بسم الله الرحمن الرحيم
1. الحمدُ للهِ. عَليه قصدُ السَّبيل. هو حَسبي ونعمَ الوكيلُ. لا اللهَ إلا هو. أحاطَ بكل شيءٍ علمًا. والصلاة والسلام، على صَفوة المختار قَبْضةِ البَها، نورِ أنوار الليل والنهار، تَنَزَّل مُتَنَزِّهًا، وتَشَكَّل بكل المعاني والإحسان، فهو بَهاء حَضرَة الجمال، المُتَدَفِّق من أصلِ النقطة الأزلية، وعَروسِ حَضرَة الكمال، المُتَجَلي بما هو ظاهرٌ لسائر البَرية.
2. فَلَيست الحَيْرَة في بُروق الخَلق، بل الحيرةُ، وكلُّ الدهشة، في مَصدرها: الحَق. هكذا رَغَّبَنا، صلى الله عليه وسلم، في خَوضِ بِحار مَعاني الآخِر، فقال: “تَفَكَّرُوا في خَلق الله“، وحَذَّر مُنَوهًا بعزة عظمة كبرياء الأول، فَقال: “ولا تَفَكَّروا في الله“. ولَقَد صَدَقَ مَن قال: “لا يُعرفُ اللهُ إلا بالله“.
3. “بَرَزَت للعيان حَقائقُه المحمديَّة “، والتدبُّر فيها تسبيحٌ وتقديسٌ وتنزيهٌ للذات العليَّة. فَسبحان من قال : “وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: 28)، ” فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ” (الأعراف: 158). والمَجَال، من فَضل الله، في الاتِّباع واسعٌ، والاقتداء بأهل الصُّحبَة والـمَعيَّة شرطٌ لازمٌ، بإخلاص قاطعٍ. “وَالله يَخلق ويَختار“، فقال عز وجَلَّ: ” قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ (يوسف: 108).
4. وقَد قال مَولانا الإمام (أي: الشيخ المدني)، رَضيَ الله عنه، في (شرح بيت قصيدة” ذكر المَحبوب لسيدي إبراهيم الصغير) فَتح أقفال قلوبِهم: “يُوصلنا لحضرة رسول الله”، هي نَظرة قَلبية وعَطفَةٌ روحانية، يَنظرها الشيخ لمريده الصادق، فَيَحصل له فتحٌ مُبينٌ، حتى يَكونَ منَ المُقَرَّبينَ.
5. وكَأنَّنا غَمَرنا منه شعاعٌ من فَيضه الكريم، وهو رَأسُ الكُرَماء، إذ الظَنُّ فيه جَميل. قال تعالى: ” وما أمِروا إلا ليَعبُدوا اللهَ مُخلصينَ له الدِّينَ ” (البَيِّنَة: 5). وقال، (الشيخ المدني)، رضي الله عنه: “وتَتَسبب تلك النظرة في صَفاء قَلب المريد وانقيادِهِ لأستاذِهِ بنيةٍ وإخْلاص ضَمير، فَيفيضُ عليه مما مَنَحَه اللهُ، فَلَرُبما أوصله الشيخ إلى الحَضرَة المحمدية، ورُبما أوصله إلى الحَضْرَة الإلهية، فيكون من عباد الله المقربينَ. فأقول، كما قَال رضي الله عليه، أيضًا: “ومَنْ قَرَّبَه وأدناه أسبَلَ عَليه حُلةَ نورِهِ وسَنَاه”.
وقال:
قَالَ أهلُ الحيِّ صَرِّح معلنًا * أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنَا
لا ترى غيرًا، فالغَيْن عُيِّنَــــا * قد كنتُ سَمْعاً بَصرًا بِحُبِّنَا
ولسانًا ناطقاً مُتَمَّمًا [[قصيدة لسيدي الشيخ المدني. ]]
6. طَرَق سمعَنا حديثٌ تلاه أخٌ في الله، رَضيَ الله عنه، سيدي الطاهر عبد الهادي، عن حَضرة مولانا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “لا تُفَضَلِّوني على يُونُسَ بن مَتَّى” [[ هذا الحديث صحيح، بل في الصحيح بلفظ: “لا تُفضِّلوا بين أنبياء الله إلى قوله: “لا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متَّى”، البخاري: (3414-3415).]] ، وفي رواية أخرى: “لا يَنبَغي لأحدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونسَ بنِ مَتَّى“.
7. فَبَعد الاطلاع على بعض تفاسير ما قاله الحقُّ، تبارك وتعالى، في قضية مُريدِهِ أو نقول: نَبيِّه سيدنا يونس، عليه السلام. وذلك يَنحصر في ما يأتي :
8. قال تعالى في سورة يونس :” فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (يونس: 98)، وقال في سورة الأنبياء: “وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) اسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)”. وفي سورة الصافات : “وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) ۞ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (148) “،
9. وفي سورة نون (أي: القلم) : ” فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) “.
10. وبعدَ الاطلاع على قصَّته في “قصص الأنبياء”، في كتاب عرائس المجالس، ثم تفسير البَيضاوي، نقول ملخصًا ما يأتي:
11. تَحَقَّقَ عِندنا، بما سبَق لنا رَشْفُه عن عَروس الحَضْرَة وساقي الخَمرة، أنَّه، صَلَّى الله عليه وسلم، مُرادُ الله مِن خَلْقِهِ. ثمَّ تَيَقَنَّا هذا، وأشرقَت عوالمُنا الروحانية بشمس معناه، نُناجي بهذا اللسان مُتَرنِّمين:
فَلولاكَ مَا كنَّا ولولايَ لَم تَكُن * فَكنتَ وكنا والحقيقة لا تُدرى
12. وفي هذا : ” قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ” (الكهف: 109). إنَّما وجودُنا بوجودِهِ البَشري. وشُهودُنا يوحي إلينا بِشُهوده المعنوي: ” إنما اللهُ إلهٌ واحدٌ “، حائطٌ بكل شيءٍ، مفردٌ. وسواه عندنا لا يُوجد. إذ الفردانية تقتضي انفرادَهُ بعِزَّة اللطافة في حكمة الإبداع ووَحدانية الظُّهور في أحديَّة الإحاطة، ووجوبُ وجود وَجهه الكريم في صَفَحَات لوحة الخَيال العديم، الذي أشار إليه حضرة مَولانا الإمام بقوله:
هذا الكون يُجْلَى* منكَ يا جَميل
والسطـور تُتْلى * إنَّــــــــــــك جليـل
[[قصيدة يا عروس الحضرة لسيدي محمد المدني في الديوان، ص. 19.]]
13. وقوله : “حيثُ انطوى العالم الأكبر في كل ذرة من ذرات العالم الأصغر”، فَقال، رضي الله عنه:”إنَّما العاقلُ مَن يَنظر إلى الأشياء بعين التعظيم، يَستمد منها ما يشفي غَليلَه ويبرئُ عَليلَهُ”.
وفي كل شئٍ له آية * تَدلُّ على أنه الواحدُ
14. فما ترى في تَفان (غامضة وَصَعبت قراءتها) العُلماء أنَّ أنامل البشر لا تشبه إحداها الأخرى، ثم في اختلاف أشباح العالمين وألوانهم وألسنتهم من بَني آدمَ، والهَوام، وغيرها من الجَمادات والأنعام، وفي ما انطوت عليه من آيات الإيجاد والإنعام “لآياتٍ لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جُنُوبهم ويَتَفَكَّرون في خلق السموات والأرض” (آل عمران: 190) وما خَلق الله من شيء، فَعلى أيٍّ وَقَع البَصر إلا وفي مَعناه حارَ العَقل، وسَكَنَت هناكَ فِراسة البَصير، واندَهَشَ الفؤاد منهم، وانبهر و صاحَ قائلا: الله أكبر:
فهي حُروفُ الحَقِّ والحقُّ بها * إذ خُلِقَت بِالحَقِّ لا بِالزخرفِ [[ قصيدة: ألا ابتهالاً أيها الخل الوفي” لسيدي محمد المدني في الديوان، ص. 07.]]
15. ثم إنَّ العارفَ الذي اطَّمَأنت نفسه بالله، وسكنت إلى رَبِّهَا، وَوَجَدَت حِبَّها، يُدَرِّجُها الله من النظر في مُكوِّنات الأكوان الخَلْقيَّة إلى التمعن في أسرار الأكوان المعنوية. وفي قَصَص القرآن الكريم حياةٌ لكل ذي قلبٍ مُتَحقق سليم. من ذلك ما شَرَعَ في تفصيل ميدانه هذا القلم مستمدًا مِمن عَلَّم الإنسانَ ما لَم يَعلم:
أرَاني كالآلة وأنتَ مُحَرِّكي * أنا قَلمٌ والاقتدارُ أصابِع
16. قال الله تعالى : ” ولَولا قَريَةٌ آمَنَت فَنَفَعها إيمانُها ” (يونس: 98) أي، واللهُ أعلم، لَم تَكن قرية من قبلكَ، مِن الذين جاءتهم رُسُلهم بالبينات والتوحيد، فلم يؤمنوا بها، ولم تُذعن نفوسهم لله، بل أصرُّوا على الإعراض والضلال المبين حتى حَكم عليها، بموجب غَضبه، بالعذاب المهين، إذ رَأوهُ عيانًا قَد نَزَلَ بهم، فاستيقظوا من غَفلَتهم وخافوا عذابَ ربهم، فلم يكن إذَّاكَ يَنفعهم إيمانُهم، بعد نَذْرِ رَسولهم إياهم، وضَرَبَ الآجال لَهم، كَما يَأمره الله، والعلامات في نُزُول العَذَاب.
17. وقد وقع هذا غير مَرَّة، كما أخبر بذلك الكتاب القديم حتى كانت سُنَّةً فيمَن قَبلنا من الأولين. فقد شاء ربُّك أن تأخذ هذه السنَّةُ بفكرة سيدنا يونس الذي بعثه إلى أهل قرية نينَوى، العابدِ أهلُها الأصنامَ، من دون الله، فقام عليهم يونس، عليه السلام، ثلاثًا وثلاثين سنةً يدعوهم إلى توحيد الله، اتَّبَعَه فيها عالِمٌ حَكيمٌ، وهو روبيلو، وعابدٌ زاهدٌ وهو تنوخا.
18. قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما :”لمَّا أيسَ يونس من إيمان قومه، دَعَا عَلَيهم”. وشاء ربك أن يرقيَّ عبدَه حتى يتيقن أنه لن يهديَ مَن أحبَّ ولكن الله يهدي من يشاء، فهو سُبحانه المتفرد بأسمائه الحسنى، وتَجليها المُحكَم الأسنى، فقيل له: مَا أسرع ما دعوتَ عَلى قَومكَ؟ ارجِعْ إليهم، فَادْعُهم أربعين ليلةً أخرى، فإنْ أجابوكَ، وإلاّ فإني مُرسِلٌ عَلَيهم العذابَ.
19. فلمَّا رأى منهم الإصرارَ بَعدَ سَبعٍ وثلاثينَ، ” وآية لهم الليل نَسلخ منه النهار فإذا هم مُظلِمون ” (يس: 37) وَعَدهم بالعذاب بعد ثلاثٍ إنْ لم يؤمنوا، وضَرَب لهم آيةً لذلكَ: تَغَيُّر ألوانهم.
20. كلُّ هذا صَدَرَ منه، عليه السلام، عملاً بالمقتضى لا بِأمر القَضاء. هنالك خَبَّأت له الحَضرةُ درسًا ومَوعظةً، وشاء ربك أن يبتليه ويُرَقيَّه. فَلمَّا أصبح قومُه ورأوا ألوانَهم متغيرةً خافوا، وقالوا: إنا لم نحفظْ كذباً على يونس، لاسيما وهم يقتلون الكاذبين. فقال لهم قائلٌ: انظْرُوا إن أصبَحَ فيكم غدًا، فأْمَنوا العذابَ وإلاَّ، فهو نازلٌ بكم.
21. وأما يونس، عليه السلام، فَإنه لما رأى تغيُّرَ ألوانهم من الغد، أيقن بإجابة دعوته، ونُزولِ العَذاب بهم. فَخَرَجَ من بينهم ليلةَ الأربعين. فلما أصبحوا، غَشيَهم العذابُ. قال سعيد بن جبير: كما يَغشى الترابُ القبرَ، إذا نَزل فيه صاحبُه. وقال مقاتلٌ: أغيمت السماءُ، ونَزَلَ بهم دخانٌ أسودُ حَتَّى غشيَ أسطِحَتَهم، فَاسْوَدَّت وغَشيَ وجوهَهم”، وهاهي :
فَرَحمة الرحيم فوق ما جَنتْ * يدُ المسيء أو ضَميرُ الغافل [[بيتٌ من قصيدة محمد المدني: أيا نجوم الليل…ص. 21. ]]
22. قال تعالى: لسان حاله يقول لسيدنا يونس إذّاك: ” ليس عليكَ من الأمْر شيءٌ أو يتوبَ عَليهم أو يعذبهم إنهم ظالمون ” (آل عمران: 128)، وعَمل فيهم مقتضى قوله تعالى: ” ومَن يهدي اللهُ فَماله مِن مُضلّ ” (الزمر: 37)، فَأنْقَذهم من سكرة غفلتهم “ومن يُضلل فماله من هادٍ”. وكان ربك رحيمًا، يؤيد بفضله من يشاء.
23. قال بَعضُهم: قَذَفَ الله في قلوبهم التوبةَ والإنابة إليه، فلبسوا المسوحَ وخَرجوا إلى الصعيد بَعدَ رَدِّ المَظالم، حتى إنَّ الرجلَ يقتلع الحجر من أصل بُنيانِه، يُرجِعُه لصاحبه وهم يقولون : يا حي حينَ لا حَيَّ. “كان في عَمَاء، مَا فَوقَه مَاء وما تَحته ماء” [[ رواه أحمد بن حنبل في مسنده ( 26 / 108 ) قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِـي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ:” كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ. وأيضًا رواه ( 26 / 117 ) من طريق بهز قال: حدثنا حماد به. ورواه كذلك من طريق يزيد بن هارون : ابن بطة في الإبانة الكبرى(2536). وكذلك ابن ماجه ( 1 / 64 ) ، والترمذي (5/288)، وابن أبي شيبة في العرش(ص 313 برقم 7).]]. “كنت كنزا لا أعرف”، يا حيُّ حين تُحيي الموتى. فأحببت أن أعرفَ، والموتى يبعثهم الله، فسبحان من تَفَرَّدَ بالعزة والعظمة و الكبرياء. لا إلاه الا أنت، يرجع الأمر له متممًا، تَهمَدُ دونَ إرادتِهِ الإرادات: ” لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الأنبياء: 23)”، فقال: إلاَّ قوم يونس لما آمنوا نَفَعهم إيمانهم، في ذلك الوقت، لما علم الله من صدقهم، “كشفنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ومتعناهم إلى حين” أي إلى تمام آجالهم.
24. فقد مَتَّعهم الله بالإيمان في حياتهم. ثم ها هو ذو النون، عليه السلام، لَما يَرى كشفَ العذاب عن قومه، الذي يحمل سَبَبَه، تَعمل فيه حِدته وخفته المَوصوف بهما من قبل، فَيَكره أن يحفظ عليه قومُه كذبًا، فَيقتلوه، بسَبب عمله بالمقتضى دون أن يترقب أوامر القضاء، وهو مُريدُ الحَضرة ونبيئها ورَسولها، ومَا الرسالة إلا رحمة للعالمين. فآهٍ آهٍ، كَيفَ يَلزمني أن أكونَ بحضرة شيخي ونحو إشارته القلبية ويا لَطَريق الحَال، وهمة عروس الجمال، المَمدوح لهذا المقام بقوله : فإذا فوضتم لنا الأمر في الاختيار لكم، فَإنني أنشدكم قول الإمام الجيلي، رَضيَ الله عنه:
وإن سَاعَدَ المقدورُ وسَاقكَ القَضَـاء * إلى شَيخ حَيٍّ في الحقيقة بارع
فَكُن عنــــــــــده كميت عند مُغسلٍ * يُقَلِّبـــه كَما يَشاء وهو مُطَــــــاوع
25. وقال رضي الله عنه :
ذَاكَ الإمام شأنه في نظره * يؤتي المريد حكمة وحُجَجًا
فَهـــــو رحمة مهداة بيننــا * شفيع في قرينــه إذا تَحَرَّجَـــا
26. وشاءَ ربُّكَ إلاَّ أن يُتمَّ لما أراد من ترقية عبده المختار، المَبعوث بين يدي حَقيقة رسالة الحبيب المختار، فَيَذهَب مغاضبًا لقومه، مُعاتبًا لربه، فَعَله هكذا برسوله ومُقَرَّب حَضرته، يُكذبه عند هؤلاء الكفرة الضالين، في نَظرة المائة ألف أو يَزيدون فهو يحبذ هلاكهم عن تكذيبه. وبهذا نَتَذَكر ما ذَكَّرَناه به حضرة مولانا الإمام، رضي الله عنه، عَن تَجليات أسماء الحق في مظاهر الخلق والعِصمة للرسل واجبة. وهذا كتابٌ “لا يَمَسُّه إلا المطهرون” (الواقعة: 79)، إنَّ في ذلك لعبرة لقوم يَتَفَكَّرون. فقد ظن يونس، عَليه السلام، أن لن يُضَيِّقَ اللهُ عليه، ويَقدر، لقدم صدقٍ عنده في عبادة ربه، فهو من رجال التسبيح الكثير. كان قبل الرسالة ثلاثين سنة يتعبد في جبل، كل يوم يصعد منه عمل صالح طيب للسماء، ولذلك تشفعت له الملائكة عند ربهم. فتداركته الحضرة بالتأييد للمستجار بها، وأبت أن تسلمه لوساوس الشيطان، إلا أن يَغمره الله من سر الكُنه المخزون، وهو آبق إلى الفلك المشحون، المتهيء للإقلاع وغَوص غمار البحر براكبيه الذين حَملوه مَعهم من غير قولٍ، فأبى الفلكُ أن يُقلعَ مَع مجانبيه، الذين خَاضوا غمارَ البحر يمينًا وشمالاً.
27. فَنَطَق لسان الحضرة على ألسنة أحرف الفكرة: لا بد في المركب عبد آبقٌ، وقع من أجله الحبس. وتَسَاهموا ثلاثًا فكان يونس من المُدحضين في أعماق البحر. وجَرَت عليه عادة ركاب البحر وهي إلقاء الآبقين في العميق ليتبين الكاذب من الصديق، فألقى بنفسه، عليه السلام، مُليمًا لها عما غانت على قلبه، بيت السلام، ها هنا
– يَا أربابَ الحُضور،
– يا مَن كُشِفَتْ عَن بصائرهم كَثَائفُ السُّتور،
– يا مَن استَوَى عندهُم الليلُ والنهارُ،
– ويرونَ الجَمالَ عينَ الجَلال،
تَدبَّروا فيمَن أسريَ به إلى “سِدرَة المُنتهى” حتَّى كانَ من الله كَقابِ قَوسَيْن أو أدنى، أسرِيَ به إلى مستوًى، يَسمع فيه صريرَ الأقلام، بما هو كائنٌ وكَان: “فَانطَوى ليلُ البَشريَّة في نَهار تلكَ الذات العلية، فَأوحَى إلى عبده ما أوْحَى”،
28. ولَولا شَرفُ الذَّات المحمدية، التي يَقصُر عَن مَقامِها كلُّ مَقامٍ، لقلتُ أكثرَ من أن أقول كَما قالَ ابنُ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، جَدُّنا الحَسن، رضي الله عنه،: “إنَّ مُرادَه، عليه الصلاة والسلام، من قوله:”لا تُفَضِّلوني على يونس بن مَتَّى”، نَفيُ الجِهَة والمَكان عَمَّن أحاطَ عِلمُهُ بكلِّ كائنةٍ من ظَرفٍ أو زَمَان، الذي تَفَرَّد بإيجادها لَوْحًا ومِدَادًا، إذْ ما فَوقَ العَرش وتَحتَ العَرْش، إلا بحرٌ تَجِلُ عند خَوضِهِ قلوبُ المؤمنين، فُحول الرجال، بَحرُ اللهِ المُنفرد بالعِزَّةِ والجَبَروت، الكَبير المُتَعال.
29. قال مَولانا الإمامُ، رضي الله عنه:
حَقرتُ كلَّ كائنٍ في ناظـــــري * نَبَذتُه مني ولــــــــــم أستَنكف
في بْحار الحق أضحت هِمَّتي * تَسري إلى أعلى وأغلى شَرَف
بَحرٌ عميقٌ ماجدٌ قد خُضتُــــــه * لـــــــــــــــــــــما فَنيَ تَكثفــــــــي
[[من قصيدة ألا ابتهالاً أيها الخل الوفي للشيخ المدني]]
30. وقال، رَضيَ الله عنه: وَهَذا كلُّهُ عُروجٌ روحانيٌ، وإسراءٌ قلبيٌّ وجدانيٌّ، يُشَخِّص المريدُ هذا الوجودَ كلَّه كَقُبةٍ أو كَذَرَّةٍ، يَتركها، ثم يجولُ بِروحهِ في الوجود المطلق أو نَقولُ في بِحَار الأحدية. وأينَ العَرشُ من الفَرش؟ في هذه الذرَيْرَة المُلقاة في أعماق هَذا المُحيط”.
31. وبَعدَ إثبات الفَضْلِ والتَفضيل لإمام المرسلين، نُورِ الخَلق طَهَ المصطفى، بَل نور الله سبحانه وتعالى: لا يَنبَغي لأحدٍ من أمَّتِهِ السَّادة العلماء، بل رجال الله وَرَثَة الأنبياء، أن يقولَ مِن ذَوقِهِ ومُشاهَدَتهِ ودَهْشَتِهِ وحَيْرَته وغَيْبَته وسَكْرَته : “أنا خيرٌ من يونس بن متى”، فَقَد تَمَّت كلمات ربك الحُسْنى عَلى رَسوله، يونس، أن ينادي في الظلمات مُنطويًا حُضورُهُ في غَيبه، مَغمورًا بالفيض الرحماني الذي استوى على عرشه الفاني فاختفى الظلام في حَضرة بهاء رب العالمين فقال: ” لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ” (الأنبياء: 87) أي: لنفسي. فاستجبنا له ونجيناه من الغم والحدة، فاطمأنت ورجعت إلى ربها راضيةً مَرضية للحضرة القدسية” وكذلك ننجي المؤمنين”.
32. اعرِف النَّفسَ والرُّوحَ واعتَرف * مَن عَرَفَ النفس فالله قد عَرف
 بِظُهورٍ وبُطونٍ مُتَّصـــــــــف * وإلي الله جَميعُها يَقِـــــــــــــــفْ
يَرجع الأمرُ لَه مُتَمَّمًا
33. قالَ مَولانا الإمامُ (أي: الشيخ محمد المدني) :”بَعدَ الاستغراقِ الكلِّي في حضرة الحقِّ، يَخرجُ المريدُ لِمخالطة الخَلْق، جامعًا بين ضِدَّيْن، وواقفًا بَينَ بَحْرَيْن: الحُدوثِ والقِدَم. لا يَرى إلا اللهَ، وإن تَعَدَّدَت مظاهرُ ما سِواه.
34. وهذا هو الرَّجلُ الكامل الذي يُورِثُه اللهُ ما يورِثُه منَ المَقام المحمدي، فَيُعطيَ لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا عَجبَ إذا كان مِنَّا مَن يُورثه الحقُّ مِن حَضرة رسول الله، كما أخذ قَبلنا من أمته عنه أيضا، صَلَّى الله عليه وسلم، وهم الرُّسل، عليهم السلام:
فَكُلهُم مِن رَسولِ اللهِ مُرتَشِفٌ * غَرْفًا منَ البَحر أو رَشْفًا مِنَ الدِّيَـــــمِ
وَوَاقفينَ لَديهم عندَ حَدِّهــــــم * من نُقطَة العلم أو مِن شَكْلَة الحِكَمِ
[[بيتان من البردة للإمام البوصيري.]]
35. وقد قال حضرةُمَولانا الإمام، رضيَ الله عنه:
فأنتَ بَحر الله أنـــــــــــــتَ نورُهُ * وأنتَ خَيْرُ الباقي والأوائـــــــــل
فَجُندك الرُّسل الأولى قد سَبَقوا * وأنتَ قطبُ الكون خيرُ مُرسَل
يا سيد الأنَام، يا رأسَ العــــــلا * لا بَل يا أصلَ الأنبيـــــاء الأوَّل
[[أبياتٌ للشيخ المدني من قصيدة أيا نجوم الليل، الديوان ص. 20-21.]]
36. ثم اعلَمْ أنَّ مَن تَحَقَّقَ بهذا وذاقَه ذوقًا حقيقيًا، لأنَّ أهلَ الله أهل أذواق لا شَقشَقة، كما قال مولانا، رَضيَ الله عنه:
فَحُل إلى الذوق وكُن مرتفعًا * وحِدْ عن التشديق واسْمَعْ واقْتَف [[من قصيدة : ألا ابتهالاً أيها الخل الوفي للشيخ المدني، انظر الديوان، ص. 6-7.]]
37. فَمن ذاقَ هذا (المعرفة بالله)، فَهو إن شاء الله، من رجال الله الصالحين، الذينَ يَختَارهم الله لخدمة حَضْرَةِ قُدْسِهِ، والتَّمَتُّع بأنس قُرْبِه، ويُجري عَلى يَدَيْهم الهدايَةَ، ويَجعلهم منابعَ للحكمة والرَّحمة. فَيُخرجهم من عَميق بَحر الفناء إلى ساحل أرض البَقاء، يُرْشدونَ كلَّ سائرٍ، ويَعظونَ كل مُنكِرٍ جائر، ولَو شاءَ ربُّكَ لَهَدى الناسَ جميعًا ولكنَّ اللهَ يَهدي مَن يَشاء إلى صراطٍ مُستَقيم.
38. ” فَنبَذناه بالعَرَاء وهو سَقيم “، قيلَ: كالوَلَد الصغير حين يخرج من بطن أمه. ” فأنبتنا عليه شجرةً من يقطين ” وهو القَرَع، على القول المشهور، كَما في الخبر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّكَ لَتحبُّ القَرَعَ”. قال: أجَل، هي شَجَرَة أخي يونس. كَما يُتغذى منها، فَيَبست يومًا، فَبَكى عليها فقيل له : تبكي على شجرة يَبِسَت، ولم تَبكِ على مائة ألف أو يَزيدون من البشر؟ أردتَ هلاكهم، فالله أدَّبَ حَضرة رسول الله القائل :”أدَّبني ربي فأحسن تأديبي [[أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي ” . الْعَسْكَرِيُّ فِي الأَمْثَالِ مِنْ جِهَةِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي عُمَارَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَدِمَ بَنُو نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : أَتَيْنَاكَ مِنْ غَوْرَيْ تُهَامَةَ ، وَذَكَرَ خُطْبَتَهُمْ ، وَمَا أَجَابَهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : فَقُلْنَا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، نَحْنُ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ ، وَنَشَأْنَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّكَ لَتُكَلِّمُ الْعَرَبَ بِلِسَانٍ مَا نَفْهَمُ أَكْثَرَهُ ، فَقَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَنِي فَأَحْسَنَ أَدَبِي ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ” ، وسنده ضعيف جدا. ]]” والقائل: “والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشيةً“،أو ما في معناه. قال تعالى: ” ولا تَكن كَصاحِب الحوت إذ نادَى وهَو مَكظوم (48) لَولاَ أن تَدَارَكه نعمةٌ من رَبِّه لَنَبذناه بِالعَراء وهو مَذمومٌ (49)، فاجتباه ربه و جعله من الصالحين (50) ” (القلم: 48-50).
39. وقد أنشد رسول الله في بناء مسجده : و يا لعظمة مسجده :
والله، لَولا الله ما اهْتَدَيْنا * ولا تَصَدَّقنا ولا صَلَّينا
40. وهذا شأن مَن اجتَبَاه اللهُ، فَألْهَمَه العبوديةَ في ظاهره، فَتَراه متزينًا بالتكاليف الشرعية، تَحتَ الأمر والإشارة، والحُرية في باطنِهِ فَتَرَاه غائبًا عن الغَيْرية، حَاضرًا مع الحقيقة الأحدية، تاليًا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ” (الفاتحة: 5-7). سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحَمدُ لله رَبِّ العالمين. والله أعلم.
41. حَرَّرَه العبد الضعيف محمد طقطق المداني في يوم الأربعاء، ربيع الثاني سنة 1372 (من 24 ديسمبر 1952، أو الأربعاء 31 ديسمبر حتى بداية جانفي 1953).
تحقيق ن. المدني.