يرى الشيخ سيدي محمد المدني رحمه الله أنَّ المُتَوَجِّهينَ إلى الله ثَلاثَة أقسام: أصحاب الطاعات الباحثين عن البركة، وأصحاب الإنكار، والواصلين الكُمَّل من العارفين. يقول رضي الله عنه:
1- وَأَمَّا مَا يَستَروِحُهُ الخَاصَّةُ من هَاتِه الآيَة أنّه يَقول: إذَا وَقعت واقعةُ العَالَم الكَونِيِّ وامتُحَقَ خَيَالُهُ في نَظَر العَارِفِ، وَكُنتُمْ أَيْ صِرتم أَيّهَا المُتَوجِّهونَ لِحَضْرَةِ اللهِ أصْنَافًا ثَلاَثَةً. أصحابُ المَيمَنَةِ أَيْ أَصْحَابُ اليُمْنِ وَالبَرَكَةِ والأَعْمَالِ الصَّالَحةِ، الذينَ اجتَهدوا في فِعْلِ القُربَاتِ، إذْ أَنَّ مِنَ المُتَوجِّهينَ لِحَضْرَة القُدْسِ، مَنْ تَكونُ نَتيجَةُ قَصْدِه رُسُوخُه فِي التَعَبُّدِ والحِرْصِ عَلَى نَوافِلِ الخَير، وإنْ لَم يَحْصُلْ عَلَى المَعرفة الكُبْرَى والوُصُول لحَضْرَة القُدْسِ.
2- وَأصْحَابُ المَشْأَمَةِ أَي الشُّؤْم، وسُوءِ الحَال والمُنقَلَب، وَهَذَا أيضًا قِسْمٌ يَخرج عن الطَّريق الجَادّة، وَيَنْعَكسُ نُورُ بَصيرَتِهِ، فَيَكونَ ظَلاَمًا في سَريرَتِه، حَتَّى أَنّه يُنْكِرُ المَعرفَةَ التي حَصَلَتْ لَه، وَرُبَّمَا يُوَسْوِسُ لَه قَرينُه (الشيطان) أَنّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَ به التّنزيلُ، ومَا ذَلكَ إلاَّ لِأَنَّهُ حَاقَ بِه مَكْرُ اللهِ، فَكَانَ من أَصحاب الشُّؤْمِ، وسُوءِ الحَالِ. غَيرَ أَنّ ذِكْرَهُ مُوَسَّطًا بَينَ أَصحابِ المَيْمَنَةِ والسَّابقين، يُكْسِبُه رَجَاءً في رَحمَة رَبِّهِ، عَسَى أَن يَأخذَ بِيَدِه ويَرفَعُهُ من حَضيض السِّوَى إلَى رَوضِ المُستَوى. ومَا ذَلكَ عَلَى اللهِ بِعَزيزٍ.
3- والسَّابقونَ الذين سَبَقُوا غَيرَهُم، فَحَصَلوا عَلَى مَعرفَة رَبّهم، بِأَنْ فَنَوْا عَن غَيرِه، وَبَقَوْا به، وَهَؤلاءِ هم المُقَرَّبُونَ الذينَ كَانَ لَهم الحقُّ سَمْعًا وَبَصَرًا، في جنّات النّعيم لأنّهم تَنَعَّمَت أرْوَاحُهُم أوّلاً فِي جَنَّة المَعَارِفِ، وَثَانيًا في جَنَّة الفِردَوْسِ. وَهؤلاءِ السَّابقونَ ثُلّةٌ منهم عظيمةٌ من سابقي الأمّة المحمديّة، إذْ أَنَّ صَدْرَ الأمّة غَالِبُهم، إنْ لَم نَقُلْ كُلَّهم، مِن أَهل المَرتَبَة العَالية والدّرجة السامية، فَإنّهُم جَميعًا كَانُوا في غَايَةِ الحُضُور مَعَ الحَقِّ، لاَ تَطْرُقُ سَاحتَهم طَوارِقُ الغَفلة، بَذَلوا نفوسَهُمْ لِله، يَبتَغونَ فَضْلاً، منَ اللهِ. وقَليلٌ مِن السَّابقينَ من متأخّري الأمَّةِ المُحَمَّديَّة، والحَمد لله على عدم انقطاعهم، وَهُمُ المُشَارُ لَهم بِقَوله، صَلَّى الله عليه وسلّم: “لاَ تَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قائمةً بأمر الله، لاَ يَضرّهم مَن خَذَلَهم، ولاَ مَن خَالَفَهُم، حَتَّى يَأتيَ أمرُ اللهِ، وهُم عَلَى ذَلكَ. رواه البَغَويٌّ، في مصابيح السنّة. وَبِقَوْلِه: لَن تخلوَ الأرضُ مِن أَربَعينَ رَجُلاً مثلَ خَليلِ الرَّحمَان، فَبِهِمْ تُسْقَونَ، وبِهِمْ تُرزَقُونَ، مَا مَاتَ مِنهم أحَدٌ إلاَّ أبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ الآخَرَ”.
الروضة الجامعة في تفسير سورة الواقعة، ص. 14، الطبعة الثانية، تونس 1980.