نتشرفُ بنشرِ نصَّ الكَلِمة الطيّبَة التي ألقاها فضيلة الشيخ سيدي محمد المنور المدني بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بالزاوية المدنية بباريس يوم السبت 13 مارس 2010.
بسم الله الرحمان الرحيم
والصَّلاَة والسلام على مَنبَع الأسرار الذَّاتية ومَجْلَى الأنوار الربَّانية، سيدنا محمدٍ، مَنْ أَسرى به الحق تعالى حتى شاهَدَ لطائف الكمالات الأَحَديّة، وَعَلى آلِه وَصَحَابَته ذوي الأخلاق العَالية الرَّضيّة، والمعارف الزكية.
وأجمل منكَ لم تر قطّ عيني *** وَأَكمَل منكَ لَم تَلِدِ النِّسَاء
خُلِقــــــتَ مُبَرَّأً من كل عيبٍ *** كأنكَ قد خُلقتَ كَمَا تَشَاءُ
أمَّا بعد، فَيَا أيّها السَّادة الأفاضل: إنْ أَحبَبتُم أنْ تَكونوا في شفاعَتِه، صَلُّوا عَلَيه وزيدوا في محبته.
من المعلوم أنَّ القرآن الكريم نزلَ مُمَجِّدًا للمصطفى الرؤوف الرحيم، عَليه من الله أزكى الصلاة والتسليم، ولم يكتف القرآن بذكر الخصال النبوية الأخلاقية بل ذَكَرَ أعضاءَهُ الجسديَّةَ الشريفةَ حتَّى صارت قرآنا يُتلَى وآياتٍ تَترَى وَوَحيًا يُتَعبَّدُ به ويُقْرَأ. وَكان الوصف الربَّاني القرآنيُّ للجسد المُحمدي إكرامًا لَم يختصَّ به أحدًا من العالمين، لا مِن الأنبياء ولا مِن المرسلين.
يقول في ذلك العالمُ ابن سبع:”ومِن خَصائصه صلَّى اللهُ عليه وَسَلَّم أنَّ الله عزَّ وجلَّ وَصَفَه في كتابه عُضوًا عضوًا فَقَالَ تَعالَى في صِفَة وجهه الكريم الذي نال شَرفَ رؤية الله لَه : “قَد نَرَى تَقَلُّبَ وَجهَكَ في السَّمَاء”.
وَيقول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن:” جاءني جبريل فقال: “إنَّ اللهَ يقرؤُكَ السَّلامَ ويقول لك حَبيبي، إنِّي كَسوتُ حسنَ يوسفَ مِن نور الكرسيِّ، وَكَسوتُ حسنَ وجهك من نور عَرشي”. ويقول البَرَاء بن عازب رضي الله عنه:” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس وجهًا وأحسنهم خُلقًا”.
وأمَّا فيما يتعلق بعينيه الشريفتين فيقول الله تعالى في حقِّهما “وَلاَ تَمُدَّنَّ عَينَيكَ” حتَّى لاَ يكون له نظرٌ لِسوى الله تَعالى. إذْ في هاتين العينين قوّةٌ خَارقَة للعادة، تَقول عنهما السيدة عائشة رضي الله عنها: “كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرى في الظلماء كما يَرى في الضوء وينظر مِن خَلفَه كَمَا يَرى مِن أَمَامه. وفي هذا يقول الإمامُ النَّبهَاني:
كان في الليل ينظر الشيءَ *** سِيَّانِ لَدَيه الضِّيَاءُ والظَّلمَاء
كان مِن خَلفه يَرى الناس *** فالــــخَلفُ لَديه كأنه تلقـــــاء
وأمَّا لِسانُه الشَّريف فقد جَعله الله تعالى مُيسِّرًا للقرآن ناطقا به، تَاليًا لآياته صائغًا لعباراته، يَقول الله تعالى:” فانَّمَا يَسَّرنَاه بِلِسَانِك”، أي بلغتك العربية التي ينطق بها لسانكَ. ويقول صلى الله عليه وسلم “أنا أفصحُ العرب”، ويكفي المصطفى صلَّى الله عليه وسلم فخًرا أنَّ اللسانَ المحمّدي هو المُعْرب عن إعجاز القرآن والمبلغَ لَه، يوصله إلى العالمين معجزةً خالدةً.
يقول أحمد شوقي:
يا أفصحَ الناطقين الضاد قاطبةً *** حديثك الشَّهد عندَ الذَّائق الفَهِم
ويقول الحقُّ تعالى مُوجِّهًا صفِيَّه ونجيَّه صلّى الله عليه وسلم إلَى الكَرَم والجود: “ولاَ تَجعلْ يَدَكَ مغلولةً الى عُنقك، ولا تبسطها كلَّ البسط”، وتصف السيدة أمّ معبد عنقَ الرسول صلى الله عليه وسلم :”كأنَّ عُنُقَه إبريقُ فِضَّة”. وَتدلُّ اليد الشريفة في هذه الآية على الجود والسخاء فهو أَكرم الكرماء، يُعطِي عَطاَءً يجاوز الرياح المرسلةَ:
وإذا سَخَوتَ بلغتَ بالجود المدى *** وفعلتَ مَا لاَ تفعل الأنـــــواءُ
وقال سيّدنا أَنس رضي الله عنه:”ما مَسَستُ حريرًا ولا دِيبَاجاً ألينَ مِن كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وقَد مَسَح صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة خدَّ جابر بن سمرة قال: “فَوجدت لِيَده بَرداً وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطَّار”، رواه مسلم.
وكذلك شرَّفَ اللهُ صدره العظيم بالذكر الحكيم فقال عزَّ مِن قَائل في شأنه:”ألَم نشرح لك صدركَ وَوَضعنَا عنك وزركَ الذي أنقضَ ظهَركَ”.
وأما شرح الصدر المقصود في الآية فهو الفتح عليه بالمعارف الربانية الراقية وتليينه باللطائف الفائقة.
وأما الظهر الشريف فهو الحامل لخاتم النبوة التي تخرج منه رائحة أطيب من ريح المسك ومكتوب عليه:”تَوجَّهْ حَيث شئتَ فإنَّكَ مَنصورٌ”.
وأما القلب المحمَّدي الأعظم فهو مَهبَط الأنوار القرآنية ومَسكن النفحات النورانية، يَقول فيه تعالى:”نَزَل به الروح الأمين على قلبك لتكونَ من المنذرِين” وصحَّ أنَّ جبريلَ عليه السلام شقَّ قلبَه واستخرج منه علقَةً وقال هذا حظُّ الشيطان منكَ ثم غسله في طِسْتٍ مِن ذهبٍ بماء زمزم وأعاده إلَى مكانه وكان عمره وقتها عامان. كَمَا وقع شقُّ صدره مرة ثانية وعمره عشر سنين وثالثة وعمره أربعون سنةً عند نزول الوحي، ومرَّةً رابعة ليلة الإسراء وَالمعراج.
وأخيراً، يقول الحق عزَّ وجلَّ في شأن خُلُقِه الرضيّ “وإنَّكَ لَعَلَى خلقٍ عَظيمٍ”.
ويقول العلماء: “لم يُذكَر خُلُقٌ محمود إلاَّ وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظَّ الأوفرَ ووُصِفَ بالخلق العظيم لاجتماع مكارم الأخلاق فيه”. يقول عليه الصلاة والسلام: “إنَّ اللهَ بعثني لأتمم مَكَارِم الأخلاق”
ويقول الإمام الجنيد: “سمِّيَ خلقه عظيمًا لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى”.
ويقول شوقي، أمير الشعراء:
يــــا أيها المسرى به شرفـا الـــــى *** ما لا تنال الشـمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهــر هيـكـــــــل *** بالروح أم بالهيـكل الإســـراء
بهـــما سموت مطهرين كلاهــــــما *** نــــــــــور وريحـانـية وبـهـاء
والرسل دون العرش لم يؤذن لهم *** حاشـــــــا لغيرك موعد ولقاء
لي في مديحك يا رسول عرائس *** تيمن فيك وشاقهن جـــــــــلاء
هن الحسان فان قبلت تكرمــــــــا *** مهورهن شفاعة حسنــــــــــــاء
وتظهر هذه الآيات البينات أنَّ الجسد النبوي طُهِّرَ بكلام ربِّ العزّة، وَجُمِّلَ بالوصف الرباني، ويَكفيه فخراً أنَّ اللهَ في عزِّ قِدَم ذاته العلية، وكلامه الأزلي الباقي، مَجَّدَ الأعضاءَ الشريفة وَجعلها للعارفين والعاشقين معراجا ومنهاجًا.
والسلام.
الشيخ سيدي محمد المنور المدني.