الشوق الى الله من أعلى المقامات القلبية وأغلاها. وهو الحال الكاشف عن حقيقة الايمان والدَّال على مقدار المحبَّة الربانية. وبمناسبة أختام القرآن التي تليت في ذكرى الشيخ سيدي محمد المدني رحمه الله في 29 أوت 2009، يَستَعرضُ شَيخُنَا سيِّدي مُحمَّد الـمُنوّر المدني، أطال الله بَقَاءَه، مَفهومَ عِشق اللهِ، وَدَلائلَهُ وَطُرُقَ تَقْوِيتِهِ.
الـلّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَاركْ عَلَى سيّدنَا وَمولانَا مُحمّدٍ، سَيّدِ الـمُشتَاقِينَ وَنُورِ أَبصارِهِم، عُمدَةِ العَارفِينَ وَمَعدَنِ أَسرَارِهم، تَاجِ الأَولياءِ وَبَهجَةِ فَخَارِهِم، مَنْ اهتَاجَت الأَشوَاقُ الرَبَّانيّةُ بِقلبِهِ الشَّريفِ، فَكانَ صَفوةَ الأَنبياء وَخِيارَ خِيارِهِم، وَعَلَى آلِه وَصَحَابَتِه وَكُلِّ مَنْ استَمَدَّ مِن بِحَارِهِم وَسَارَ عَلَى نَهْجِهم وَاقتَدَى بِأَنْوارِهِم .
الشّوقُ إلى الله مِن أَعظَم الـمَقَامَات التِي يَتَكَرّمُ اللهُ بِهَا عَلَى مَن اختَصَّ مِن عِبَادِه الذّاكرينَ، وَحقيقةُ الشّوقِ شدّةُ الرَّجَاءِ في لِقَاءِ اللهِ شدّةً تَهزُّ أَعطافَ القُلُوب، وَبِقَدر الشّوقِ يَكونُ القُربُ مِنَ الله. فَالشّوقُ يَتَوَلَّدُ مِن صَادِق الـمَحَبَّةِ وَفَرطِهَا، وَلكِن مَهْمَا اشتَاقُ العَبدُ إلَى رَبّهِ كَانَ شَوقُ اللهِ إليهِ أَكبَرَ.
وَالشّوقُ إلَى اللهِ مَقَامٌ قُرآنيّ كَريمٌ، شَهِدَت لَه الآياتُ مِنَ الذكرِ الـحَكِيم، وَنَطقَت به أَدِلّةُ التَنزِيل القَويمِ، فَقَالَ اللهُ فِي مُحكَمِ الكلاَم القَديم:
“[*مَن كَانَ يَرجُو لقاءَ اللهِ فَإنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهو السّميع العَليم*]”. (الآية 5 من سورة العنكبوت). وَقَالَ فِي آخِرِ آيةٍ مِن سُورَةِ الانشراح: “وَإلَى رَبِّكَ فَارغَبْ”، صَدَقَ اللهُ العَظيم.
أَمّا سيّد الـمُشتَاقِينَ وَإمَامُهُم وَصَفوةُ الرَّاجينَ للقَاءِ الله وَهُمَامُهُم، فَقد كَانَ يدعو ربّه وَيناجِيهِ حَتّى يُخفّفَ عنه ما كانَ مِن لَواعِجِ الأَشوَاق الطّاهرة يعتريهِ، فَقَد جَاء في الحديث الذي رَوَاه القَاضي عِياض فِي الشِّفَاء -وَأَعْظِمْ بِه حُجَّةً –: “أَنّ عَليّا رَضي الله عنه قَال سألت رسولَ الله صلّى الله عليه وَسلّم عَن سُنّتِهِ فَقَالَ : “الـمَعرفةُ رأسُ مَالِي، وَالعَقلُ أَصْلُ دِينِي، [*وَالشّوقُ مَرْكَبِي*] وَذِكرُ اللهِ أَنِيسي، وَالثِّقَة كَنزي، وَالعلم سِلاحِي، وَالصَّبر ردائي، والرِّضَاء غَنيمتِي، وَالعجزُ فَخري، وَالزُّهدُ حِرفَتِي) أَيْ عَادَتِي وَشَأنِي ( وَالصدق شَفيعي، وَالطَّاعة حُبّي، وَقُرّة عَينِي فِي الصّلاة.
وَجَاءَ في حديث آخرَ عَنه، صلَّى الله عليه وسلّم، :”وَثَمرةُ فُؤادي في ذِكرهِ، وَغَمِّي لِأَجلِ أُمَّتِي وَشَوقي إلى رَبّي عَزَّ وَجَلّ”.
فَالشّوقُ إلَى الله مَقَامٌ مُحَمّدي ثابتٌ وهُوَ أَفضلُ مَن نَالَه فَتَرَقَّى به في أَعلى مراتب كمالاَتِهِ.
وَقَد وَرِثَ كبارُ الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه النّفحات القلبية الشّائقةَ والأحوال النّورانية الرائقةَ، فَنَـقَلُـوهَا وَتَـداولوها، وَفِي صَلَواتِهـم أَعادُوهَا. فَقَد وَرَدَ عَن عطاء بن السّائب عَن أبيه قال:
“صَلَّى بنا عمّار بن ياسر صلاةً فأوجزَ فيهَا فَقـلت : “خَفَّفتَ أبَا اليقظان ) كُنية عمار بن ياسر (. فَقَالَ: “مَا عَلَيَّ من ذلكَ، لَقد دَعوتُ اللهَ بدعَواتٍ سَمعتها مِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فَلَمَّا قَامَ تَبعه رجلٌ منَ القوم فَسَأَلَه عَن الدّعوات فقال : “اللّهم بِعلمكَ الغيبَ وَقدرتكَ عَلَى الـخَلقِ، أَحْيِنِي مَا علمتَ الحياةَ خيرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا علمتَ الوفاةَ خيرًا لِي، اللّهم إنِّي أسألكَ خشيتَكَ فِي الغيبِ والشَّهادةِ، وَأسألكَ كلمةَ الـحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَـضـب وأسألك القَصدَ ) أي الاعتدالَ ( في الغِنَى والفَقر وأسألك نعيمًا لاَ يبيد وَقرّةَ عينٍ لاَ تَنقَطِع، وَأسألك الرّضَا بَعدَ القَضَاء وبَردَ العَيشِ ) أَي رَغدَ العَيش والمقصود هنا الجنّة ( بَعدَ الـمَوتِ، وَأسألكَ النَّظَرَ إلَى وَجهِكَ الكَريمِ، [*وَشَوقًا إلى لقائكَ*]، فِي غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهمَّ زيِّنَا بِزينَة الإيمان، اللهمَّ اجعلنَا هُداةً مَهدين”.
وَعلَى هَذا النهج النبويّ القويم، سَارَ كِبارُ العَارفين بالله، حَتّى قَال أحد العلماء العاملين: “قُلوبُ الـمشتاَقين مُنوّرةٌ بِنور الله تعالى، فَإذَا تَحرّكَ اشتياقهم أضاء النّورُ مَا بينَ السماءِ وَالأرض، فَيعرضُهم الله تَعَالَى عَلَى الـمَلاَئكة فَيقول: “هؤلاء الـمُشتَاقونَ إلَيَّ،[* أُشهدكُمْ أَنِّي إَليهم أشوقُ*]”.
وَكَأَنَّ هَذه الأشواقَ لاَ يَحصرُهَا زمانٌ وَلاَ مكانٌ فَتَغَنَّى بِها كلُّ من اختصّه الله بصفاء الجَنَان وَنَقَاء الوِجدان، حَتَّى أَنَّهُ يُروَى: “أَنَّ سيّدنَا دَاودَ عَليه السّلامُ خَرَجَ يومًا إلَى بَعض الصَّحَاري مُنفَرِدًا، فَأَوحى الله تعالى إليه: “مَالِي أَراكَ يَا داود وَحدَانيّا ) أَيْ مُنفَرِدًا ( فَقَالَ: “[*إلَهِي استأثَرَ الشّوقُ إلَى لقَائِكَ عَلَى قَلبِي*]، فَحَالَ بَيني وَبينَ صُحبَةِ الـخَلــقِ”. فَأَوحَى الله تَعالى إليه: “ارْجِعْ إلَيهم، فإنّكَ إنْ أَتَيتَنِي بعَبدٍ آبِقٍ ) غَيرَ تَائبٍ ( أَثبتُّكَ فِي اللَّوح الـمَحفوظِ جَهْبَذًا ) من أَكابر العبّاد الـمُقَرَّبينَ ( .
كَمَا أَوحَى الله إلى داود عليـه السّلام: “قُـلْ لِشـبَّانِ بَنـي اسـرَائـيل لِمَ تَـشغَـلُـونَ أنفُـسَكُـم بِغَيرِي، [*وَأَنَا مُشتَاقٌ إليكُم*]، مَا هَذَا الـجَفَاءُ ؟
وَفِي نَفس السِّيَاقِ، يُروَى:”أنَّ اللهَ عزَّ وَجَلَّ أَوحَى إلى دَاودَ عَليه السلام: “لَو يَعلَمِ الـمُدْبِرونَ عَنَّي كَيفَ انتظَاري لَهُم وَرفْقِي بِهم [*لَأَتوْا شَوقًا إليَّ*]، وانقَطَعَت أَوصَالُهُم مِن مَحَبَّتِي، يَا دَاود هَذه إرَادَتِي فِي الـمُدبِرينَ عَنِّي، فَكيفَ إرَادَتِي فِي الـمُقْبِلِينَ إَلَيَّ”.
وَبِمنَاسَبَةِ الحَديثِ عَن أَشْوَاق الأَنبياء وَالـمُرسَلين يُروى: “أنَّ سَيِّدَنَا شعيبًا بَكَى حَتَّى عَمِيَ فَرَدَّ الله عزّ وجلّ بصره، ثمّ بَكَى حَتّى عَميَ، فَأوحى الله تعالى إليه :”إنْ كَانَ هَذَا البُكَاءُ لِأَجل الجنّة فقد أبَحتُهَا لَكَ، وإن كَانَ لأجل النّار فقد أَجرتُكَ منها. فَقَالَ: “[*لاَ بَل شوقًا إلَيكَ*]،” فَأَوحَى الله عزّ وجلّ إليه: لِأَجْلِ ذَلك أَخدَمْتُكَ نَبِييّ وَكَلِيمي (يَعني سيدَنَا موسى عليه السلام) عَشرَ سنينَ.
وَمِـن رَقائـق مَا يُروَى عَـن أَشواق العَــارفيــن بربّهـم أَنَّ عَجــوزًا قَدم بَعض أقاربِهَا مِنَ السفر، فَأَظهَرَ القَومُ السرورَ وَالعَجوزُ تَبكي، فَقيلَ :”لَهَا مَا يُبكيكَ؟ فَقَالَت: “ذَكَّرَنِي قُدومُ هَذَا الفَتَى يَومَ القُدومِ عَلَى الله تَعَالَى”.
يَقول الشّاعر :
[*وَأَعظَـمُ مَا يَكـون الشّوقُ يومًا *** إذَا دَنَــتِ الـخِيَــامُ مِنَ الِخيَــام*]
وَعَن غمرة الأشواق التي تَملأُ كلَّ القُلوب، قَالَ أحدهم : “[*مَن اشتاقَ إلى الله اشتاق إليهِ كُلُّ شيءٍ*]”.
وَأَفضَلُ مَا نَختم به هذه العجالَةَ قَولُ الله تعالى:”[*فَمَنْ كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صًالِـحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا*]” (سورة الكهف الآية 110 ).
ولا يَسَــعُـنَا إلاَّ التَّوجُّــهُ إلَى اللهِ بقُــلـوبٍ خَاشعَــةٍ وأفــئدَة ضَارعةٍ مُتَوسِّلينَ بِجاه سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وسلّم:اللَّهم أَنِلْنَا من صَادِقِ الأَشواقِ مَا بِه تُنيـرُ قُلوبَنَا، وَمِن رقيقِ الأَذْوَاقِ مَا به تَشفي كُروبَنَا، وَمِن لَطيف الأَفهام مَا بِه تُطَهِّر عُيوبَنَا، وَمِن خَفِيّ الأَلطاف ما به تَغفر ذُنوبَنَا، وَمِن جَلِيّ الإكرام مَا به تُضَاعِفُ حَسَنَاتِنَا، آمِين.
المصادر :
• الشفاء للقاضي عياض ج 1 ص 85
• الرّسالة القشيرية ص 148
[( الشّيخ المنوّر المداني
السبيت 29 أوت 2009
الزاوية المدنية، ختم سيدي محمد المدني رحمه الله.
)]