مُقَدِّمَة:
الحمد لله وَكَفَى وسلامٌ على عباده اللّذين اصْطَفَى.
أمَّا بَعدُ، فيا أيّها الأستاذُ الفاضل الشّيخ سيّدي الصَّادِق بن الشيخ، أطالَ اللهُ بقاءَكَم لنَفْعِ العِبَادِ، إنِّي أريد أنْ أَسألكم أسئلةً تتعلق بطَريقِ القوم السّادة الصّوفيّة.
سؤال 1 أفعال أهل الطريقة:
رَأيت أهلَ طريقتكم السّادة المدنيّة العلاوية الدرقاوية الشّاذليّة يفعلونَها فهل لها مُستَنَدٌ من أَدِلَّة الشَّرعِ العَزيز، مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ أو قياسٍ أَو مِن عَمَل السَّلَف الصَّالحِ أو من فَتَاوى بعض العلماء المُثَقَّفينَ.
فَقد سمعت بعض الطلبة يقولون إنَّهَا بِدَعٌ وَيزيدون على ذلك “وكُلُّ بِدعَةٍ ضَلاَلَةٍ وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ” [[حديث رواه ابن ماجة والترمذي وأبو داود. ]] ، فَرأيت أنَّ هَذَا الحكمَ قاسٍ عَلَى الأمَّة المحمديةِ، لأنَّ جُلَّ المسلمين يَنتَسبون إلَى التصوّفِ، وفيهم العلماءُ الأعلامُ وَالأَئمَّةُ العِظَامُ. فإذَا كانَ كلُّ أولئكَ فِي النَّار فَمَنْ يدخلُ في رحمة الله التي “وَسعَت كُلَّ شَيءٍ” [[تضمين للآية الكريمة، الأعراف 56]]. ؟
ج- لك أنْ تَسألَ أيُّهَا الأخُ عمَّا بَدَا لَكَ، فأجيبك إنْ شَاءَ الله بما ألهمنيه الله من العلم ووَهَبَنِيهِ من الفهم، واطَّلعْتُ عَلَيه من كُتب المتقدمين والله المُوَفِّق للصواب، “يُؤتِي الحكمَةَ مَن يَشَاءُ” [[تضمين للآية الكريمة، البقرة269.]] وفصلَ الخِطاب.
سؤال 2 السند
س- مَا هي طريقتكم وعمَّنْ أَخَذتُموهَا ؟
ج- طَريقتنا هي المَعروفة بالطَّريقَة المدنيَّة، أَخَذنَاها عن شيخنا ومُرَبِّي أَرواحنا العارف بالله الشيخ محمد المدني المديوني وَهو الحاضر بين أيدينا، أطالَ الله عمره، وَقد تَلَقَّاهَا عن شيخه سَيّدي أحمد العلاوي، وَهَكَذَا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فَهي في الحَقيقة مُحَمَّدِيَّة.
سؤال 3 نسبة المريد لشيخه:
س- هَل نِسبةُ المُريد لشيخه الذي اهتَدَى على يَدَيْهِ كَانَ مثلها في الصدْر الأوَّل؟
ج- نَعم، وَمِن ذَلك أنَّ المغيرةَ بن بَرْدِزْبَه جَدّ الإمام البخاري لما أَسلَمَ على يد اليماني بن الأخنس الجعفي انتسب إليه فقيل المغيرة الجَّعَفِي، وَمنه سَرَى الانتساب للإمام البخاري فقيل فيه الجَّعَفِي، ومن ذلك نسبة المالكية إلى الإمام مالك بنِ أَنَس ومثلهم الحَنَفيَّة وغيرهم.
سؤال 4 أخد العهد:
س- ما هو العَهد الذي تأخذونه على المريد؟
ج- نأخذُ العهدَ عَلَى المريد أنْ يَجتَنب المَنهياتِ وَيَمتَثِلَ المَأمورات بقدر الاستِطَاعَة وَيترُكَ الرَّذَائلَ ويَكتَسبَ الفَضَائلَ.
سؤال 5 الإتباع:
س- هل هذا العهدُ الذي تأخذونَه عَلَى المريدين المؤمنين وَقَع مثله منَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسَلَّمَ ؟
ج- نعم، كَانَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أَخذَ العَهدَ من بعض الصحابة بعد إيمانهم من الرجال والنساء أيضا وإلَى ذَلكَ يشير قوله تعالى:”يَا أَيُّهَا النَّبيُّ إذَا جَاءَكَ المؤمنات يبايعنك على أنْ لاَ يُشركنَ بالله شيئًا…” [[الممتحنة، 12]] . وَمِن ذلك أيضًا بيعَةُ الشَّجَرَة.
وَبهذا جَرَى عمل المسلمين شرقًا وغربًا إلى يومنا هذَا.
سؤال 6 المقصد:
س- ما هو المقصود من أَخْذِ الطريقة والانتِظَام في سلكها؟
ج- الطَّريقة لَهَا بِدَايَةٌ ونهايةٌ، أَمَّا بدايتها فهي المحافظة على الفرائض والعمل بالنوافل حَسَبَ الاستطَاعَة، والتحَلّي بالأَخلاَق الجَميلة الفاضِلَة. وأمَّا نِهَايَتُهَا فمعرفةُ الله تعالى حقَّ المَعرفَة والوصول إلى حَضرَة القُدسِ، وَالتَّمَتُّعِ بلَذَّة الأُنْسِ والغَيبَة عَن عَالَم الحِسِّ، “وَإنَّ إلَى رَبّكَ المُنْتَهَى” . [[النجم، 42]]
سؤال 7 الغاية المقصودة:
س- أما بِدَايَةُ الطَّريقة فقد فهمنا معناها وأمَّا نِهَايتُهَا فَلم أَفهمهَا ولكنْ رأيتُ صولةً لذلك الكلام وما أظنُّهَا إلاَّ صولةَ مُحِقٍّ، فَهَل لكَ أنْ تَشرَحَ لِي تلكَ المعاني حتَّى أتَذَوَّقَهَا؟
ج- أيها الأخ قد تقرّرَ عندَ جميع العلماء أنَّ بعضَ المَعَاني لاَ تُدركَ إلا بالأَذواق، ولاَ يمكن أنْ تُعَبِّرَ عنهَا الأَشدَاق، فقد يَضيق الصدرُ وَلاَ يَنطَلق اللسان، وَعَلَى هذا جَرَى الغزالي وغيره من أئمَّة هذا الشأن، فَمَا عَليكَ أيُّهَا الأخ إلا أن تنتظم في سلك أهل التربية على يد شيخ عارف كاملٍ حتَّى يقولَ لكَ هَا أنتَ وربُّكَ فَتصل إلى غايتك المقصودة وضالتك المنشودة إن قدّرَ الله لك أن تكونَ من أَهلِ مَقَام الإحسَان ومَا ذَلكَ عَلَى الله بعزيزٍ.
سؤال 8 شيخ التربية:
س- مَا هِي صِفَةُ شَيخِ التَّربيةِ فَقَد اختَلَطَ الغَثُّ بالسَمين والمُحِقُّ بالمُبطِلِ؟
ج- شيخُ التَّربية عِبارةٌ عن رجُلٍ من الأمة المحمدية يمتَثِل المأموراتِ ويَجتَنب المَنهيات، يتَّقي الله في ظَاهره وباطنِه، سَلَكَ طريقَ القوم على يد شيخٍ عارفٍ بالله حقَّ المعرفة، أعني المعرفة الخاصَّةَ التي كانت تنطوي عليها بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : ” أَعطانِي خَليلي محمد صلى الله عليه وسلم جِرابَينِ من العلم، أمَّا أَحدهما فبثثــته وَأمَّا الآخر فَلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم”. رَواه الإمام البخاري في صحيحه وَعَلى هذا نسج زين العابدين فقال :
يا رُبَّ جَـــوهـر علـــم لو أبـــوح بـــه * لقـــيل لـــي أنـــتَ مــمَّــن يَعــــبد الـوثــــنا
ولاستَحَــــلَّ رجــالٌ مسلــــمونَ دَمِـــــي * يَـــــرونَ أقــــبَحَ مَــــا يأتـــــــونـــه حَسَــــنًا
وهو العلم الذي طَلبَه موسى من الخضر عليهما السلام إذ قال: “هَل اتَّبِعكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلمتَ رَشدًا ” [[الكهف، 66. ]]
سؤال 9:
ج- أنت رجلٌ عاقلٌ أيها الأخُ. إنَّ النبوءةَ قَد ختمت بأفضل الخلق على الإطلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأمَّا التربية أو نقول الولاية فلم تنقطع ولن تنقطع، “وَلاَ تَزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرُّهم مَن خَالَفَهم حتى يأتيَ أمرُ الله”. وَالحكمة يؤتيها الله مَن يَشاء من عباده وعلى هذا جَرَى جمهور الأمة المحمدية من علمائها وصُلَحائها.
سؤال 10 مقام الولاية:
س- هل كانت هَاتِه الأحوالُ عندَ أَصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج- نعم كَان مذهب التصوف الذي هو عبارة عن مَقَام الولاية أو نقول مَقام الإحسان عامًّا في الصحابة والتابعين، “فَلَمَّا فَشَا في الناس الإقبال على الدنيا وزخرفها، اختصَّ المُقبِلونَ عَلَى الله تعالى الذين لا يريدون إلا وَجهَه بهذا الأمر فَعُرِفُوا باسْمِ الصُّوفيَّة لصفاء بواطنهم وخُلُوصِهَا مِنْ غَيرِ الله تَعَالَى…” نَصَّ عَلَى هذا شيخ المؤرخين الإمام ابن خلدون في مُقَدِّمَتِهِ.
سؤال 11 المحبة:
س- هَل هَاته المَعرفة الخَاصَّةُ وَالأَحوَالُ الفَاضلةُ التي ذَكرتَهَا تُخَالِفُ نَصًّا شَرعيًّا ؟
ج- لاَ، بَل هِي زُبدَة النُّصُوصِ الشرعيَّة ونَتيجة العمل بالعلم “وَمَن عَملَ بمَا عَلِمَ أَورثَه اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعلَمْ”، “وَاتَّقُوا اللهَ وَيعلِّمُكُمْ اللهُ” [[البقرة، 282.]] ومَن تَقَرَّبَ إلَى اللهِ بِالفَرَائِضِ ثمَّ بِالنَّوافِلِ أَحَبَّه اللهُ، فَصَارَ سَمعه وبَصَرَه ويَدَه ورِجلَه، وَكلُّ مَن ادَّعَى أنَّه وَصَلَ إلى مَقام يَطرَح عنه فيه الأحكامَ الشرعيَّةَ فهوَ عَبدٌ مُفتَرٍ كَذَّابٌ.
سؤال 12 تأويل النصوص:
س- إنِّي قرأت في كلامِ كثيرٍ من الصوفية عباراتٍ ظاهرُهَا الحلول والاتِّحَاد فهل تلكَ هي عَقيدَتُهم ؟
ج- عقيدة الصوفية هي العقيدة السنِّيةُ الأشعرية. ومَا تَفَوَّهوا به في شَطَحَاتهم فأمرٌ يَقتضيه الاستغراقُ في بحَار التوحيد والغيبة عن هاته الخيالات الكونية. وكُلُّهَا تَرجع بالتأويل إلى النُّصوص الشرعيّة ولذلك قالَ الإمامُ المَقَّري:
وَمُـــوهِمُ المَحْـــذُورِ مِــــنْ كَـــــــــــــلاَمِ *** قـَـــــــومٍ مِنَ الصُّـــــوفيـَــة الأَعـْـــــــــلاَمِ
جـَـــرْيًا عَلَى عُـــرفِهـِــم المَـــخْصُـــــوص *** يَــــرجِـــــعُ بالتـــــأويـــــلِ للنُّـــصُــــــوصِ
سؤال 13 مجالس الذكر:
س- إني أعلمُ أن الله أمرنا بالذكـــر في كتـــابه الكــريــم فَــقَـــال : “يَا أيَّهَا الذينَ آمنُوا اذكُروا اللهَ ذكرًا كثيرًا ” [[الأحزاب، 41.]]، كَمَا رَغَّبنا في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غير أني أسألكم : هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يرغب في الذكر جماعة في حلقة واحدة؟
ج- 1- نَعَم ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما معناه : “إنَّ للهِ ملائكةً سيّاحينَ في الأرضِ، يَلتَمِسون مجالسَ الذِّكر فإذا وجدوا جماعةً يَذكرون اللهَ، نَادَى بعضهم بعضا هلمُّوا إلى حَاجتِكِم ثمَّ يَرتَفِعونَ إلَى عَنَانَ السَّماء فَيَسألهم الله تعالى مِنْ أَينَ جِئتم ؟ فيقولون من عبادك الفلانيين يسبحونك ويهلِّلونَكَ وَيَحمَدونكَ ويَسألونكَ فَيقول الله تعالى : “أُشهدِكُمْ يَا مَلاَئِكتِي أنِّي قَد غَفَرتُ لَهم فَيَقولون : فيهم فلان لم يأت لحاجة الذكر وإنما مَرَّ بالمجلس فيقول الله : وَلَه قد غفرت، هُمُ القَومُ، لاَ يَشقَى بِهم جَليسهم”. رَواه البخاري ومسلم في الصَّحيحين.
– وأخرج البَزَّارُ عن أَنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “إنَّ لله سَيَّارةً من الملاَئِكَةِ، يَطلبون حِلَقَ الذكر، فَإذا أَتَوْا عليهم حَفّوا بهم، فَيَقول الله تعالى اغْشَوْهُمْ بِرَحمَتِي، فَهُمُ الجُلَسَاء، لاَ يَشْقَى بِهم جَلِيسُهُمْ”.
– وَأَخرج البخاري عن أبي هريرة قال : “قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم : قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلّ: أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذَكَرنِي فإنْ ذَكَرَنِي في نفسه ذَكَرته في نفسي وإنْ ذكرني في مَلإ ذكرته في ملإ خير منهم”. فَهَاته الأحاديث كافية للدلالة على ذِكرِ الله جماعةً.
سؤال 14 الجهر بالذكر:
س- نعم هي كافيةٌ يَطمئن بها القلب والحمد لله بارك الله فيكم وهل ورَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الجهر بالذِّكر دلالة صريحة ؟
ج- نعم وَرَدَت أحاديثُ كثيرةٌ منها ما أخرجه الشّيخان: “إنَّ رَفعَ الصّوت بالذكرِ حين يَنصرفُ النّاسُ من المَكتوبة كان على عهد النّبي صلى الله عليه وسلم”. وَقَد أَفتى بذلك كثيرٌ من العلماء منهم الحافظ السيوطي، أَلَّفَ رسالةً خَاصَّةً سَمَّاهَا “نَتيجَة الفِكر فِي الجَهْرِ بالذِّكْرِ”. وَنَقلَ صاحب المنهاج الواضح: “الجَهرُ بالذكر ورفع الصوت به مشروع في العبادات كلها إفراطه وتوسطه وخفضه وهو عبادة مستحبة في حقّ الخواص من العلماء والأولياء لما فيه من دواعي الاهتداء والسبب الباعث على الإقتداء”.
سؤال 15 الاسم المفرد:
س- إني رأيت كثيرا من الصوفية يذكرون الإسم المفرد –الله- الله- وحده وقد سمعت من صغار الطلبة أنه وحده ليس بذكر فهل ورد في السنة ما يدل على الذكر به أو أفتى به بعض العلماء؟
ج- جَرَى عَمَلُ المسلمين شرقًا وغربًا بذكر الإسم المفرد “الله – الله” وَقَد وَرَدَ عَن النبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ: “لاَ تَقومُ السَّاعَة حَتَّى لاَ يَبقَى على وجه الأرض مَن يَقول اللهَ-اللهَ”. وَهَذا الحديث يصحُّ أنْ يَكون دليلاً على جواز الذكر بالاسم المفردِ.
سؤال 16 الذكر على جميع الاحيان:
س- هل وَردَ ما يدلُّ عَلَى جَواز الذِّكر قِيامًا ؟
ج- دَليله القرآن: “الذِينَ يَذكُرونَ اللهَ قيامًا وَقعودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ” [[آل عمران، 191.]] وَكَانَ “صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه” [[حديث رواه عروة عن عائشة، أخرجه مسلم. ]] .
سؤال 17 التواجد والاهتزاز:
س- رأيت الفقراء أهل الطريقة المدنية وغيرهم من أهل التصوف يتراقصون حالة الذكر فهل عندكم حديث على جواز ذلك ؟
ج- “نَعَم كانَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذَا ذَكَروا مالوا كما تَميل الشَّجَرَة في يوم الريح”. نَقَله أبو نعيم الأصفَهَاني في كتابه “حِليَةُ الأولياء” المُتَّفَقِ على صِحَّتِهِ، وَنَقَله عَنه مفتي الديار الفاسية الشيخ سيدي محمد المَهديّ الوزَّانِي.
وقَد رقص الكثير من الصحابة لأسباب مختلفة رضي الله عنهم .
ج- الذي جرى عليه الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”: “إنَّ الرقصَ أو نقولُ الاهتزازَ جائزٌ مطلقٌ سواءً بوجد أو بتكلُّفٍ. بل قال: “يَنبَغي تكلُّفه وجَلبُه” وأَطالَ في ذلك رحمه الله رحمةً واسعةً. وَهكذا شأن العلماء واسعي الإطلاع. وَأَجازه بعضهم بشرط أن يكون ناشئا عن وجد حقيقيٍّ وأنكره بعضهم مُطلقا وقال: “إنه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”. وَهَذَا قد اختلط عليه الحَابل بالنابل وضاق عليه العَطَن وغصّت حنجرته بالماء القُرَاحِ. فَحَكَمَ بدخول جهنّم على أكثر الأمة المحمدية وفيهم العلماء العاملون والأئمة الصالحون ولاَ حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم. وهذَا شأنُ مَن يَتَكَلَّم بغير رويَّةٍ.
سؤال 19 السبحة:
س- رَأيت الصوفيةَ والمنتسبين إليهم يذكرون الله على السبحة فهل لهم سندٌ في ذلك وهل استعملها الصحابة والتابعون وذكروا الله عَليها ؟
ج- نَعَم، استعملَ الصَّحَابَة والتابعون السبحةَ وذكروا الله عليهَا، فَمنهم أبو صفيّة، مَولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَانَ لَه نِطعٌ وَيُجَاء لَه بزنبيل فيه حَصًى، يُسبِّح بهَا إلى نصف النهارِ، ثُمَّ يُرفع فإذا صلَّى الأولَى أوتي به فسبّح به حتى يُمسي. وَمنهم سَعد بن أبي وقّاصٍ، كَانَ يُسَبِّح بالحَصى أو النّوى، ومنهم فاطمة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، كَانَت تسبّح بخيط مَعقُودٍ. وَمنهم أَبو الدرداء كان له نوًى يسبّح عليه. وَكَانَ أَبو هريرة يسبّح بالنّوى المُجَزَّعِ (يعني الذي اذا حَكَّ بَعضه ببعضٍ ابيَضَّ وتركَ البَاقي على لونه وكل ما فيه بياضٌ وسَوَاد فهو مُجَزَّعٌ قاَله أهل اللغة). وَمنهم أمّ يعفور كان لها تَسَابيح فأخذها منها زَادان فشكته إلى عليّ فقال:”ارْدُدْ عَلَى أُمِّ يَعفورَ تَسَابِيحِها” [[ابن أبي شيبة، 2، 160. ]]. وغَير هؤلاء من الرّجال والنّساء الذين يُشَارُ إليهم ويعتمد عليهم ويُعتَقَد فيهم، أَخَذوا التّسابيح وذكروا الله عليها. قال جلال الدّين السيوطي :”وَلَمْ يُنقَل عَن أَحَدٍ مِنَ السّلف والخَلَف المنعُ مِن جَوازِ عَدِّ الذكر بالسّبحة، بَل كَانَ أكثرهم يَعدّون بها”. هذا وقد مَدَحَهَا بَعضهم فقال:
وَمَنــظومَــة الشّمــل يَــخـلـو بـها الـ *** لّبــــيبٌ فَــتجـــمـع مـــن هِـــمَّتِـــــه
إذَا ذُكـــــــرَ الله جَـــــلَّ اســــمــــُــــه *** عَــــلَيــــهَا تَفَــــرَّقَ مـــــن هَيـبَـتِــه [[أبيات منسوبة إلى عماد الدين المناوي. ]]
كلّ هذا نقلته من كتاب الحاوي للفتاوي للحافظ جلال الدين السيوطي وقد ألّف فيها رسالة خاصّة سمّاها “المِنحَةُ فِي السّبحَة” وَكَفَى به حُجّةً رَحمهُ الله تَعَالَى وَرَضيَ عَنهُ.
سؤال 20 توفيق الله لصالح القول والفعل:
س- سمعت من يقول إنّ السبحة من خصائص الرّهبان والمسيحيّة فهل لهذا الكلام من أصل ؟
ج- لا أصل لهذا الكلام بل السّبحة مستعملة في صدر الإسلام كما ذكرت لكم وكونه يقع الاتِّفَاقُ في بعض الأحكام بين الإسلام والمسيحيّة وغيرها فذلك أمر قرّره علماء الشّرع و”شَرْعُ مَنْ قَبلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ” ولذلك اتّفقت الشّرائع كلّها في كثير من المسائل.
ج- حَمَلهم عَلَى ذلك الجهل وعدم الإطلاع والدَّعَاوي الفارغة التي لا تَسكن إلاَّ قلوبًا لاَهيةً وعقولاً واهيةَ، حَفظنا الله وإيّاكم من الزّيغ والزّلل وَوَفَّقَنَا لصالح القول والعمل بحرمة مَولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
اعترافٌ : كَفَاني كفاني، أيّها الأستاذ ما أجبتم به من الأجوبة المفيدة والنّقول الصّحيحة السّديدة وَبِها نعلم صحّةَ مَا جَرَى به العمل عند القوم الصّوفيّة رضي الله عنهم،
أَبقاكم الله لنصر الدّين ونفع المسلمين.
وما أحسن قول الإمام ابن عبد السّلام إذ قال : ” قَعَدَ قَومٌ عَلَى قَواعِدِ الشَّريعَةِ التي لاَ تَنهَدِمُ حَيثُ قَعَدَ النَّاسُ عَلَى الرُّسُومِ”، ولا فائدةَ في التّطويل إذْ مِنَ التّطويل كَلّت الهِمَمُ وَأَنَا مَعَكم وعلى عَهدكم حتى نلقى الله “وَمَن أَوفَى بمَا عَاهَدَ عَليه الله فسنؤتيه أجرًا عَظِيمًا”.
ثَبّتنَا الله وإيّاكم على الصّراط المستقيم بحرمة مَولانَا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم إلى يوم الدّين والحمد لله ربّ العالمين.