المولد النبوي لابن عاشور
1- الحَمدُ للهِ الذي أطْلعَ للنَّاسِ في ظُلمَة الضَّلالَةِ بدرَ الهُدى، وبلَّ بِغَيْثِ الرَّشادِ المُحَمَّدِيِّ ما لَحِقَ طينَةَ قُلوبِهم مِن صَدَا، ورَفعَ قَدْرَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وأعْلَى مَقامَه، وبعثَهُ رَحْمَةً للعالمين في الدُّنْيا وَعَرَصاتِ القِيامَة، وأمرَ أمَّتَه بِتَعْظِيمِهِ، فَنَبَّههم لِذلكَ بِالأمْرِ بالصَّلاةِ عَلَيْه ، والنَّهْيِ عَن رَفْعِ الصَّوتِ عِنْدَهُ، والتَّقديمِ بَيْنَ يَدَيْهِ .
2- اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَيْه صَلاةً تَكون بَيْنَ أيدينَا نُورًا، ونَزْدادُ بها نَضْرَةً وسُرورًا ، وعلى آلِهِ الذينَ خَصَّصْتَهُمْ بِمَزايَا الشَّرَف، وأطْلَعْتَهُمْ في سَماءِ الفَضائِلِ بُدورًا، ما يَشينُها كَلَف ، وارْضَ عَن أصْحابِهِ الذين أثْبَتَّ رِضاكَ عَنْهُمْ في كتابِكَ إعْلانًا ، الذين هَاجَروا ونَصَروا وآثَروا “يَبْتغونَ فْضْلاً مْنَ اللهِ ورِضْوانًا “، “والذين جاءوا مِن بَعْدِهم يَقولونَ: رَبَّنا اغْفِر لَنَا ولإخوانِنا” ، فَأنْعِمْ بِهِمْ إخْوانًا
[مُقَدِّمَة]
3- أمّا بَعد، فَهَذهِ سَحابَةٌ أظلَّتْ بِذكْرِ الفَضائِلِ المُحَمَّديَّة، فَبُثَّ رَشَاشُها، وزُجاجَةٌ مُلِئَتْ مِن عِطْرِ الأخلاق النَّبَويَّة، فيها لِنُفوسِ السَّامِعينَ انْتِعاشُها، لَوْ وُزِنَتْ بِأَغْلَى الدُّرَرِ واليَواقيتِ لَما غَلَت سُومًا على السَّامِعِ فَلَقال: هاتِ أو هَيْتَ ، وكَيفَ لا؟ وإنَّ مَــلْأَهَا لَمِن زُلالِ شَرَفِ الرَّسولِ، وانْبِثاقَ لَوامِعِ بَرْقِها يُشامُ منهُ خَيرُ غَيْثٍ هَطولٍ.
4- آثرْتُ فيها جَمْعَ لُمَعٍ كافيةٍ للَّذينَ تَعَلَّقَت قُلوبُهُمْ بِمَحَبَّتِهِ، وأخبارٍ غَيرِ واهيةِ الأساسِ مِن مُخْتار عُيونِ سِيرَتِهِ، إذْ كانَ قد أغْنى هَذه الأمَّةَ عَن التشبُّث بما لَيسَ بِمَحَجِّةِ الثُّبوتِ، ولَقَّنَها أنْ تَرْبَأَ عَنهَا بِإشارَةِ قَولِهِ: “وإنَّ أوهَنَ البُيوت …”،
5- فكذلكَ يَنْبَغي أن يَكونَ المسلمونَ فيما يُبَيِّتونَ من شُؤونِهِم وأوْضاعِهِم، وعَلَى ذلكَ الخُلُقِ عُلَماؤُهُمْ وأشياعُهُم، فإنَّ هذا الدِّينَ ثَرِيٌّ بما أمَدَّهُ اللهُ مِنْ صَحيحٍ كثيرٍ، عَن أنْ يُلَفَّقَ لَه شاعِبُ كلِّ مُنْثَلمٍ أو كَسيرٍ، فلا يَحقُّ لِحَمَلَتِهِ أن يَشوبُوه بما يُكَدِّرُ منه صَفْوَ صِفاتِهِ، وأنْ يَنْسَوْا ما خُصَّتْ به هذه الأمَّةُ من صِحَّةِ بُلوغ الدِّينِ ورِواياتِهِ.
6- فَعلَى ذلكَ النّيرِ قَد سَدَيْتُ مُحْكَمَ هَذا النَّسيج، وكذلك تَفَرَّعَت أفْنانُ هَذه الشَّجَرة الطيِّبَة على ما انفتقَ عنه ذلكَ الوَشيجُ .
7- دَعانِي إلَيهِ الاتِّساءُ بِأفاضِل الأمَّة، الذين ألْهَمَهُمُ اللهُ صَرفَ الهِمَّة، إلى العِناية بِتَعظيم اليَومِ الذي يُوافقُ من كلِّ عامٍ، يومَ ميلادِ مُحَمَّدٍّ، رَسولِهِ، عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ، إذ كانوا قدْ عَدُّوه عِيدًا، وَرَمَوا بِرَشيق نَبْل عُقولِهِم بذلكَ مَرمًى بَعيدا، عَلِمناهُ من قَوْلِهِ تَعالى، في التَنْويهِ بِشهرِ رَمَضانَ: “شَهرُ رَمَضانَ الذي أنْزِلَ فيهِ القُرآنُ “.
8- فَأيُّ يَومٍ أسعدُ من يَومٍ أظهرَ اللهُ فيهِ للعالَمِ مَولودًا كانَ المُنقذَ من الضَّلالةِ، أخرَجَ به النَّاسَ مِن ظُلماتِ الشِّرْكِ ومَناقِصِ الجَهالةِ. وإذا كَانَتِ الأعيادُ الثَّابِتَةُ في الدِّينِ قد جاءَتْ على مُناسَبَةِ الفَراغ مِن عِبادَاتٍ مَشروعَةٍ، فَذِكْرَى الواسِطَةِ العُظمى في تَبليغ ذلكَ يَحقُّ أنْ تَكونَ مُشَيَّدَةً مَرْفوعَةً.
9- وأوَّلُ مَنْ عَلِمْتُه صَرَفَ همَّتَهُ إلَى الاحْتِفال باليَومِ المُوافِق يومَ مَولِدِ الرَّسول، صَلَّى الله عليه وسلَّم، فيمَا حَكاهُ ابنُ مَرْزوقٍ هو القاضي أحْمدُ بنُ مُحَمَّدٍ العَزْفيّ السَّبْتِي المالكيُّ في أواسط القَرن السَّادِسِ. وتَبِعَهُ عَلَيْه ابنُهُ القاضي أبو القاسِمِ مُحَمَّد ، من عُلمَاءِ القَرن السادِسِ، وأوائِلِ السَّابعِ. واسْتَحسنَه جمهورُ مَشْيَخَةِ المَغْرِب، وَوَصفوهُ: بالمَسْلَكِ الحَسَنِ .
10- قالَ أبو القاسم البُرْزُلي : “مِيلادُ النَّبي، صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، مَوْسِمٌ يُعْتَنَى به في الحَواضِرِ تَعظيمًا لَهُ”.
11- وكانَ شأنُ أهلِ الخَيرِ إحياءَ لَيلَةِ المَولدِ بالصَّلاةِ على النَّبِي، ومَعونَة آلِهِ، ومُساهَمَتَهِم ، والإكْثارَ من الصَّدقَاتِ وأعْمالِ البِرِّ، وإغاثةَ المَلهوفِ، مع ما تَسْتَجلبُهُ المَسرَّةُ مِن مُباحِ اللَّهوِ المُرَخَّصِ في مِثْلِهِ بنَصِّ السنَّةِ .
12- وشاعَ ذلك في بلادِ المَغْربِ والأندلُسِ. ولمَّا رَحَلَ العَلاَّمَةُ أبو الخَطَّابِ عُمرُ، المَعروفُ بابنِ دِحيَةَ البَلَنْسِيِّ، الأنْدَلُسِيِّ، المالِكِيِّ ، رِحْلَتَهُ الشَّهيرةَ إلى المَشرِقِ، أوَّلَ القَرْنِ السَّابِعِ، واتَّصلَ بالمَلكِ الجَليل، مُظَفَّر الدِّين، أبي سَعيد كَوْكَبُوري ، بنِ زَيدِ الدين، كوجَك عَلِيٍّ، صاحِبِ إرْبِلَ ، حَسَّنَ الشيخُ للمَلِكِ التسنُّنَ بهذا السَّنَنِ، فَرَغِبَت هِمَّتهُ في الاتِّسامِ بمَيْسَمِ أفاضِلِ الزَّمَن، لذلك أقامَ في سَنَةِ ستٍّ وستمائةٍ حفلاً عَظيمًا، وأنْشَأَ لَهُ ابنُ دَحْيَةَ كتابًا سمَّاهُ: التَّنويرُ بِمَوْلِدِ السِّراجِ المُنير ، لِيُقْرَأَ في ذلكَ اليَومِ، وجَعَلَ يُعيدُ قراءَتَهُ كُلَّ عامٍ، تارَةً في اليَوم الثاني، وتارةً في اليَومِ الثانيَ عَشَرَ من رَبيعٍ الأوَّلَ. فَهو أوَّلُ المُلوكِ نَظَمَ هذَا الاحتفالَ في سِلْكِ رُسُومِ دَولَتِهِ.
13- وأوَّلُ مَنْ سَلَكَ هَذَا المَسلَكَ من مُلوكِ المَغْرِبِ، السُّلْطانُ أبو عِنانٍ المَرينيِّ . ونَحا ذلكَ النَّحوَ السلطانُ الجليلُ أبو فارسٍ عبدُ العَزيز بنُ أحمدَ الحَفصيُّ ، سُلْطانُ تونسَ، وعَيَّنَ لذلكَ لَيلةَ اثنَتَيْ عَشْرَةَ من ربيعٍ الأوَّلَ. فَكَمْ أغْدقَ في تلكَ الليالي من خَيراتٍ، وأجْرَى مِنْ عَوائِدَ وصِلاتٍ .
14- ثمّ لَحِقَت بهذهِ الإيَالَةِ شَدائدُ ومِحَنٌ، وانْطَوى مِن بَهْجَة الدَّولَةِ الحَفْصِيَّةِ ذَلكَ البِسَاطُ الحَسنُ، فَلَمْ يَبْقَ مِن تلكَ الرُّسوم، إلاَّ مَا يَنْبَعِثُ عَنْ أرْيَحيَّة أهْلِ الطَّرِيقِ، أوْ أصْحابِ العُلوم. حتَّى قَيَّضَ اللهُ لِتَجديدِ ما رَثَّ مِنْها، وتَلْقِيم ما ذَوَى مِن شَجَرتِها وتَفَرَّعَ مِنها، الأميرَ السَّاميَ الهِمَّةِ، الرَّامِي إلَى مَعالِي الأُمورِ عَن قَوْسٍ أرَاشَ سَهْمَهُ ، الفائزَ بِتَعْظيمِ قَدرِ المُصْطَفى، المُشيرَ الأوَّلَ أحْمَد بَاشا، ابْن المُصطَفى ، نَوَّرَ اللهُ مَقَرَّ رُوحِه بِنورٍ ما لَهُ انْطِفا .
15- فَأمَرَ بإقامَة حَفَلاتٍ لِلَيلَةِ المَوْلد ويَومِهِ، بِحاضِرَة تونسَ، ومَدينَةِ القَيرَوان، وأجْرَى لذلكَ النَّفَقاتِ، ما فيهِ وفاءٌ بالإحْسان، وأمَرَ بإطْلاقِ المَدافِعِ الحَرْبِيّة من القِلاعِ، بِنِيَّةِ التَّسليم عَلى أفْضَلِ الرُّسلِ، عَلَى صفةِ أعْظَمِ تَحيَّةٍ للملوكِ في اصْطِلاح الدُّولِ.
16- وكَتَبَ له العَلاَّمةُ، شيخُ الإسْلامِ، أبو إسحاقٍ إبراهيمُ الرِّياحيُّ ، في ذِكْرِ المَولدِ مُختَصَرًا مِن مَولِدِ المُقَدَّسِ الشَّيخِ مُصطَفَى البَكْريِّ المِصْرِيِّ .
17- وَجاءَ مِن بَعدِهِ الأميرُ الجليلُ، الخائضُ لِغَمَراتِ العُلا بِعَزْمٍ صارمٍ صقيلٍ، والذي كان لِأعمالِ ابنِ عمَّهِ خَيرَ ناسقٍ، المُشيرُ الثالثُ، مُحمَّدٌ الصَّادق .
18- فَأَمَرَ بِتَعميمِ الاحتفال بالمَولِدِ في جَميع مُدُنِ الإيَالَةِ ، وأجْرَى لَها مِن مالِ الدَّولةِ عَطايَا فيها كِفايَةٌ وفَضالَة، فَهِيَ إلى اليَوم صَدَقَةٌ جاريَةٌ مِن مَنْبَعِ عَيْنِ الحُكومَة، مُخَلِّدَةً بها مآثرَ في المَحاسِنِ لَه مَعلومَةً، وتَرَكَهَا سنَّةً باقيةً فيمَن بَعدَهُ، فَتَلاحَقوا في الوَفَاءِ بِحَقِّهَا، وشَدُّوا عَقْدَهُ .
19- وكَمْ مِن لُطْفٍ خَفِيٍّ حَفَّ بِهَذِه البلادِ، لَعَلَّه مِن بَركاتِ هذا الاعْتِناء. قَال ابنُ الجَوزيّ :
“مِمَّا جُرِّبَ مِن بَرَكَةِ رَسول اللهِ، صَلَّى الله عليه وسلَّمَ، أنَّ الاحتفالَ يَومَ مَولدِهِ أمانٌ في ذلكَ العامِ، وبُشْرَى لِمَن فَعَلَهُ بِنَيْلِ المَرامِ” .