الفقه المَقاصِدي وفقه الواقع

Home شعائر التصوف كتابات صوفية دراسـات الفقه المَقاصِدي وفقه الواقع

بِسْم الله الرَّحْمن الرَّحيم

وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيّدنا مُحَمَّدٍ، أعْلمِ المُخْبِرينَ عن الله، وعَلَى آله وصحبه ومَن والاه.

كانَ سيّدي الشيخ مُحَمَّد المدنيَّ، رَحِمَه الله، مُؤَهَّلاً لدرجة الإفْتاء، عَالمًا بطرائق الاستنباط، مُتَدَبِّرًا لمقاصد الشرع الحنيف، جامعًا بَينَ نَفائِسِ الحَقيقَةِ وأنْوارِ الشَّريعَة. فَفي شَهر أوت 1954 (الموافق لِشهر ذِي الحجة 1373) قَرَأَ في صَحيفة: الجِيل الجَديد سُؤالاً حَول الغَسل بالشائح هل يَرفعُ الحدثَ وحُكمَ الخَبَثِ أمْ لا. فأجابَ جواب العارفين. ونَعْتَزُّ اليومَ بِنشر هذه الفَتْوى السبَّاقة في مِضمار الفقه المَقاصِدي وفقه الواقع وهيَ تُظْهِر جَمعَ أهلِ الله الكاملين بَينَ لَطائف الحَقيقَة ودَقائق العلوم الشرعيّة، مَشْربًا صافيًا، يَتَمازَجُ فيه الرّحيقان. يقول رَضِيَ اللهُ عنه:

1. كُنتُ قَرأت جَريدَةَ: الجيل الجديد، عدد 7 يوم السبت من ذي الحجة عام 1373 هـ سؤالاً عَن الغَسل بالشائح هَل يَرفع الحَدَثَ، وحكمَ الخَبَثِ. وهذا نصُّ السؤال:

2. يَا رجالَ الدّين ! عَشَرَاتٌ مِن السِّنينِ ومَازَالَ مِثلُها يَمُرُّ عَلَى الوجود مَعمَلٌ بدون مَاء، وهي المُسَمَّاة بَينَنَا بمعامل الغَسل بالشائح. ولَم نَدر نَحن الذين نَبعثُ إلى أصْحابها بثيابنا، ولا شَكَّ أنتم مَعنَا، هلْ هو كافٍ عَن التَّطْهير بالماء، أم الماء لا بدَّ منه. مِئاتٌ بل آلافٌ إنْ لَم نَقل مَلايينُ مِن النَّاس صَلَّت ومَازَالت تُصَلِّي بتلك الثياب مُعتَبرةً ذلك تَطهيرًا بدون أن يعلموا عَن ذلكَ مَا يَتَماشى مع حقَيقَةَ الشَّرع العزيز. نَرجو ويَرجو المسلمونَ كافَّةً جوابَكم. وجريدَتنا لنشر الأحكام الدينية مُتَّسِعَةٌ والسلام عليكم ورَحمَةُ اللهِ مِنَ المُسلمين الإمضاء: مُسْلِمٌ.

3. ولَمَّا طالَ الأمْر ولم نَرَ مَن أجابَ عن ذَلك السؤال من ساداتنا العلماء الأعلام، ظهرَ لي أنْ أجيبَ بما عَلَّمَني اللهُ وإنْ كُنتُ لَست من أهل هذا الشأن، ولا مِن فُرسان ذلك المَيْدان. عَسى أن يكون ذلكَ الجَوابُ رَحمَةً لكثيرٍ من المؤمنين فإنْ كانَ الجَوابُ صوابًا فالفَضْلُ بِيَدِ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشاء، وإنْ كانَ خَطَأً فَالخَطَأُ مَعفُوٌّ عَنهُ، والله غَفورٌ رَحيمٌ.

4. قلتُ: إنَّ الغَسْلَ بالشَّائِحِ عَلَى الطَّريقَة العَصريَّةِ أنْواعٌ كَثيرةٌ. النَّوعُ الأوَّلُ: سَألتُ أحَدَ المُطَّلعينَ فَأجابَ عَن مَعْمَلٍ يَعرفه أنَّهم يَجمَعونَ جُمْلَةً من الثياب ويَجْعلونَ فيهَا الصَّابونَ والمَاءَ وتَدورُ مَعها أعوادٌ كَما تَدورُ في قَصعَة العَجين، وبَعد أنْ يَتَحَقَّقوا نَظَافَةَ تلكَ الثيابِ يَنْقلونَها إلى قَصْعَةٍ أخْرَى ويُجْرونَ عَليهَا المَاءَ الطَّهورَ حَتَّى يَنقطعَ الصَّابونُ فَتطهرَ تلك الثياب وهذا يظهرُ مِنه أنَّهُ عَمليَّةٌ طاهرَة مُطَهِّرَةٌ لا شَيءَ فيها ومَا هِي إلاَّ كالغَسْلِ المُعتادِ عندنَا.

5. النَّوع الثاني: رَأيتُ مَعْمَلاً بسوسَةَ [[مدينة بالساحل التونسي تبعد عن العاصمة ب 140 كلم. ]] وأهلُ المَعْمَل مُسْلِمونَ فَسَألتُهم عَن ذَلكَ الغَسْل، فَأجابُوا أنَّهم يَضعونَ الثِّيابَ في نَحَاسَةٍ يَصبّونَ عليها مقدارًا مِن مَائِع الليسانس [[كلمة فرنسية Essence.]] أو البِنزين [[كلمة فرنسية أيضا مُعَرَّبَة من Benzène ]] أو الويت سبيرين، ثمَّ يُحَرِّكونَ ذلكَ المَعملَ فَتدخلَ تلكَ الثِّيابُ بذلكَ المَاء، ثمَّ تَخرجُ تلكَ الثِّيابُ بَعدَ أنْ تُزَالَ أوْساخُهَا فَيُبَدِّلونَ ذلكَ المَائعَ المُتَّسخَ بمائعٍ غَيره، نَظيفٍ مِن ذلكَ النَّوع، ويُحَرك ذلكَ المَعمل مَرَّةً ثانِيةً كالأولى ثمَّ يُخْرجَونَها نَظيفَةً مُبْتَلَّةً فَيَضعونَها في آلَةٍ أخْرى حَتَّى تَشيحَ ثمَّ يُعَلِّقونَها في الهواء لتذهبَ رَائحتُهَا الكَريهَةُ.

6. النّوعُ الثَّالثُ: رَأيتُ مَعْمَلاً بِصفاقُسَ [[مدينة تونسية مشهورة.]] وأهْلُه مُسلمونَ أيْضًا وهو مُخالفٌ في غَسله للمَعمَل الذي بِسوسَةَ لأنَّه نَوعٌ آخَرُ فِي الصَّنْعَة. فَسَألتُ صَاحِبَه فَأجابَ أنَّهُ تُوضَعُ الثِّيابُ في شِبه نَحَاسَةٍ مَثقوبَةٍ جَوانبُها، ويُرسَلُ عَلَى تلكَ الثياب هواءٌ سَخِنٌ، هو غَازُ المَائِع المُسَمَّى التريكلوريتلان [[كلمة من أصل فرنسي: trichlorethylène]] المَصْنوعُ مِن النوع المسمى الكُلور، مِن غَير أنْ تَمَسَّ تلكَ المَادَّةُ شَيئًا من الثياب، ثمَّ بَعدَ سَاعَةٍ من الزَّمَنِ تَقريبًا تَخرجُ تلكَ الثِّيابُ نَظيفَةً شائِحَةً. وأخْبَرَنَا صَاحبُ المَعمَلِ أنَّهُم يُسَخِّنونَ المَاءَ المُطلَقَ ويُرسِلونَ بُخَارَهُ السَّخنَ عَلَى ذلك ممزوجًا بِبُخارِ ذلكَ المَائعِ، ويُرْسَلُ عَلَى الثياب فَيُزالُ عَنهَا جَميعُ ما عَلِقَ بها.

7. ثمَّ أقولُ: وبَعدَ الاطِّلاع عَلى تلكَ المَعامِلِ التي يُغْسَلُ بها، أخذتُ في مُراجَعَة كُتب سادَتِنا المَالكيَّة فَرَأيْتُهم ذَكروا: أنَّ الحَدثَ وحُكمَ الخَبَثِ يُرْفَعُ بالماءِ المُطْلَق الذي لم يَتَغَيَّر طعمُه ولا رِيحُه ولا لَونُه، كَما ذَكروا: أنَّهُ يُرفَعُ الخَبَثُ بِدَبْغ الجِلد وبالنَّار، ولكنها كلّها لا تَتوافَقُ مَع أنْواع تلكَ المَعامِلِ.

8. غيرَ أنِّي اطَّلَعت على جَوابٍ للعَلاَّمَة المُحَقِّق المُفتي المالكي الشيخ سيدي مُحَمَّد البَشير النيفر أجابَ به عَن سُؤالٍ وَرَدَ عَلَيه في شأن الغَسْل بالشَّائِح فأجابَ بما مُحَصَّلُه: الجَواب والله المُوَفِّقُ للصَّواب أنْ لا حَرَجَ عَلَى المُسْلم في الصَّلاةِ بالثِّياب المُنَظَّفَةِ عَلَى الصِّفَة التي ذَكَرَ السَّائِلُ مَا لَم يَثبُتْ أنَّ التَّنظيفَ بِنَجَسٍ عَلى مَا صَرَّحَ به فقهاؤنا في مثلِ هَذا. وأطال بعد ذلك في الجواب والله المُوَفِّقُ للصَّواب.

9. هَذا ما اطَّلعتُ عليه من أقوال سَادَتِنَا المَالكية في هاته المَسْأَلَة. ثمَّ تَذاكَرْتُ في المَوْضوع مَع العَلاَّمَة المَبرور الشيخ صَالِح نابي، المُدَرِّس الحَنَفي بالفَرْع الزَّيتوني بالمنستير فَأطَّلَعني عَلى كِتابٍ لأحَد سَادَتنا الحَنَفيّة المُتَقَدِّمينَ يُسمَّى مَرَاقِي الفَلاح بإمْداد الفَتَّاح، شَرْح الإيضاح ونَجاة الأرواح، تأليف العلامة الجليل سيدي حَسن بن عمار بن علي الشرنبلالي الحنفي [[حسن بن عمار الشُّرُنْبُلالي الوفائي الحنفي ، أبو الإخلاص المصري. ولد في شبرى بلولة بالمنوفية بمصر سنة 994هـ. جاء به والده منها إلى القاهرة، وعمره ست سنوات، فنشأ بها، فحفظ القرآن، وأخذ فيه الاشتغال، ودرَّس فيها. زار المسجد الأقصى في سنة 1035هـ. صحبه الأستاذ أبو الإسعاد يوسف بن وفا، وكان خصيصا به في حياته. من شيوخه عبد الرحمن المسيري. والإمام عبد الله التحريري، والعلامة محمد المحبي، وسنده في الفقه عن هذين الإمامين، وعن الشيخ الإمام علي بن غانم المقدسي. وقد كان من أعيان الفقهاء كما أصبح المعول عليه في الفتوى، وتقدم عند أرباب الدولة. وكان له في علم القوم باع طويل، وكان معتقدا للصالحين وله معهم إشارات ووقائع أحوال. من تصانيفه الكثيرة: نور الإيضاح ونجاة الأرواح في الفقه الحنفي. توفي بالقاهرة رمضان سنة 1069هـ. معجم المؤلفين (3/265.]] ، رَضيَ اللهُ عَنه، في باب الأنجاس والطهارة عنها ما نَصُّهُ مَمزوجًا الشّرْحُ بالمَتْنِ مع بَعضِ اختصارٍ في الشرح: وتَطْهُرُ النَّجاسَةُ الحَقيقية مَرئيَّةً كانت أو غير مَرئيَّةٍ، عَن الثَّوبِ والبَدَنِ بالماء المُطلق اتِّفاقًا وبالمُسْتَعمَلِ على الصَّحيح لِقُوَّةِ الإزَالَةِ بِه، وكَذَا تَطْهُر عَن الثَّوبِ والبَدَنِ في الصَّحيحِ بِكُلِّ مَائِعٍ، طَاهِرٍ عَلى الصحيحِ، مُزيلٍ، لِوجودِ إزالتها به، كالخَلِّ ومَاءِ الوَرْد، والمُسْتَخْرَجُ من البُقولِ لِقُوَّة إزالَتِه لأجْزَاء النَّجاسَةِ المُتَناهيَة كالمَاء. أهـ.

10. فَرَأيْتُه قَد حَكَمَ بِطهارَةِ الثَّوْبِ والبَدَنِ بالمُطْلَق اتِّفاقًا وتَطْهُر النَّجاسَةُ عَلَى الأصَحِّ بِكلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزيلٍ لِوجودِ النَّجاسَةِ كَالخَلِّ ومَاءِ الوَرْدِ وما يُسْتَخْرَجُ مِن البُقولِ. وهَذا كُلُّه يَتَوافَقُ مَع تلكَ المِياه المُسْتَعْمَلَة في تلكَ المَعامِلِ للغَسْل بالشَّائِحِ، لأنَّهَا طَاهِرَةٌ تُزيلُ عَينَ النَّجاسَةِ مِنَ الثِّيابِ.

11. وحِينَئِذٍ فَالغَسْلُ بالشَّائِح الذي كَثُرَ استعمالُه خُصوصًا في الحَواضِر [[أيْ المُدُن.]] يَرْفَعُ الحَدَثَ وحُكْمَ الخَبَثِ عِندَ سَادَتنَا الحَنفيَّة، رَضيَ اللهُ عَنهُم، فَمَنْ قَلَّدَهُم نَجا واتَّبَعَ طريقَ الهُدَى.

12. وهَذا أمْرٌ يَقضِي بِرحْمَةِ كَثيرٍ منَ الأمَّة المُحَمَّديَّة التي كَثُرَ فيهَا الغَسْلُ بالشَّائِح في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، فإذَا كَانَ غَسْلُهم بالشَّائِح مُتَّبعينَ فيه أحَدَ المَذاهِبِ الإسلاميَّة المُقْتَدَى بها في الإسْلام كانُوا سائرينَ علَى صِراطٍ مُستَقيم والله الموفق للصَّوابِ.

مُحَمَّد المَدني.

تحقيق وتقديم: ن. المدني، باريس.

المولد النبوي لابن عاشور

1- الحَمدُ للهِ الذي أطْلعَ للنَّاسِ في ظُلمَة الضَّلالَةِ بدرَ الهُدى، وبلَّ بِغَيْثِ الرَّشادِ...

الصيام عند الشيخ الطاهر بن عاشور، رحمه الله.

الصِّيامُ عِبَادةٌ شُرِعَتْ لِمَقاصدَ ساميةٍ وحِكَمٍ عَالِيَةٍ، هي مِن قَبيلِ الحِكمَةِ العَمَليَّة لِريَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى استذْلالِ المَصَاعِبِ، والتَّصَبُّرِ عَلى التَّخَلُّق بالأخْلَاق المَلَكيَّة. وقِوامُهُ الإمساكُ عَن الشَّهَوات المُلازِمَة لِما في الهَيْكَل الجِسْمَانيِّ مِنَ المَادَّة التي تَغينُ عَلى تَجَرُّدِ الرُّوح. فَالقَصْدُ مِنهُ إضعافُ القُوَى الماديَّةِ، لتَنبَثقَ من مَنافِذِهَا أشَعَّةُ النَّيِّر الرُّوحانيّ.

الرحلة الحجازية، رحلة الحجّ

نعتز اليوم بتقديم هذا الكلام النفيس الغالي الذي صاغه الشيخ سيدي عبد العزيز البوزيدي، وفيه من...