بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله على سيدنا محمد وسَلَّم تسليما
نقدم إلى حَضراتكم مذاكرةً عميقة حول علميْ الظاهر والباطن، تنشر لأول مرة، صاغها سيدي محمد المدني ونقلها سيدي حسن الهنتاتي، رحمهم الله وبرَّدَ ثَرَاهم.
1. ما يستروحِ الخاصة من قوله تعالى : “وإذ قالَ موسى لفتاه” (الآية 60 من سورة الكهف) إلى قوله تعالى: “ويسألونك (الآية 82″.
2. سَأل رسول اللهُ، سيدنا موسى، عَليه وعلى نبينا أزكى الصلاة والتسليم، رَبَّه، جلَّ وَعَلا: “هل خلقتَ يا رب مَن هو أعلم مني؟ فَأجابه: نَعم عبدنا الخَضِرُ. فَالتَحَق به سيدنا موسى، عليه السلام، وأقبل عليه إقبال المريد على شيخهِ، راجيًا أن يَسمح له بمصاحبته ليأخذَ عنه العلمَ اللدني، المفقود لَدَيْه رَغمَ نبوته، عليه الصلاة والسلام، وتَبحره في العلم الظاهر.
3. وهذا فيه إشارة إلى أنَّ الإنسان وإنْ بَلغَ الذُّرْوَة العليا في التشرّع، فذلك لا يكون لازمًا للتحقق، ولا يَمنعه من التماس علم القوم ولو ممَن هو أقل منه معرفةً في الظاهر، ” إذ الحِكمَة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وَجَدها“.
4. و في قوله تعالى: “قال إنك لن تستطيع معي صبرًا” (الكهف: 67)، إلى قوله تعالى: “حتى أحدث لك منه ذكرًا” (الكهف: 70) الذي يفيد وأنّ سيِّدنا الخَضِر نَبَّهَ سيِّدَنَا موسى من الاعتراض الذي ربما يَصدر عنه، بمجرد ما يقوم سيدنا الخضر بفعلٍ مًا، مخالفٍ لسيدنا موسى، لشريعته مَع أنه صادرٌ عن تَحقيق ورَويَّة .
5. ويُستَروح من هاته الآية أنَّ المريد إذا قَدَّمَ نَفسَه لشيخ مربٍ عارفٍ ليأخذ بيده، ويُغرقَه في بحار التحقيق، كان لزامًا عليه أن يسلِّم نفسه إليه تسليمًا كليًا، ويَرى أنَّ كلَّ ما يصدر عن شيخه سواء كان قولاً أو فعلاً هو عين الحق وبالإجازة (غير واضحة) يكون المُريد بينَ يَديْ شَيخه كالميت، يُقَلبه كيفما شاء وهو مطاوعُهُ. لا فرق بينَ ذلك المريد، كان لقبه فقيرًا أو مُقَدَّمًا، إذ في الثاني تَكون المطاوعة أوكدُ لأنه بالنسبة إلى فقرائه مثال الكمال وهو بالنسبة إلى شَيخِهِ مِرآة الفقراء.
6. ومن قوله تعالى: “فَانطلقا” (الكهف: 74) إلى قوله: “ذلكَ تأويل ما لم تَستطيع عليه صبرا (الكهف: 82”. يُفهم من هذه الآيات أنَّ سَيدنا الخَضِرَ بمجرد ما صَدَرَ منه ما يخالف شريعةَ سيِّدنا موسى، أنكر عليه هذا لِخَوف الفتنة، فَعاتَبَه سيدنا الخضر بكلام رطبٍ، اعتَذَرَ على إثره سيدنا موسى، عليه السلام، بالنسيان.
7. ولما تَكرر من سيدنا الخضر، عليه السلام، ما هو مخالف لشريعة سيدنا موسى ثانيًا، وذلك بقتل نفس بغير نفسٍ، أنكرَ عليه هذا رغم الاعتذار السابق. انظره (غير واضحة) فذاكره سيدنا الخَضر بعجزه عن الصبر. فاعتَذَر سيدنا موسى ملزمًا نفسه مفارقته إن رَجَعَ إلى مثلها، ولكنَّه لم يصبر عن الرضى عن المخالفة الثالثة من بناء الجدار بدون أجر في قريةٍ يَبخل عليها أهلها بالضيافة. فألزمه سيدنا الخضر عهده أيْ مُفارقَتَه إياه. ولم يمتنع سيدنا موسى من الاعتذار والتذلل حتى لا يحرم من مصاحبة مِثلِ سيدنا الخضر، عليهما السلام، مع أنَّ أسئلة سيدنا موسى ما كانت انتقادية وإنما كانت استفهامَ تَعلم.
8. ومما يستروح من هاته الآيات أنَّ طريق القوم مبنيٌّ على مثل هاته السيرة، فالسؤال من طرف المريد لشيخه عمّا يصدر عنه ينبغي أن لا يكون اعتراضًا لأنّ ذلكَ يوقفه عن السير والعياذ بالله. ولا بأسَ إذا كانَ استفهاميًا إذْ لربّما يوضح له ما أشكلَ عَليه في سيرٍ، وهذا مقام ظاهر النفع عن سابقه أي مقام الاعتراض.
9. والمقام الثالث، وهو أعلى المقامات وأسماها، ألا وهو التسليم وعدم السؤال “حتى يُحدث لك منه ذكرًا” وهاته أعلى المراتب من أهل الخواص. ولقد حَدَثَ لأستاذنا، (أي الشيخ محمد المدني) رضي الله عنه، أن بَعَثَ له شيخه، سيدي أحمد العلاوي، قَدَّسَ الله سِرَّه، أن يَلتحقَ بالزاوية العلاوية وكانت زوجته إذ ذاك في مرض مخوفٍ فَلم يَمنَعه ذلك من السَّفَر حالاً.
10. وحَدَثَ له عندما كان معلما بمدرسة المنستير أن رَاسَله شيخه، رحمه الله، طالبًا منه الحضور بالزاوية، فلم يَتَرَدّد في السفر. ولما وَصَلَ لحضرة شيخه توجه إليه هَذا سائلاً: يا بنيَّ، هل لا زلتَ تعلِّم بالمدرسة؟ فأجابه بنعم. فَقال له: وكيف تركتَ تلاميذَكَ؟ فَرَدَّ عليه قائلا: لم أفكر قطُّ في شأنهم، وإنما الشيء الذي شَغَلَني هو امتثال أمرك. فوالاه قائلا: بارَكَ الله فيكم، إنَّ هؤلاء التلاميذ، المريدون التزودَ بالعلم الظاهر، لن يُعدَموا غيرك إذا أعدَموكَ، إذ التضلّع فيه كثيرٌ، أما مريدو الترشف من كأس الحقيقة يَعسر عَليهم أن يجدوا ساقيها، إذ التذوق لها قليل. فَلتَكن أنت هو ذَاكَ الساقي، وامضِ في هذا السبيل، بارك الله فيكَ وأمَدَّكَ بأسراره. فكان الفتح والحمد لله.
11. وهَكذا ينبغي لكل مريد أن يَسير مع شيخه. إذ مَقَام التسليم مقامٌ عزيز المنال، حَميد المآل، لا يمنحه الحق، تَباركَ وتعالى إلا لِمَن استغرقَ في وحدانية أفعال وصفات وذات المتعالي، نَسأل الله أن يَسلك بنا سبيلَه. آمين.
12. من كناشٍ بخط سيدي محمد طقطق.
تحقيق ن. المدني.
الزاوية المدنية، 23 ديسمبر 2018.