضْبِطُ التَّعامُلَ مَعها بضوابِطَ أرْبَعَةٍ :
1- لا نَجْعَلُ مِن الكراماتِ غَايَةَ السَّيرِ إلَى اللهِ، و لا مَقْصَد الانْتِسابِ إلَيهِ. ولا
يَنْبَغي لَها – إنْ حَصَلَت- أنْ تُوقِفَ السَّيرَ إلى اللهِ، فالسَّالِكُ يَرتَجي وَجْهَ الله لا غيرَ، وَيَسْعَى إلَى مَرضاتِهِ، ولا يَنْشُدُ إلاَّ مَعْرِفَتَهُ.
2- لا يَنْبَغي للمُريد أنْ يَشْغَلَ أوقاتِهِ بالحَديثِ عَن الكَراماتِ والتَّفاخُرِ بها، حَتَّى يَنْشَغِلَ عن المُكْرِمِ، جَلَّ جَلالُه، انْشِغالَ العَبد بالنِّعمَة عنِ المُنْعم. إذِ الأوْقاتُ نَفيسَةٌ، يَجِبُ أنْ تُصرَفَ في الاسْتِزادَةِ من طَلَبِ العلومِ والعَمَلِ الصَّالحِ.
3- يَنبغي اعتبارُ الاستِقامَة أفضلَ مِن ألْف كَرامَةٍ، كَما وَرَدَ في الأثَرِ المَشهورِ، يَهَبُها اللهُ لِوَلِيِّهِ ويُجْريها عَلى يَدَيْهِ.
4- لاَ يَنْبَغي اعتبار حُصولِ الكرامات شَرْطًا من شروط أهْليّة الشّيخ للإرشاد، بلْ أعْظَمُ كرامةٍ للشّيخِ هي إجْراءُ الصَّالحاتِ عَلَى يَدَيْهِ، بِتَيْسيرٍ مِنَ اللهِ وتوفيقِهِ للتربية وإقامة شَعائِر الطَّريق، ومَا قد يَحصلُ -بَعدَ ذلكَ- من خَرْقٍ للعادات فهو مِن قَبيلِ الفَضْلِ والإنْعام، ولاَ دَخْلَ لَه في أهليّةِ التَّربية أو عَدَمِهَا.
المُصطَـــفى أعْلـــى البَريَّــــة مَنصِـــــبًا * قَد جَلَّ فـي العَليــــاء ذاكَ المَنْـــــصِبُ
فُـزْنـَـا بهِ بَيْـــــنَ الأنــــام بــِديـــمَـــــــةٍ * أبَــــدًا عَلَيـــــــــنَا بالأمـــــانِي تسْكَبُ
حازَ السِّيـــــــادَةَ والكَــــــمالَ مُحَــــــمَّدٌ * فَإلَيْـــــه أشــــــتاتُ المَحــــامِدِ تُنْسَبُ
شَعَرُ رَسولِ الله، صَلَّى الله عليه وسلَّم
أيّها العُشّاقُ للآثار المُحَمَّديّة !
إنَّ التَبَرُّكَ بِآثار النَّبي، صَلَّى الله عَليه وسَلَّم، في حَياتِه وبَعدَ وَفاتِهِ جائزٌ شَرعًا، ويكونُ بالتّقبيل أو اللّمس، سَواءً لِما انْفَصَلَ مِن جَسَدِهِ الشَّريف، عَليه الصّلاة والسَّلام، أوْ مَا اسْتَعْمَلَه مِنْ آنيَةٍ و لِباسٍ وأدَواتٍ أخْرى. فَقد ثَبَت عن الصَّحابة الكِرام أنَّهم كانوا يَصنعونَ ذلكَ بِحَضْرَةِ النَّبي، صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ولا يُنْكِرُه عَلَيهم. كما تَبَرَّكَ الصحابةُ بِشَعَرِ سَيِّدنَا مُحمدٍ، عَلَيه الصَّلاة والسلامُ، الذي وَصَفَهُ الكثيرُ مِنهم بأنَّهُ لَيسَ مُسْتَرْسِلاً، كَشَعَرِ الرُّوم، ولا جَعْدًا (شَعَرٌ قَصيرٌ مُتَقَبِّضٌ مُلْتَوٍ) كَشَعَر السُّودانِ، يَصلُ إلى أنصاف أذْنَيْهِ حينًا، ويُرْسِلُه أحيانًا أخْرى إلَى شَحْمَةِ أذُنَيْهِ أو بَينَ أُذُنَيْهِ وعاتِقِهِ، وغايَةُ طولِهِ أنْ يَضربَ مَنْكِبَيْهِ إذا طالَ زَمانُ إرْسالِهِ”.
قالَ الإمامُ النَّوويُّ: لَم يَحْلِق النّبيُ صَلَّى الله عليه وسَلَّم رَأسَهُ بالكُلِّيَّةِ إلاَّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: في الحُدَيْبِيَّة، وفي عُمرَة القَضاء، وفي حَجَّةِ الوَدَاعِ. وَوَصَفَت السَّيدةُ أمُّ مَعْبَدٍ المُصطفَى، عَلَيه الصلاة والسَّلام فقالتْ :” هو أَحْوَرُ ) أي شَديدُ بَياضِ العَينَين مَع شدَّةِ سَوادِ سوادهِما( أَكْحَلُ ) أي: ذو كُحْلٍ وهو اسْوِداد أجْفانِهِ خِلقَةً) أَزَجُّ (ذو حاجبٍ رَقيق طَويلٍ) ، أَقْرَنُ) أَي مَقْرُون الحاجِبَيْن)، شَدِيدُ سَوَادِ الشّعَرِ، إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ، وإذَا تَكَلَّم عَلاهُ البَهاءُ، أجْمَلُ النَّاس، وأبْهاهم مِن بَعيدٍ، وأجلاهم وأحْسَنُهمُ من قَريبٍ“. اه.
ولَم يَكنْ في رَأسِ النَّبي، صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم، شَيْبٌ إلاَّ شُعَيْراتٌ، في مَفْرِقِ رَأسِهِ، فَقد أخْبَرَ ابنُ سَعيدٍ أنَّهُ مَا كان فِي لِحيَةِ النَّبي، عَلَيه الصَّلاة والسَّلام، ورَأسِهِ إلاَّ سبعَ عَشْرَةَ شَعْرَةً بَيضاءَ. ومِن صِفاتِ الشَّعَرِ الشَّريفِ أنَّهُ لا يَحتَرِقُ بالنَّار وأنَّهُ لا ظلَّ لَه.
ويَحتَفظُ المُسلمون بِشَعَرِهِ، صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم، فَهذا عنده شَعْرَتَانِ والآخر ثلاثٌ والمَحظوظ من حَظِيَ بمجموعة من الشَّعَرِ، ويَتَبَرَّكُ بها المسلمون و يَسْتَشفونَ، فَقد وَرَدَ في السُّنَنِ الكُبرى للبَيهقي عَن أنَسٍ بن مالكٍ قال :”لَمَّا حَلَق رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، يَومَ النَّحْرِ قَبَضَ شَعَرَهُ بِيَدِهِ اليُمنَى وقَالَ: يا أَنَسُ ! انْطَلِقْ به إلى أبي طَلحَةَ وأمِّ سَليمٍ. قَال: فَلمَّا رَأى النَّاسُ مَا خَصَّهُ بِه من ذلكَ، تَنافَسوا في بَقِيَّةِ شَعَرِهِ، فَهذَا يَأخذُ الخَصْلَةَ، وهَذَا يَأخُذُ الشَّعَراتِ، وهَذَا يَأخُذُ الشيءَ القَليلَ. قَال محمّدٌ: فَحَدَّثتُ الحَديثَ عُبَيدَةَ السَّلمانيَّ فَقال: لَئِن تَكونَ عِندي مِنهُ شَعْرَةٌ أحَبُّ إليَّ مِن كلِّ أصْفَرَ وأبْيَضَ أصبَحَ على وَجْهِ الأرْضِ”.
وَفِي الصَّحيحَيْن أنَّ النَّبي، صَلَّى الله عليه وسَلَّم، أمَرَ أبَا طَلحَةَ وزَوجَهُ أمَّ سَليمٍ بِقِسمَةِ شَعَرِهِ بَيْنَ الصَّحابَة: النِّساء والرِّجال، الشَّعرَةَ و الشَّعْرَتَينِ، وأنَّه، صَلَّى الله عَليه وسَلَّم، تَوَلَّى قِسْمَةَ ذلكَ بِنَفْسِهِ. قالَ الزَّرْقانيُّ في شَرْح المَواهب: إنَّهُ صَلَّى الله عليه وسَلَّم قَسَمَ شَعَرَهُ بَينَ أصْحابِهِ لِيَكونَ بَرَكَةً باقيَةً بَينَهم وتَذكِرَةً لَهم، وَكَأنَّهُ أشارَ بذلكَ إلَى اقْتِرابِ أجَلِه الشريفِ.
ورُوِيَ أنَّ أبَا أيُّوبٍ الأنْصاريِّ أخَذَ مِن لِحيَةِ النَّبيّ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم، شَيئًا فَقال: لا يُصيبُكَ سوءٌ يا أبَا أيُّوبٍ.
سيدنا أبو زَمْعَةَ البَلَويِّ، رَضيَ الله عنه
أيّها الأعزّاءُ الأبرار:
صَلّوا على سيّدنا محمّدٍ وزيدُوا فِي مَحَبَّتِهِ.
صَيَّـــــرتُ أمْــــداحَ النَّبي المُصطَــــفى * لِي مَذْهَــــبًا يا نعــــمَ هَذا المَذْهَــــــبُ
فَعَــلَيَّ مِن أمْـــداحِ أحْـــــمَدَ خِلــــــــعَةٌ * مَوشِّـــــيَّةٌ ولَهـــــا طِــــرازٌ مُذَهَّــــبُ
وَ بِمَدحِـــــه شَمــسُ الرِّضا طَلَعَت عَلَى * أُفُـــــقي تُضـــــيءُ، ونُورُها لاَ يَغْرُبُ
لَقد شهدَ تاريخُ البشريّة ظهورَ رجالٍ بَذلوا في سبيل الله تَباركَ وتَعالَى وفي سَبيلِ سَيِّدِ الوُجودِ، عَلَيهِ أفضلُ الصَّلاة، وأزْكى التّسليم، التّضحياتِ الكُبرى. هَؤلاءِ الرِّجال عاصَروا السيِّدَ الأكرَم، صلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم، وآمَنوا به، وصاحَبوهُ ونَصَروهُ، وَمِن بَينِهم سيِّدُنا عُبَيْدُ بنُ أرقَم البَلَويِّ، مِن قَبيلَة بَلَى وهي من قبائلِ قُضاعَةَ الحِمْيَريَّة القَحطانيّة، وكُنيته أبو زَمْعَة، اشْتَهر بها. رَأى سيِّدُنا أبو زَمعَة البلويُّ رَسولَ اللهِ، صلَّى الله عليه وسَلَّم، وآمَنَ به. وهو من أهلِ بَيعةِ الرِّضْوانِ الذينَ لهم مَزيّةٌ وفَضلٌ. ولَم يَروِ سَيّدنا أبو زمعة البلويّ كثيرًا من الأحاديث، لانْقِطاعِهِ بِمِصرَ وتَطَوّعِهِ في الغَزَوات. وقَد ثَبَتَ أنَّهُ شَهِدَ فَتحَ مِصْرَ وبَيتِ المَقْدسِ، وأقامَ بِمِصرَ طولَ المدة التي بينَ فَتحها وفَتح إفريقيّة، أي نَحوًا مِن عشرينَ سَنَةً، وكانَ دخولُهُ لإفريقيَّة في خِلافَةِ سيِّدنَا مُعاويةَ بنِ أبي سفيانَ، في الجَيش الذي قادَهُ مُعاويةُ بنُ حَديجٍ سَنَةَ 45 من الهِجْرَة المُحَمَّديَّة.
ومَن مَظاهِرِ العِنايَة الإلهيَّةِ أنْ كَانَ سَيِّدُنا أبو زَمعةَ البلويّ مِمَّن حَضرَ مع السّيد الأعظم في حَجَّةِ الوَداع، والحَلاَّق يَحْلِقُ شَعَرَهُ الشّريف، فَطافَ به أصحابُهُ الكِرام، رَضيَ اللهُ عنهم، لا يُريدونَ أن تَقَعَ شَعْرَةٌ إلاَّ في يَدٍ رَجُلٍ منهم. وأخَذَ أبو زَمْعَة البَلَويّ شَعَرَاتٍ شريفة وَوَضَعَها في قَلنسوّته (غطاءُ الرَّأس مِثلَ العَرَّاقيَّة) وأوْصى بِأنْ تُوضَعَ شَعْرَةٌ منها على عَيْنِهِ اليُمنى، والثانية عَلى عَيْنِه اليُسْرى، والشَّعْرَة الثالثة عَلى لِسانِهِ عندَ انتقاله إلى الرفيق الأعلى. ودُفنَ في مَوضعٍ بالقَيروانِ فَهو يَحْمِل تلكَ الشَّعَراتُ المُبارَكَة، المُتَأتِّيَة من الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وسلَّمَ، ولذلكَ يُلَقِّبُه أهلُ القَيروان بصاحِب الشَّعَراتِ. ولَه مقامٌ من أهَمِّ المَزارات الدينيّة بتونسَ. ويَرجع تاريخ بنائِهِ إلى عَهد حمودة باشا سنة 1072 للهجرة الموافق 1663 للميلاد ويطلق على المَقام سيدي الصحبي أو السيّد. ويَرْوي الإمام البخاري في تاريخه قولَهُ، صلّى الله عليه وسلّم،: “أيَّما رَجُلٍ من أصحابي ماتَ بِبَلدَةِ قَومٍ فَهو قائِدُهم و نورُهُم يومَ القيامة “. و في حديث مسلم عن أبي موسى، رَضيَ الله عنه :” أنا أمَنَةٌ (أي أمانٌ ورعايةٌ) لأصحابي وأصحابي أمَنَةٌ لأمَّتي”، فَهذا المَقام مُستَودَعُ الأنوار النبويَّة، ومَهْدُ الكَرامات المحمّديّة، وهذه المزايا فازَ بها سيدنا أبو زَمعَةَ البلويّ رَفْعًا لِشأنِ صُحبَتِهِ وتَنويرًا لِذِكْرَاهُ.
ثمَّ دَنَا فَتَدَلَّى..
يا أحْبابَ المُصطَفَى صَلَّى الله عليه وسلم
صَلُّوا عَلَى سَيِّدنَا مُحمّد يا سادة الأمم
أتُرى يُبَــــــشِّرُنِي البَشيــــــر بِقُـــــربِهِ * وأبُثُّ أشــــــواقَ الفُــــؤادِ وأنْــــــدُبُ
ويُقــــال لي: بُشــــراكَ قَـــد نِلتَ المُنَى * يا مَغْــــــرِبيّ إلَى مَــــتَى تَتَغَــــــــرَّبُ
هــــذا مَقَرُّ الوَحــــيِ، هـذا المُصطَـــفى * هَـــــذا الذي أنـــــــوارُه لا تُحْــــــجَبُ
ونَقولُ في مِسكِ الخِتام :
* إذا قالَ العَبدُ: التَّحياتُ لله، حَيَّاهُ أهلُ السَّموات والأرض، وإذا قالَ: الصَّلَواتُ: تَقَبَّلَ اللهُ صَلاتَهُ، وإذا قالَ: الطَّيباتُ، كانَ بريئًا مِن الشُّركِ والشَكِّ، وإذا قال: السَّلامُ عَليكَ أيُّها النّبيّ ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُهُ كَتبَ اللهُ لَه عَشرَ حَسناتٍ. وإذا قالَ: السَّلامُ عَلينَا وعَلَى عبادِ اللهِ الصّالحينَ، كَتبَ الله له بكلِّ مُؤمنٍ ومُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً. وإذا أتَى بالشَّهادَتَيْنِ كَتَبَ اللهُ لَه بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ”.
* سُئل الجُنَيدُ رضي الله عنه عن الدنوّ في قَوله تَعالى :” ثمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فكانَ قابَ قَوسَيْن أو أدْنى” فَقال دنوُّ القُلوبِ منَ المَحبوبِ ذَهابُ البَيْنِ وتَلاشي الأيْن. وقيلَ: دَنا مُحَمَّدٌ مِن رَبِّه بالسؤالِ، فَتَدَلَّى إلَيه رَبُّه بالعَطاء والنَّوالِ”.
وقال بَعضُهم في كتابِ عُيونِ المَجالس: طَلَبتُ مَعنى قوله تعالى: “ثمَّ دَنَا فَتَدَلَّى” ثلاثينَ سَنَةً مِن العُلماء والعارِفينَ حَتَّى رأيتُ تأويلاً صحيحًا وهو أنّهُ، صَلَّى الله عليه وسَلَّم، نَظَرَ عن يَمينِه فَرَأى رَبَّهُ، ونَظَرَ عن يَسارهِ، فَرَأى رَبَّه، ونَظرَ أمامَهُ فَرأى رَبَّه، ونَظَرَ فَوقَهُ فَرَأى رَبَّه، ونَظَرَ خَلفَهُ فَرأى رَبَّه، فَكَرهَ الانصرافَ مِن هذا المقام الشّريف، فَعلمَ اللهُ ذلكَ منهُ. فَقال : يا مُحَمَّدُ، أنتَ رَسولي إلى عِبادِي ولَو دُمْتَ في هذا المَقامِ ما بَلَّغتَ رِسالَتي، فانزِلْ إلىَ الأرض، وبَلِّغْ رسالتي لِعِبادِي وحَيثمَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ أعطيتكَ هذه المَرْتَبَةَ، فلذلكَ قَال: وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيني في الصَّلاة….
*قال العلائي:”فَكانَ قابَ قوسينِ” بِروحِهِ أو أدْنى بِسرِّه، يَعني تَرَكَ نَفسه في السماء، ورُوحَهُ عندَ سِدرَةِ المنتهى، وقَلبَه بِقابِ قَوسَيْن، فَبَقيَ سرُّهُ ورَبَّهُ. فقالت النفس: أينَ القلبُ؟ و قَال القلبُ: أين الرّوحُ؟ و قالت الرُّوح: أينَ السرُّ؟ وقال السرُّ: أينَ الحَبيبُ ؟ فقال الله تعالى: يا نَفسُ لَكِ النعمةُ والمَغفرَة، و يا روحُ لكِ الرّحمةُ والكَرامَةُ، ويَا قلبُ لَكَ المَوَدَّةُ والمَحَبَّة، ويا سرُّ أنا لَكَ.
والسلام عليكم وَرَحمةُ الله تعالى وبركاته .