يقولُ العَلاّمَة المُنَعَّم، الشيخ الطّاهِر بن عاشور، رَحِمَه الله، في تَفسير التّحرير والتّنوير (الجزء 6، ص. 132، طبعة دار سحنون)
‘والمسلمونَ عاهَدوا اللهَ في زَمَنِ الرَّسولِ، صلَّى الله عليه وسلمَ، عِدَّةَ عُهودٍ:
أوَّلِها : عَهدُ الإسلامِ كَما تَقَدَّم فِي صَدْرِ هَذه السّورَة.
ومِنها : عَهدُ المسلمين عندما يُلاقونَ الرّسولَ ـــ عَلَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ ـــ وهو البَيعَة: أنْ لا يُشركوا باللهِ شيئًا، ولا يَسرِقوا، ولا يَزْنوا، ولا يَقتُلوا أولادَهُمْ، ولاَ يَأتوا ببهتانٍ يَفتَرونَهُ بَينَ أيْديهم وأرْجُلِهم، ولاَ يَعصونَه في مَعروفٍ،
وهو عَينُ العَهد الذي ذَكرَه القرآن في سورة المُمتَحِنَة عند ذكر بَيْعَةِ النِّساءِ المؤمنات، كما ورد في الصّحيح: ‘ أنّه كانَ يُبايِعُ المؤمنينَ عَلَى مِثْلِ ذلكَ‘،
ومنها بَيعَةُ الأنْصار رسولَ اللهِ، صَلَّى الله عليه وسلم، فِي مَوسم الحَجِّ سَنَةَ ثلاثَ عشرَةَ مِن البِعْثَة قبلَ الهِجرَة. وكانوا ثلاثةً وسبعينَ رجلاً التقَوا برسول الله بعد الموسم في العَقَبَة ومَعَهمُ العبّاس بنُ عبدِ المُطَّلب، فبايعوا على أن يَمنَعوا رسولَ اللهِ، كما يَمنعونَ نساءَهم وأبناءَهم، وعلى أنّهم يأوونَه إذا هاجَرَ إلَيْهِم.
وقد تقدّم هذه البيعةَ بَيْعتان:
إحْداهُما : سنة إحدى عشرَةَ من البِعْثَة، بايعهُ نَفَرٌ من الخَزْرَج في مَوسِمِ الحَجِّ.
والثّانية : سَنَةَ اثنتَي عشرَةَ من البِعثة، بايعَ اثنَا عَشَرَ رَجُلًا مِن الخَزرج في مَوسم الحجّ بالعَقَبَة لِيُبَلّغوا الإسلامَ إلى قَومهم.
ومن المواثيق ميثاق بَيعَة الرّضوان في الحُدَيْبِيَّة تَحت الشجرة سَنَةَ سِتٍّ من الهجرة،
وفي كلّ ذلك واثَقوا على السَّمع والطَّاعة في المَنْشَطِ والمَكْرَه'(انتهى كلام الشيخ).
التحرير والتنوير الجزء، 6، ص. 132.
قلت : ومن لطائف أسْرارِ مُبايعاتِ الصَّحابَة لرسول الله، صَلَّى اللهُ عَليه وسلّم شكرُهم للهَ على نِعمة الصُّحبة الغالية، ونِعمة الاهتداء على يَدَيْ رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، الحاضِر بين ظَهرانيهم.
وهذه المبايعاتُ إشهادٌ لَه على صِدق تَوَجُّهِهم لله تعالى، واستمدادٌ من قلبه الشَّريف للأحوال الرَّاقية والمَواجيد الفائقة حتى يُثَبِّتَهم اللهُ تَعالى في مَقامات الرّجال.
وحاشا لرسول الله، صلَّى الله عليه وسلمَ، أنْ يَحتاجَ إلى مُؤازَرَة المُبايِعينَ أو مُعاهَدة المُوالِين –على صِدْقِهم- لأنَّ اللهَ تعالى هو الذي تَولَّى نَصرَه ومُؤازَرَتَه وتثبيت فؤاده بكلامه القديم.
فَكانَت مبايعتهم تشريفًا أزليًا مِن الله لَهم، حتى تَفيضَ عليهم بَركاتُ مُعاهَدَةِ الرَّسول، عَليه الصَّلاة والسَّلامُ، والالتزام بَينَ يَدَيْه، وحَتَّى يَتَذَكَّروا أنَّهم لأجلِه، صلَّى الله عليه وسلمَ، باعوا النَّفسَ والنَّفيسَ، وحتَّى ينالَهم شرفُ المُناصَرة،
ومَن بَايعَ الرسولَ فكأنَّمَا بايعَ اللهَ: سِرًّا يتراءَى مِن سرٍّ، ونورًا يتنزّلُ مِن نُورٍ.
ولَئن سارَ كبارُ القوم على سُنَّةِ المُبايَعَة فلإشهاد اللهِ أنَّ المُبايِعَ والمبايَعَ كِلاهُما يَقتفي سَنَنَ الرسول، صلَّى الله عليه وسلمَ، ويَستَمدُّ من بَركاتِ تلك التجلِّي الأصْليّ الذي جعل الله فيه مبايعةَ رسولِه كَمُبايعته هو تعالى ‘إنَّ الذين يبايعونك فإنما يُبايِعونَ الله‘.
ن. المدني.
باريس، 8 جوان 2013.