عَنْ ابنِ الحدَّاد المِصريّ قَالَ:
خَرجتُ في ليلةٍ مُقْمِرَةٍ إلَى قَبرِ أَحمدَ بنِ حَنبلَ رَحمَهُ اللهُ، فَرَأيتُ هُناكَ مِنْ بَعيدٍ رَجُلاً قائماً مُسْتَقبِلاً القبلةَ. فَدنوتُ مِنهُ مِنْ غَيرِ أنْ يَعلَمَ، فَإذَا هُو الحُسينُ بنُ مَنصورٍ وَهُوَ يَبكي ويَقول:
– يَا مَنْ أَسكَرَنِي بِحُبِّهِ، وَحيَّرَنِي في مَيَادِين قُرْبِهِ، أنتَ المُنفَردُ بالقِدَمِ، وَالمُتَوحِّدُ بالقِيامِ عَلَى مَقْعَدِ الصِّدْقِ، قِيامُكَ بالعَدلِ لاَ بالاعتِدَال،
وبُعدكَ بالعَزْل لا بالاعْتِزَال،
وَحضورُك بالعِلم لا بالانْتقَال،
وَغِيابُكَ بالاحْتِجَابِ لاَ بالارتِحال.
فَلاَ شيءَ فوقَكَ فَيُظلَّكَ،
وَلاَ شيءَ تحتَكَ فيُقلَّكَ.
وَلاَ أمَامَك شيءٌ فَيجدَكَ،
وَلاَ ورَاءكَ شيءٌ فيدركُكَ،
أسْألك بِحرمةِ هذه التربة المقبولة والمَرَاتِب المَسْئُولة، ألاَّ تَردَّنِي إليَّ بَعْدَمَا اختَطَفتَني مِنِّي،
ولا تُرينِّي نَفْسِي بَعدَما حَجبتَهَا عنِّي،
وَأكثر أعدائي في بِلادك، والقائمونَ لِقتلي مِنْ عِبَادكَ”.
فَلمَّا أحسَّ بِي التفتَ وَضَحكَ فِي وجهي ورَجعَ وقَال لي:
– يا أبا الحَسن، هذا الذي أنا فيه أوّلُ مَقامِ المُريدين.
فقلت تعجُّباً:
– مَا تقول يا شيخ، إنْ كَانَ هذا أوَّلُ مَقَامٍ فَمنْ هُوَ فوقَ ذَلك؟
– قال: كَذَبْتُ. بَلْ هو أوّلُ مقامِ المُسلمين، لاَ بلْ كَذَبتُ، هُو أوّل مَقام الكَافِرين.
ثمَّ زَعَقَ ثلاثَ زَعقَاتٍ وَسَقَطَ وسَال الدَّم من حَلقِه.
وأشارَ إليَّ بَكفِّه أنْ اذهَبْ، فذهبت وتركته.
فلمَّا أصبحتُ، رَأيتُهُ في جَامع المَنصور، فَأخذَ بيدي ومال بي إلى زاويةٍ وقال:
-بالله عليك لا تُعْلمْ أحدًا بمَا رأيتَ منِّي البَارحَةَ”.