ننقل لحضراتكم ما دار في مجلسٍ علميٍّ سنة 1910 قرب جامع الزيتونة، بمحضر سيدي الشيخ أحمد العلاوي، وسيدي محمد الخضر حُسين، وسيدي محمد المدني، وسيدي محمد بن الخوجة، وكُلهم من أساطين جامع الزيتونة، رحمهم الله جميعًا وبرد ثَرَاهم. يقول سيدي محمد المدني:
1. “وقَد استَطْردنا هنا مسألةً كانت وَقَعت بحاضرة تونس، أجاب عنها حضرة أستاذنا وسيدنا أحمد العلاوي، رضي الله عنه، صورتها: أنَّه كان في زيارته الأولى عام 1328 هـ، (1910 م) لحاضِرَة تونس (العاصمة)، اجتمع بالعلامة المُحقق سيدي محمد الخضر بن الحُسين، والعلامة المرحوم الشيخ سيدي صالح القصيبي، بمحل المرحوم النابغة سيدي محمد الصكلي الخنيسي، الكائن بالحَجَّامين، (قرب جامع الزيتونة).
2. فقال الشيخ سيدي صالح المذكور إنَّ فَضيلة شيخ الإسلام العالم المحقق الشيخ سيدي محمد بن الخوجة كان تكلم في ختم رمضان على حديث: “ادْعوني بلسانٍ لَم تَعصوني به قَطُّ“، أو “ادْعُني بلسان لَم تَعصني به قط“.
3. واستشكلَ )وجده مشكلا = أي معقدًا( ظاهرَ الحديث، واستشكلَ أيضًا ما أجابوا (أي علماء الحديث) به أنَّ الإنسان يَتَسبب في دعاء غيره به بالإحسان لذلك الغير، فإن الله تعالى يخاطب العبدَ ويأمره بالدعاء هو بنفسه.
4. وحَمل الكلام على الحقيقة أولى من حَملِهِ على المجاز، إلا لداعٍ أو قرينة مانِعَة من معناه الحقيقي، فبقي الإشكال عندَ مولاي شيخ الإسلام، بَرَّدَ الله ثَرَاهُ، ولَم يَحصلْ جوابٌ، وقد ساق الشيخ صالح هاته الواقعة مَساقَ السُّؤَال للأستاذ.
5. فأجاب الأستاذ (أي الشيخ العلاوي) بما صُورته : إنَّ لنا مقاميْن: الأول عام والثاني خاص:
6. أما العام: فهو أنْ يَدعو الداعي بآيات القرآن الكريم كقوله تعالى: “رَبَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سَبَقونا بالإيمان، و لا تجعلْ في قلوبنا غلاً للذين آمَنوا“، (الحشر: 10) وكقوله تعالى: “واعفُ عَنَّا واغفرْ لَنَا وارْحَمْنا، أنتَ مَولانَا فَانصرُنَا على القوم الكافرين“. (البقرة: 286). وغير ذلك من آيات الدعاء. والقرآن لسانٌ عربيٌ مُبين لم يعصِ أحد به رَبَّه، إنما هو لسان طاعة وعبادة، فكل داعٍ، من أي طبقةٍ كان، لَه أن يدعو بهذا اللسان.
7. وأما الخاص: فَبَيَانه أنَّ الله تعالى يقول في بَعض كلامه: “ما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ثم لازال يتَقَرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يَسمَع به، وبَصره الذي يبصر به… (الحديث)”، فإذا مَنَّ الله على عَبده بهذا المقام فصارَ الحَقُّ سَمعَه وبَصره ولسانه الخ … وأشرقت أرضُهُ بنور رَبِّها، فاللسان حينئذٍ ليس بلسانِ هذا العبد، إنما هو لسان المَعبود، جلَّ شَأنه، فيدعوه بلسانه الذي لم يعصهِ به قَطُّ .
8. هذا حاصلُ ما أجاب به حَضرة مولانا الأستاذ في ذلك الوقت، قد عَلَقَ بذهني، ذَكرْته باختصارٍ، ولم أدرِ إذا كان به تفصيلُ أكثر من ذلك لطول العهد به، ولكنه وقع هذا الجواب إذَّاكَ من الشيخين: سيدي محمد الخِضْر (حسين) وسيدي صالح القصيبي موقعًا حسنًا، وقد وقع من جميع أفراد المجلس موقع الزلال من الضمآن وعلى هذا النمط كانت أجوبة الأستاذ في حلِّ المشكلات”.
جواهر المعاني، ص. 34-35.
مخطوط سيدي محمد تقتق.
تحقيق ن. المدني
10 سبتمبر 2017.