في مثل هذه الأيام منذُ سَنَتَيْنِ (تحديدًا يومَ 16 سبتمبر 2012) انتقلَ إلَى الرفيق الأعلى شاعرُ الطريقة المدنيّة العارف بالله، سيّدي الحاج نصر الدين بن سلطانة، رحمه الله. وقد كان رَحِمَه الله آيةً في الصدق والمحبَّة والوفاء إلى آخر نفسٍ من حياته. تَعرَّف على سيدي الشيخ المدني سنة 1958 ولازمَه بصدقٍ ومحبَّةٍ وتفانٍ. تلقَّى عنه الوردَ العام والاسمَ الأعظم بعد يومٍ واحدٍ من لقائهما وكان ذلك يوم الجمعة في ضريح الإمام المازري بالمنستير. وننشر له اليوم قصيدًا مفعمًا بالمَحبة يُعَبِّر فيه عن مَدى حُبِّهِ لِشَيْخِه ويَذكر فَضائِلَه وأفضالَه. وللدَّارسين في هذا القصيد ما شاءوا مِن بَلاغَة البيان، وللمُحبين ما أرادوا من دلائل المَحَبَّة وصفاء الوجدان..
ونطلب من كافّة القرّاء الكرام تلاوَةَ سورة الفاتحة وما تَيَسَّر من القرآن على روحه الطاهرة حتَّى يَرحَمنا الله وإياه برحمته الواسعة ويَجمعنا على حوض رسول الله.
أحِبّكَ يا مداني لا مَلامـا * إذا هِمت في حِبِّـي هُيامَــــا
وأصْلُ الحبِّ منكَ سَرى بروحي* فَـألبَسَني الحقيقةَ والسَّلاما
طَبيبَ الرّوح جرّاحَ القلوب * فَكَـم طَهَّرتَ أوبَاءً جِـــــسامًا
وكَم عَالجتَ أفْئِدَةً تَرامَت * لَدَيكَ تُريـــد صِدقًا وانسِجامًا
نَسَجت من الحقيقة خيرَ ثَوبٍ * وقلّــــدت المُريدين الـوسامـا
وزادَكَ ذِكر رَبِّكَ كلَّ حيـن * فَطِبتَ بــــه وأدركت المَقامـا
تبّوأتَ الخلافة دونَ ضَعـفٍ * وأنــتَ لَها فَكنتَ بها حُساما
وأجّجت اليقينَ بـكلّ قلـب * أتـــاك مُصَدِّقًاً ثـــمَّ استقامـا
بسرّك تَخرق العادات جَهرًا * فَيَزداد بـكَ اليَقين اعتِصــامًا
وما خَرَقُ العوائد كان شأوي * ولكنْ حُبُّ مَن أهوى تَسامى
وحُبُّ الله أعظم ما عشقت * فَهمـت به وصاحبتُ الغَرامـا
قَد احتلّ المكانة في فؤادي * وما قلبي سوى القرباتِ راما
وما كنت المتيّـم في هَـوايَ * ولــو لم أتّخذ غَــــوثي إمامًا
غَسلت بباطني ثوبَ المَعاصي * وبَدَّدتَ الغَيـاهـبَ والظّــلاما
وعلّمك العلاوي حسن سبـكٍ * فَفُقتَ بـه التّناسق والنِّظاما
وتُدركُ بالِفـراسة كــلَّ سرٍّ * وذلك شَأن مَن صَـحِبَ العِظاما
نَشرتَ طَريقَةَ الإحسان فينـا * وأحييتَ المَحَبَّــةَ والوِئـــــامَا
ودينُ الله كنـــــتَ لَـه نَصيــرًا * وضِرغامًا يُزَمجــــر لَن يُساما
أقمـتَ السنّةَ الغَرَّاء حفــــظًاً * لمظهر خَير مَن فـاق الأنـاما
وبالقرآن سُسْتَ طـريقَ قَـومٍ * وخَـــوفُ الله أولاك الزّمــــاما
تَحِنُّ لملّـة الإسـلام شـوقــًا * وتَــرفع رايَةَ الدّين اهتمـــامًا
سقاكَ الوجد في الدّين كؤوسا * فَجُبْـتَ به المَرامي والغُمامَا
حَبــاكَ الله للإحسان نـــورًا * تُضيء لَنا وتُرشد مَن تَعامى
أتيتَ ونَحن في ظلمات وَقـتٍ * تَكاثر فيه مَن يَبــغي الحَراما
تَباعدتِ الصّفوفُ فَكنتَ وَصلاً * وأيْقَظتَ المَشاعـــر والنِّيـامَا
وأخلَدت الشّعائـرَ في نُفـوسٍ * سَقَيتَ شعورَها أحلى مُداما
فَغابت فـي بحور الذّات يومًــا * وقَد طــــابَ البَقاء لها مَقـامًا
فَذُق كأسَ الوِصـال إذا رَغِبـتَ * ودَع قـــولَ العِدا والاحْتِشاما
فإنَّ الوَقتَ أسـرَعَ في خطاه * ومَن يَهْزِل فَقد حُـرِمَ الطّعاما
وكلُّ مَن ذكـرَ ربّـك دون عـدٍّ * كما وافاك بالنُّعمـــا احتِـرامًا
ولا تَفتَقر إذا ما طال عَهْـدٌ * وكن بَطَلا على الذّكر استَداما
وغِب عَمَّا سواه تَفُز بقرْبٍ * ولَيسَ الطّول والقِصَرُ المَراما
إذا نَفَحَ الوِصال وطابَ ريـحٌ * وقامَ الذّاكــــرون لهـــا قياما
تَرى الأنوارَ تُشْرق في قلوبٍ * فَتَطوي عالَم المُلك انْعدامًـا
ويُحظى مَن تَتَيَّمَ في هـواه * بِحُبٍّ قَــــد أزاحَ له اللّثـامــا
وأدْنـاه اعتـــزازًا واصطفـــاه * وَليًّا بـــــــاع بالذّكر المَنامـا
ونَادى الدّاعي للصّلوات هُبُّوا * فَضاعَت في مَجالسنا الخُزامَا
وَحَفَّت بالصّفـوف بكل صـوبٍ * مَلائِكَـــــة تبشّر مَن أقاما
تسبّح باسم خالقها شكـورا * وحُقَّ لها بأن كانت كِرامًــا
فَما أشدى رياضَ العابديـن * وما أزكى الّذي أوفـى ودامَا
ولَم أحسب من الماضي دهـورا * خلتُ تَحكي سَرابًا بَل ظَلامًا
مَرِحتُ بها وطُفت بها شعابًا * قتادها تملأ السّاري سَقاما
فما رَبحت تجارة سالكيها * كمن بالحرب قد ألقى السّهاما
ظَنَنتُ ولَيتَ شعري لو علمتُ * بِأنَّ تَوازنــــي فَقَدَ النّــظاما
فَعُدت وقد كفرت بذي الشّعاب * وأدركت الخَـرابَ لِمَن أداما
رَجَعْت ولي اهتزازٌ في حَشايَ * فَجَدَّ تَشَوُّقًـــا لله قـــــــاما
وَأسلمتِ العَصِيَّةُ في ضلوعي * لِيَذْبَحها الّذي نَحَــرَ اللّئاما
فغذّى الرّوح بالنّـور احتسابًا * ويَحرسُها إذا ما الوَهم حَاما
أدِم غَوثي إلاهي لي دَليـــلا * وزِدْه إليكَ قُربًا لَـــــن يُراما
وصَلِّ على حبيبك ثمّ سلــم * وبَابَـكَ مَن يَرمْه فَلن يُضامَا
أيا غَوثَ الزّمان رضاك أرجــــو * وعَطفــاً منك بدءًا واختتاما
فَلَم يَكن للمريد سواك حصنٌ * إذا ضَعُفَ اليَقين حِجاه راما
وأنت النّور لا يعرونـــي شــكّ * بِهَديكَ قَد تَذوّقـــتَ الكَلاما
دَعوتَ لمَّا دُعيتَ بِصدق عزم * وقوّضتَ الأباطيـــل انهداما
سَدَدَتَ على المَجْد في كلّ باب * وكِلتَ لَه انهـــزامًا فانْهِزامًا
وما للمُنكرين صَداء صَــــوتٍ * بقلب العاشقـين ولا ملاما
بِكَ افتخرَ الزّمان ونـال حـظّاً * ونَصْرُ الدّين يقرئك السّلاما