الرحيق المختومُ في شرح الحقِّ المَعْلومِ

Home مؤلفات الشيخ سيّدي محمد المدني الرسائل الرحيق المختومُ في شرح الحقِّ المَعْلومِ

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحيمِ

هذا شرحٌ لآية من كتاب الله، ألّفه الشيخُ سيدي محمد المدني، رحمه الله، في الثلاثينيات من القرن العشرين وأرسله إلى مقدّم الطريقة المدنية بمدينة صفاقس آنذاكَ.

الرحيق المختومُ في شرح الحقِّ المَعْلومِ [[هذا العنوان من وضع المحقق ]]
]

1. الحَمْدُ لِله الوَاحِدِ الأَحَدِ، الفَرْدِ الصَّمَدِ، والصّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدنَا مُحَمَّدٍ، المُرشِد والمُؤَيَّدِ، وَعلَى جميع آلِهِ وَأصْحَابه وتابِعِيه ومَن إلَى الحقِّ استَنَد.

2. أمَّا بَعدُ، فقد سَألنِي الصَّديق المَبْرورُ والعَارف المَشكور، المُقَدَّمُ البَرَكَةُ، أخُونَا في اللهِ، سيّدي الحاجّ عَبد السَّلاَم الشعبوني [[أول مُقَدَّم للطريقة المدنية بمدينة صفاقس بالبلاد التونسية. ]] ، كانَ الله لَنَا ولَه، عَن مَعنَى قَوله تَعالَى: ” والّذينَ فِي أَمْوالِهِم حقٌّ مَعْلومٌ للسَّائِل والمَحْرُومِ [[سورة المعارج، الآيتان 24 و25.]] ” عَلَى مَا يَقتَضِيه الفَهمُ الخاصُّ حَسبَمَا يَفهمه الخَاصَّة مِن أَهلِ اللهِ الرَّاسخين في العِلم بِطريق الإشَارَة والتأويل، المُعَبَّرِ عَنْه ببَاطن القرآن، لِمَا في الحَديث: ” إنَّ للقرآن ظَاهرًا وبَاطِنًا وَحَدًّا ومَطلعًا [[ورَدَ في تَخريج أحاديث الإحياء، ج.1، ص. 232 وأخرجه ابن حبَّانَ في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه، أما لفظ ابن حبان (1/276: أخبرنا عمر بن محمد الهمذاني قال : حدثنا إسحاق بن سويد الرملي قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن. ويروى عن الحسن البصري موقوفا أو مرسلا : “أن لكل آية ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا.]] “. قلتُ وبالله استعنت:

3. إنَّ مَعنَى ظاهر الآيَة الكريمة ظاهرٌ، وهو أنّه وَصفٌ من أوصاف الكَاملين الذين لا يَجزَعون إذَا مَسَّهم الشرُّ ولاَ يَمنَعونَ إذَا مَسَّهم الخيرُ وهمُ الذين استثناهم الحقُّ بقوله: ” إلاَّ المُصَلِّين الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ والّذينَ في أَمْوالِهِم حقٌّ مَعْلومٌ للسَّائِل والمَحْرُومِ [[سورة المعارج، الآيات 23، 24 و25.]] ” .

4. وَحَاصِله أنَّ الكاملين عَليهم حقٌّ ثابتٌ فِي أَمْوالِهم معلومٌ، وهو الزكاة المفروضة من صاحب الشَّرع، صلَّى الله عليه وسلَّمَ، يُعطي لمَنْ سَألَه، ولمن حرم منه بسبب تعففه عن السؤال فيَظنّه الناس أنَّهُ غنيٌّ، وهَذا المعنى مبسوط في كتب المُفسِّرين ممَّن تَقَدَّمَنَا منَ السَّلَف والخَلَف رَضي الله عنهم.

5. وأمَّا مَعنى الآيَة من حيث الإشَارَة وهو المعبَّر عنه بالبَاطن فَتُحْمَلُ الأموَال فيه على أموَال البَاطن أي علَى أموَال المَعرفة بالله التي هي أعزُّ وأغلَى من الأموال الفَانِية: فالمعرفة هي رأس المال وهي الرِّبح على التحقيق، أي وفي أموال معرفة الكاملين حقٌّ ثابتٌ وواجبٌ متأكّدٌ عَلَيهم، ينفقونه لكل مُحتَاجٍ إليه.

6. وفي التعبير بقوله: ” مَعلُومٌ ” المُشْتَقّ مِن العِلم لكون الحقِّ من قَبيل ما يُعلم. ولو كان الحقُّ الثابتُ من قَبيل المَحسوسات فقط لقال: حَقٌّ مأكولٌ أو مطعوم أو مَا هو من هَذَا القَبيل.

7. وقولُهُ: ” للسَّائِل ” جارٌّ ومَجرورٌ، يَتَعَلَّقُ بفعلٍ مُقَدَّرٍ مفهومٍ مِنْ نَظمِ الكَلاَم: تَقديره: يُعطى هذا الحقَّ للسَّائل أي لِمَن يَسأل عنه، ولِمَنْ حُرِمَ أيْ مِنَ السؤال، وهو الذي لَمْ يَعرف كيفيَّة السؤال لجهله بالمسؤول عنه. فالحاصل أنَّه لاَ يَنبَغي كَتْمُ العلم بالله والمَعرفة به.

8. أمَّا عَن السَّائلِ فَلِأنَّ الحقَّ، تَعالَى، نَهى نَبيَّه، صَلَّى الله عليه وسلَّمَ، عَن انتهارِ السائل بقوله: ” وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ [[سورة الضحى، الآية 10.]] “، فَقَد قَالوا إنَّ السَّائلَ هو سائلُ العلم. والمعنى مَنْ سَألَكَ عَن العلم مُطلَقًا، الشاملِ لجَميع علوم الدين: العلم بالله والعلم بأحْكَام الله، بَلِ الوَاجِب عليكَ أنْ تُثَبِّتَ العلمَ في صَدْرِ كُلِّ مَنْ سَألَكَ.

9. الخطابُ في الآيةِ وإنْ كَانَ مُوَجَّهًا لسيِّدِ الوُجود، صَلَّى الله عليه وسلَّمَ، ولكنَّه يَصحُّ أنْ يَتَنَاوَلَ كلَّ مُخَاطَبٍ لَه علمٌ ومَعْرفةٌ، فَهو مَنْهِيٌّ عَنِ انْتِهَار السَّائِلِ. فَالعِبْرَةُ بِصلوحيَّة اللَّفظ للعُمُوم، وكَوْن المُرَادُ مِن السَّائلِ هو سائلُ العلمِ يُؤَيِّدُه قَولُه تعالى: ” وَأَمَّا بِنِعْمَتِ رَبِّكَ فَحدِّثْ [[سورة الضحى، 11 الآية.]] ” فَترتيب هذه الآيَة بعدَهَا، المشيرة إلى أنَّ النعمةَ من جنس المُتَحَدَّثِ به، لاَ مِن جِنْس المَأْكُول أو المَطعُوم دليلٌ عَلَى أنَّ السَّائلَ هو سائلُ العِلْم.

10. وأمَّا كَونُهُ لاَ يَحِلُّ كَتْمه عن المحروم الذي لَمْ يَسْأل لِمَا وَرَدَ من الوَعيد في كَتم العلم، إذْ كُتُبُ الحَديث غَاصَّةٌ بذلك، منهَا قَولُه، صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم: ” مَا أَتَى اللهُ عِلْمًا لِعَالم إلاَّ أخَذَ عليه العَهدَ أنْ لاَ يَكْتُمَه [[رواه أبو نعيم]] “. ومنها: ” مَن كَتَمَ علمًا يَعرفه بَريءَ من الإيمان”. “وَأَكْرَمُ الرِّجَال مَن أَنفقَ قَبلَ السُّؤَالِ”.

11. واعتبرْ قِصَّةَ يوسُفَ، عَلَيْه السَّلاَمُ، وكَيفَ أنفَقَ مِن كَنز التَّوحيد الذي آتَاه الله على صَاحِبَيْه دونَ سؤَالٍ منهمَا. فَقد حَكَى الحقُّ عَنه في كتابه القديم إذ قال: ” يَا صَاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار ( 39 ) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمَّيتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنِ الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيَّمُ ولَكن أكثر النَّاس لاَ يَعلمون ( 40 ) [[سورة يوسف، الآيتان، 39 و40. ]] ” .

12. فقد أنْفَقَ عَلَيهمَا مِن تَوحيده وأرْشَدَهُمَا إلَى أنَّ عبادةَ الأربَاب المُتَفَرِّقينَ ضلالٌ وكُفرَانٌ. مَا هي إلاَّ أسمَاء تَخيَّلتُموهَا أنتم وأباؤكم وسَمَّيتموهَا إلهًا وعَبدتُموهَا، ومَا أنزلَ الله بها مِن سُلطانٍ، وأنَّ عبادَةَ اللهِ الوَاحد القهَّار هي العبادة، وأنَّه لا حكمَ إلاَّ لله بطريق الحصر بِأنْ النافية وأدَاة الاستثناء، فَلاَ حُكمَ لغيره في كلِّ شَيءٍ، وإنَّ الله أَمَرَ ألاَّ تَعبدُوا إلاَّ إيَّاهُ وتُوحّدوه، وذَلك الدِّينُ القَيِّم وهوَ دِينُ أَهل المَعرفة. فَلِلَّه دَرُّ الذين غَرَفُوا مِن بَحر الرَّسول، صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّمَ، القَائِل: ” لي وَقتٌ لاَ يَسَعُنِي فَيه غَيرُ رَبِّي [[ وردَ بصيغة” لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل” ووردَ في رسالة القشيري بلفظ: ” لي وقت لا يسعني فيه غير ربي”، ويقرب منه ما رواه الترمذي في شمائله وابن راهويه في مسنده عن علي في حديث كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءا لله وجزءا لأهله وجزءا لنفسه ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس كذا في اللآلئ، وزاد فيها ورواه الخطيب بسند قال فيه الحافظ الدمياطي أنه على رسم الصحيح، وقال القاري بعد إيراده الحديث قلت ويؤخذ منه أنه أراد بالملك المقرب جبريل وبالنبي المرسل أخاه الخليل انتهى فليتأمل، ثم قال القاري وفيه إيماء إلى مقام الاستغراق باللقاء المعبر عنه بالسكر والمحو والفناء انتهى‏. ]] “.

13. فأنْتَ تَرى قصَّةَ يوسفَ، عَلَيْه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، أنَّه لَمَّا عَلم أنَّ الإنفَاقَ مِن كَنز التَّوحيد حقٌّ وَاجبٌ عَلَيه أنفَقَ مِنه دونَ سؤال. فإنَّ صَاحِبَيْه إنَّمَا سألاَه عن تأويل رُؤيتِهمَا فَقط، ومَا سألاَه عن تَوحيد الله ولكنَّه عَلم أنَّ ذلكَ أنْفَعُ لَهمَا ولهذا قدَّمَه على تأويل الرؤيَتَيْن.

14. وهَذَا حَالُ جَميع الرُّسُل، عَليهم الصَّلاَةُ والسَّلاَم، يُنفقونَ من كَنزِ التَّوحيد قَبلَ السُّؤَال إذْ عَلِمُوا جميعًا أنَّ التبليغَ واجبٌ في حَقِّهم.

15. وَقَد اقتَفَى أثَرَهم مِن بَعدِهم في ذَلكَ علماءُ القَوم، رَضيَ الله عنهم، فَتَرَاهُم يُفيضونَ من مَعاني التَّوحيد مَا صَرَّحُوا بَه في شطحاتهم لَمَّا غَابوا عَن سِوى مَحبُوبهم، مِن ذلكَ قولُ ابنِ الفَارضِ:

[vert]
قال لي حُسْنُ كل شيء تَجَلَّى *** بي تَمَلَّى، فَقلت قصدي وَرَاكا
لي حبيبٌ أَرَاكَ فيه مُعَنَّى *** غُرَّ غيري، وفيه، مَعْنًى، أرَاكَا
وَحَّدَ القلبَ حُبُّه، فالتفاتي*** لك شِرْكٌ، ولا أرى الإشْراكا [[ديوان ابن الفارض، ص. 160، طبعة دار صادر، بيروت. ]][/vert]

16. وَجَميعهم أيْ الرُّسُل عَلَيهم الصلاة والسلام والأولِياء، عَلَيهم الرِّضَا من الملك العَلاَّم، مُتَخَلِّقونَ في ذلك بأخْلاَق الله، المأمور بهَا على لسان خَاتِمهم عليه أتمُّ الصَّلاة والتسليم حيث قَالَ: ” تَخلَّقُوا بأخلاق الله [[ذكر العلماء في كتبهم الحث على التخلق بأخلاق الله تعالى، وهذا يدل على أن هذا كان معروفا عند أهل العلم. فقد ذكره ابن الحاج في “المدخل” والسيوطي في “شرح سنن ابن ماجة” والمناوي في “شرح الجامع الصغير” والمباركفوري في “تحفة الأحوذي والآبادي في “عون المعبود” ومحمد الصادق في “بريقة محمودية” والسندي في “شرح سنن النسائي” وغيرهم.]]
” فقد أنفق على عباده يومَ أَلَستُ، وعَلَّمَهم توحيده وأشهَدَهم بذلك على أنفسهم كما أخبر في القران إذ قَالَ: ” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [[سورة الأعراف، الآية 172.]] “.

تأليف محمد المدني
تحقيق نجم المدني.

رسالة سيدي محمد المدني إلي سيدي الحاج البشير بن محمد الصالح

1. حَضرَةَ الصَّديق المبرور والعارِف المَشكور، وَليّ الله تعَالى، سيدي الحاج البشير بن محمد...

رسالة إلي سيدي البشير محمد الصالح- قابس –

بسم الله الرحمن الرحيم 1) حضرَةَ الأخ المبرور والصَّديق المشكور، العارف بالله تعالى ورحمته و...

رسالة إلى سيدي إبراهيم بن الصغير، رحمه الله

بسم الله الرّحمن الرحيم 1. صادقَ المَحَبَّة، قويَّ الرَّغبةَ، ابنَنَا الأبَرَّ، العارفَ بالله،...