إنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم أعظمُ النّاس قدرًا وأشرفهم دنيَا وأخرَى، فلولاه ما خُلقت الدّنيا وما فيها ولا كان للوُجود وجودٌ. وقد ثَبتَ له الشّرف على كلّ موجودٍ وهو الغياث إذا ضجّ الأنامُ والشّفيعُ إذا زلّت في القيامة الأقدامُ. لذا وجبَ تعظيمهُ ومحبّته على مرّ الأيّام، ولا سيّما أمّته التي كانت ببركته أكرمَ الأمم وبالرّسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ثبت لهَا الشّرف على من تأخّرَ وَتقدّمَ، وكيف لاَ، وهوَ الشّفيع للمحسن منهم والمسيء، والقائل: “يَا رَبّ أمّتي يا ربّ أمّتي” إذا أشفقَ أكابرُ الرّسل وقال كلّ منهم نفسي نفسي.
فمَحَبُّة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المنزلة الّتي يتنافس فيها المتنافسون، وبرَوْح نسيمها يتَرَوّح العابدون فهي قوتُ القلوب وغذاءُ الأرواح وقرّة العيون، بل هيَ الحياة الّتي من حُرمها فهو من جُملة الأموات، وهي النّور الذي مَن فَقَده فهو في بِحار الظّلمات، وإذا كان الإنسان يحبّ من منَحَه معروفًا فانيا في دنياه مرّة أو مرّتين أو من أنقَذه من مَهلكَة أو مضرّة لا تدوم فما بالك بمن مَنحه مِنَحًا لا تبيد ولا تزول ووَقَاه من العذاب الأليم، وإذا كان المرء يحبّ غيره على ما فيه من صورة جميلة وسيرة حميدة فكيف بهذا النّبىء الكريم والرّسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم.
فقد منحنا الله به منح الدّنيا والآخرة وأسبغ علينا نعمه باطنةً وظاهرة فاستحقّ أن يكون حظّه من محبّتنا لهُ أوفى وأزكى من محبّتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا ووالدينا والنّاس أجمعين، جاء في صحيح البخاري عن سيّدنا أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رجلا سأل النّبىء صلى الله عليه وسلم عن السّاعة فقال متى السّاعة؟ فقال: “ما أَعْدَدْتَ لها”؟ فقال ما أَعْدَدْتُ لها من كبـــــير صلاة ولا صيام ولا صــدقـــة ولكنّي أحبّ الله ورسوله. فقال: “أَنتَ مع من أحببت”. قال أنس فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النّبىء صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت، قال أنس وأنا أحبّ النّبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبّي إيّاهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. وجاء رجل لابن عمر فقال يا أبا عبد الرّحمان وددت أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن عمر كنت تصنع ماذا ؟ قال كنت والله أؤمن به وأقبّله بين عينيه، فقال ابن عمر ألا أبشّرك؟ فقال بلى يا أبا عبد الرّحمان، قال سمعت رسول الله يقول :”ما اختلط حبّي بقلب أحد إلاّ حرّم الله جسده على النّار”.
لقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف سجلّ يصوّر أشرف وأصدق عمل أنجزه بشر على وجه الأرض، ولذلك أبدع أمير الشّعراء أحمد شوقي حين قال مادحا المصطفى صلى الله عليه وسلم
لزمت باب أمير الأنبياء ومن * يمسك بمفــــتاح باب الله يغتنمِ
عَلَّقْتُ من مدحه حبلا أُعَزّ به * في يومٍ لا عزّ بالأنسـاب واللُّحُمِ
وقد روى ابن اسحاق أنّ امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحُدٍ مع رسول الله فقالت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا هو بحمد لله كما تحبّين، فقالت أرونيه حتّى أنظر إليه فلمّا رأته قالت كلّ مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة). وقال سيّدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمّهاتنا ومن الماء البارد على الظّمأ.
وبالجملة فلا حياة للقلب إلاّ بمحبّة الله تعالى ومحبّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا عيش إلاّ عيش المحبّين الّذين قرّت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفُوسُهُم إليه واطمأنّت قلوبهم به واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبّته ففي القلب طاقة لا يسُدُّها إلاّ محبة الله ورسوله عليه أفضل الصّلاة وأزكى السّلام.
الشيخ محمد المنور المدني.