في هذه السطور المباركة والكلمات الطيبة، يشرح الشيخ سيدي محمد المدني رحمه الله ثمار المعرفة ويبيّن نتائجها في الدنيا والآخرة. فالمعرفة بالله فهمٌ عن الله، وقربى منه وتنعّم بلطائف المعاني وكَريم المُشاهدات من خلال كلامه العزيز ومظاهر كونه الكبير.
يقول الشيخ محمد المدني، رضي الله عنه:
1- “وَأمّا مَا يَستَرْوِحُه [[ يعني ما يفهمه أهل الله على طريق الإشارة واللمحة. ]] الخَاصَّة، فَإنَّ السَّابقينَ لمَّا دَخَلوا جَنَّةَ الوِصَال وتَمَتَّعوا بالنّظر إلى ذِي الجلال، جَلَسوا على سُرُرِ المَعْرِفَة وحَقائِقِ التَّوحيد، وَكَانَت تلك السُّررُ مَوضونَةً أيْ مَنْسُوجَةً بالأدلَّةِ الثَّابتَة، أَدلَّةِ الكِتَابِ والسُنَّة المَعصومَيْنِ مِنَ الخَطَأ، مُتَقابِلينَ عَلَى سُررهم بِوُجوهِهِمْ وقُلُوبِهِم، لا يُدْبِرونَ عَن بَعضِهم لِحصول رَابطَة المَحَبَّة بَينَهم.
2- وَيَطوفُ عَلَيهم مَلائكة الإلْهَام بِأقْدَاح العلوم والأذواق والفُهوم على اختلاف أنواعها: فَتَارَةً تَفيض من أكوابِ وأبَاريقِ المَظَاهِر الكَونِيَّة، فَتَكونَ تلكَ المَعرفة مَمْزوجَةً، وتَارَةً تَتَدَفّقُ تلكَ المَعرفة صافيَةً مِن الغَيْرِيَّة، فَتَكونَ في كَأس مِن مَعينِ التَّوحيد الجَاري الذي يكون قَريبَ العَهد من ربّ العالمين.
3- وَلاَ يَحصل لهؤلاء السّابقين عَن شُرب هاته الخمرة الإلهيّة والمَعرفة التوحيديّة دَاءُ صُدَاعٍ ولاَ نَزْفُ عُقولهم وذهابُها كما يَتَوَهَّمه مَن لَم يَذُقْ طَعمَهَا، بَل لا يَزيدُهم شُربُها إلاّ فَتحًا مُبينًا، وعَقلاً مَتينًا، مُحيطًا بالمَظَاهِر الكَونيَّةِ والعَوالِم الخَلْقيّة، بَعدَ أَنْ كَانَ مُقَيَّدًا بالكَثائف، مَمنوعًا مِن التَمتّع برياض اللطائف، مَحْجُوبًا بالظّاهر عَن الباطن، أو نَقول بالحسّ عن المَعْنَى، وإنْ شئتَ قلتَ: مَحْجوبًا بالخَلقِ عَن نُورِ الحَقِّ. انبَثَقَ لَهم نُورُ حَضْرَة القُدس، فَغَيَّبَهم عن عَالم الحِسّ، وزجَّ بهم في رياض الأنْسِ، فَصَاروا يتفكّهون بالمناجَاة تَارَةً، والمُشَاهَدَة أخرى، يَتَمتّعون بحور حَضْرة الجَبروت. كلُّ حَورَاءَ كلؤلؤة مكنونة ودرّة مَخزونة.
4- كَيفَ لاَ، وقَد صَار الحَقُّ سَمعَهم وبَصَرَهم، فَلاَ يُبصرونَ إلاّ آياتِ الظَّاهر، مُتَجَلِّيَّةً في مرآة المَظاهر، فَكلّ مَظْهَرٍ من مظاهر الوجود يكون عندهم أجملَ من حَوْرَاءَ في الشّهود، لأنَّ الحَقَّ تَعَالَى أرَاهُم آياتِه في الآفاق فَتَبَيَّن لهم أنّه الحقّ دونَ مِريَةٍ [[أي شكٍّ. ]] وَلا شِقاقٍ، قَالَ تعالى: ” سَنُريهِم آيَاتِنَا في الآفاق وفي أنفسهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهم أنّه الحقّ أو لَم يَكف بِربك أنّه على كلِّ شَيءٍ شَهِيد”. [[ فصلت:53]]
وَفي كلّ شيءٍ لَه آيَةٌ *** تَدلّ عَلَى أَنّه الوَاحدُ
5- وَأكْرَمَهُمُ الحَقُّ بذلكَ جَزَاءً بما كانوا يَعمَلونَ، كَيف لاَ، وقَد عَملوا بأحبّ ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، من القيام بالفرائض ثمّ مَا زَالوا يتقرّبون إليه بالنّوافل حتّى أحَبَّهم فَكَانَ لَهم سَمْعًا وبَصَرًا ويَدًا ورجلاً”[[ اقتباسٌ من الحديث القدسي المشهور. ]]. ولاَ يسمعون في هاته الحضرة لَغْوًا ولا تأثيمًا، ولا يَرونَه من باب أولى وأحرى وكيف يسمعونَه أو يَرَونَه والحال أنّهم غابوا عنه في حضرة الأحديَّة، لَكنَّهم يَسمعون قولاً سلامًا سلامًا، مِن حَضْرَة مَحبُوبِهم الذي اصطفاهم ولِحَضْرَتِه اجْتَبَاهُمْ، فَهُمْ عِبَادُهُ المُخْلِصونَ، فَلاَ يَتَجلَّى عَليهم إلاّ اللهُ، ولاَ سلطَانَ عَلَيهم لِسِوَاهُ”.
الشيخ محمد المدني، كتاب الروضة الجامعة في تَفسير الواقعة، ص. 19 و20. الطبعة الثانية، تونس 1980.