يُقدِّمُ الشيخ سيدي مُحمَّد الـمُنَوَّر المدني، في هذه العُجاَلة، بسطةً عن حَيَاة الرُّوح بَعدَ الموت، وَيُذكِّرُنَـا فِيها بضَرورَة العَمَل الصَّالِح في الدّنيا حَتَّى تَسعدَ الروحُ بِخدمة الله في الدنيا وَتَرضى بِنَعيمه فِي الآخرة.
والصَّلاة والسلام على قِائد أرواحِ المؤمنين، وَسَاقيها من أنوار اليقين، والسائر بِها إلى حَضرة القدس المبين، سيدنا محمد الأمين، وَعَلَى آله وَصحابته إلَى يَوم الدِّين.
نَسمع كثيرًا كَلمة “الروح”، والحديثُ عنها لا يكادُ يَنتَهي، ومعلومٌ أنّ الإنسان لا يكون حيًّا إلا إذَا كَانت الروحُ ساكنةً فِي جَسَدِه فهو يُخالط النّاس ويعيشُ معهم ويُحَادِثُهُم أثناءَ الحياةِ، فإنْ فَارَقَتْه أصبحَ جثّةً هامدةً ومَصيره إلى التراب. فَحينئذٍ يحقُّ التساؤل عمَّا أبانه القرآن عن حَقيقَة الروح وهل يستطاع إدراكُ كُنْهِهَا؟
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “[brun]يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً[/brun]”
وأمَّا عَن سَبَب نُزول هذه الآية الكريمة، فَقَد أخرجَ الشيخان وغَيرهما عن ابن مَسعود رضي الله عنه قال:”كنتُ أَمشي مع النَّبِي صلَّى الله عليه وسلَّمَ في خِرَبِ المدينة وهو مُتَّكِئٌ على عَسيبٍ فَمَرَّ بقوم من اليَهود فقال بَعضهم لبعضٍ:”سَلُوهُ عَنِ الرُّوح”، وقال بَعضهُم :”لاَ تَسألوه”. فقالوا: “يَا مُحمَّد مَا الرّوح؟ فمَازَال متكئًا على العسيب فَظَنَنت أنّه يُوحى إليه فلما نَزَلَ الوحي قال:”يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي”.
ويتعلَّق سؤَالُهم بِحَقيقةِ الرُّوح الذي هو مَدَار بَدَن الإنسان ومبدأ حياته لأنَّ ذَلكَ مِن أدقِّ الأمور ولا يكَاد يُعلَم إلاَّ بوَحْيٍ ولهذا قال الله لَهم: “قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي”.
وَقد قَرَّبَ القدماء تعريفها بكونِهَا “جِسمًا نورانيًا عُلويًا حَيًّا مُخَالفًا للجسم المحسوس وبوجودها تكون الحياة مَوجودَةً في هذا الجسم”. وَأضافَ بعضهم في مُحاولةٍ لتعريفٍ عامٍ للرّوح: “إنّها ذَاتٌ لَطيفةٌ كَالهَوَاء ساريةٌ في الجسد كَسَريان الماء في عروق الشَّجر، وَكَمَا أنَّ الماء هو حياة الشجر وبدونه يَموت، جَعَلَ الله الروح حياةً للإنسان وبِبُعدهَا عَنه يَمُوتُ”.
وقد تَحدث العلماء قديما وحديثا عن الروح وبمآلها بعد الانتقال الى الدّار الآخرة، وَنَستطيع أن نفهمَ من ألآثار الدّينيّة أنَّ الروحَ بعدَ مفارَقَتها البَدَنَ عند الموت تبقى لَهَا قوة الإدراك، ولاَ يَعلم حقيقتَها إلاَّ خالقُهَا جَلَّ جَلاَلُهُ وَتَكَونُ لها صلةٌ بِجَسَد صَاحبها بعد موته على نَحوٍ لا يَعلَم حقيقتَه أيضًا إلاَّ خالقُ الروح سبحانه وَتَعالى، وَهَي بِهذه الصلة تعرف مَن يَزور قبرَ صَاحبها ومَن يُسَلِّم عَليه وتُحسُّ بالألم والسرور.
فَقَد رُويَ فِي السنَّة الـمُطَهَّرَة أنَّ الميتَ يَعرف مَن يَتَوَلَّى تَجهيزَه وَدَفْنَه لاتِّصَالِ جَسَدِه بروحه حينئذ. كَمَا رَوى الإمام أحمد أنّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “إنَّ الـميّتَ يَعرف من يَحمله ومن يَغسله ومَن يُدليه في قبره”.
وَفي هذا الـمَعنَى نفسه، يَقول سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: “تَخْرُجُ روحُ المؤمن أطيبَ مِنْ رِيحِ المسك فَتنطلق بها الملائكةُ الذينَ يَتَوَفَّونَهُ فَتَتَلقَّاهُ الملائكةُ من دون السماء فَيقولون هذا فلانٌ بن فلانٍ فَعلَ كيتَ وَكيتَ بِمحَاسن عمله. فَيَقُولونَ مَرحبًا بِكُم وَبِه فَيقبضونَها منهم فيصعد به من الباب الذي كان يَصعَد منه عَمَلُه فَتشرقُ في السماوات ولها برهانٌ كَبرهان الشمس حتى يَنتَهيَ بها إلى العرش.”
ويضيف بعض العلماء أنَّ الروحَ بعد مفارقتها جَسدها تسمع السلامَ عليها وتعرف من يزور قبرَ صَاحبهَا، وتَشعر بلذّة النعيم وتَشعر بألم العقاب إن كان هناك عقابٌ لَهَا.
هذا وَينبَغي أنْ نعلم أنّ الأرواح بعد الوفاة تكون مُختلِفَةَ الأَحوال والمراتب بِحَسَب اختلاف أصحابها في مقامَاتِهم وَمَنازلهم ودرجاتِهم عند الله تعالى. فقد رَوى الحافظ أبو النعيم رضي الله عنه: “أنَّ الملائكةَ تَرفَع الأرواحَ حَتَّى تُوقِفَهَا بَينَ يَدَيْ اللهِ عَزَّ وَجَلّ فَإنْ كَانَت من أَهْل السّعادة قال سيروا بها وأَروهَا مقعدَهَا من الجنّة فيسيرون بِهَا في الجنّة على قدر ما يَغسل الميت فإذا غسل وكفن ردّت وأدرجت بينَ كَفَنِه وَجَسَده فإذا حمل على النعش فإنّه يسمع كلام من تكلم بخير أو تكلم بشر فإذا وصل إلى المصلّى وصلّي عليه ودفن رُدَّت فيه الروح وقَعَدَ ذَا رُوحٍ وَجَسَدٍ وَدخلَ عليه الـمَلَكَان للسُّؤال.
وروى الحكيم الترمذي مرفوعا: “إنّ أعمالَكم تُعرض عَلَى شعائركم وأقاربكم من الموتى فإنْ كان خيرًا استبشروا وإن كان غير ذلكَ قالوا: “اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهم حَتَّى تَهديهم كَمَا هَدَيتَنَا”.
وَرُويَ مَرفوعا: “تُعرضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله تبارك وتعالى وَتُعرضُ عَلَى الأبناء والآباء والأمهات يومَ الجمعة فَيفرَحون بِحسناتِهم وتَزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا فاتقوا الله ولا تُؤذوا أَمواتَكم”.
وَكَانَ أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: “اللهمَّ أعوذ بكَ أنْ أعملَ عَمَلاً تُحزنُ به أَمواتِي”.
وَفي حديث الإسراء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَرَرت عَلَى مَلَكٍ جَالِس عَلَى كرسيّ وإذ جميع الدنيا وَمَن فيها بين ركبتيه وبيده لوح مكتوب ينظر فيه لا يلتفت عنه يَمينًا ولا شمالاً فقلت: “يا أخي يا جبرائيل من هذا؟” فقال: “هذا ملك الموت”. فقلت:” يَا ملكَ الموت كيفَ تقدر على قبض أرواح كلِّ مَن في الأرض برّها وبَحرها”. فقال: “أَلاَ تَرى أنَّ الدنيا كلها بينَ ركبَتـيَّ، وجمَيع الخلائق بين عَـينَيَّ ويَدَايَ يبلغان ما بين المشرق والمغرب فإذا نفذَ أجلُ عبدٍ نظرت إليه عرّفت أعواني من الملائكة أنه مقبوض وبطشوا به يعالجون نَزعَ روحه فإذا بلغوا بالروح الحلقوم عملت ذلك ولم يَخفَ عليّ شيءٌ من أمره فمددت يدي فَأنزَعها من جسده”.
وقَد ذَكَرَ الإمام الغزالي في كتاب “
وكان سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول: “إنَّ الأمواتَ لتأتيهم أخبارُ الأحياء فَمَا من أَحَدٍ لَه حميم إلا ويأتيه خبر أقاربه فإن كان خيرا سرّ به وفرح، وإنْ كَانَ شرًّا عَبَسَ وَحَزنَ حتى إنهم يسألون عن الرجل قد مات فيقول ما فعل فلان فيقول ألم يأتكم فيقولون لا والله ما جاءنا ولا مرّ بنا، سُلِكَ به إلى أمّه الهاوية فَبئست الأمُّ وبِئسَت الـمُرَبيَّةُ”.
وكان وهب بن منبه رضي الله عنه يقول: إنَّ للهِ دارًا في السماء السابعة يقال لها البيضاء تَجتمع فيها أرواح المؤمنين، فإن مَاتَ الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح ويسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم من سفره عليهم. رواه أبو نعيم.
وَمن لطائف تخريجات الإمام مالك بن أنسٍ، رضي الله عنه، و قد سُئِلَ: “هَل يقبض مَلك الـمَوت أرواحَ البراغيث؟”. فَأطرق مالك بن أنس طويلاً ثم رفع رأسه فَقَال:”أَلَهَا نفسٌ؟ قَالوا له: نعم، قَالَ :”فإنّ ملكَ الموت يَقبض أرواحها قال الله تعالى: “اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا”. _ رواه أبو بكر الخطيب.
هذه أيها الأخوة نبذةً موجَزَة عن الروح وما جاء فيها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تُبيَّنُ صفتها ومَا سَتؤول إليه من النعيم أو الجحيم.
والخلاصة أنَّ الرّوحَ أمرٌ عَظيم من أمور الله، وَشَأنٌ غيبيٌّ استأثر الله تعالى بعِلمِه، وَتَركَ الله تفصيلَهُ وتبينهُ حتَّى يَعرفَ الإنسان على القطعِ عجزَه عَن علم حقيقة نفسه مَع العلم بوجودها، وإذا كانَ الإنسان في معرفَة نَفسه هَكَذَا، كَانَ عَجزُه عَن إدراك حقيقَة الحقِّ أولَى، وَحكمَة ذلكَ تَعجيز العَقل عَن إدراك مَعرفة مَخلوق مُجاورٍ له دلالةً عَلَى أنَّه عن إدراك خالقه أعجَزُ. ولذلك، على الـمُؤمنِ أنْ يعملَ لاستكمال فضائل الروح وتزكيتها حتَّى تعود إلَى بارئها راضيةً مرضيةًَ.
[brun]عَليكَ بالرُّوحِ فاستكْمِلْ فَضَائلَها *** فأنت بالرُّوح لاَ بالجسْم إنسانُ[/brun].
وختامًا، نَرجُو مِن الله العَليِّ الأَعلَى أنْ يَهديَ أرواحنا إلَيْهِ، ويقودَهَا إلى جَنَّتَيْهِ، جَنَّةِ المعرفة وجنَّةِ الأنس بالوقوف بَينَ يَدَيْهِ، والرضا بما لديهِ، مِنَ النَّعيم الـمُعَدِّ للوَاردين عَلَيهِ. آمين.
وفي هذا القدر كفاية والله يتولانا وإياكم بعين الرعاية والسلام.
الشيخ سيدي مُحمَّد الـمُنَوَّر المدني.
المراجع:
يسألونك في الدين والحياة (ج1ص661 وج2 ص319و336 )
تفسير القرطبي (ج10ص323)
تفسير الالوسي (ج15ص140)
تذكرة القرطبي (ص18و21)