1. ومِن أسماء الرسول، عليه الصلاة والسلام، الشَّريفَة: “فَصيح اللسان“. والفصيح هو مَن يَتكلم بكل يُسرٍ وسُهولة، مع اللفظ الوجيز والمَعاني الكثيرة. والفصاحة من فضائل العرب وعلامات وجاهتهم. وقد أعطى الله سبحانه وتعالى نبينا، عليه الصلاة والسلام، جَوامِعَ الكَلِم، فكان صلى الله عليه وسلم، يُخاطِب كلَّ قَبيلة بِلَهجتها، وكلَّ وَفدٍ مِن الوُفود، سواءً أكانت عربيةً أو أعجمية، بلغتها، ولم يكن يَحتاج قطُّ إلى وَاسطة أو ترجمان يبلغ عَنه، كأنه من أهل تلك اللغات، يَفهم مَعانيها، ويتألق في تصريف مَبانيها، بل كان أفصح من أهْلها حتى قال لَه سيدنا عليٌّ، كَرَّمَ الله وجهه، وقد سمعه يُخاطبُ وفدَ بني نَهدٍ: يا رَسول الله، نَحن بنو أبٍ واحدٍ ونَراكَ تُكلم وفودَ العَرَب بما لا نفهم أكثرَهُ“. فَقال، عليه الصلاة والسلام،: ” أدَّبَني رَبِّي فَأحسَنَ تَأديبي“. (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث)، كما كان صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم كلا منهم بما يفهمون ويحادثهم بما يعلمون . ولهذا قال – صدق الله قوله – : ” أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ” فكأن الله عز وجل قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بني أبيه وجمع فيه من المعارف ما تفرق ولم يوجد في قاصي العرب ودانيه .
2. ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
يا أفصحَ الناطقين الضادَ قاطبةً * حديثك الشهد عند الذائق الفَهِم
3. ولم يكن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أفصحَ الناس باللغة العربية فحسب، بل كانَ يخاطب الملائكة ويخاطبونَه، ويأخذ الوحي من سيدنا جبريل، عليه السلام، ويأمر الجُنونَ بتوحيد الله وبالعمل الصالح وهذا مذكورٌ في نصِّ القرآن الكريم، فقد جاء مُرْسَلاً للثقليْن: يُبَلِّغهم الشريعة المُطَهَّرة.
4. كما خاطبته الحيوانات وفَهم مرادَها، وتكلم معها وكُتُبُ السيرة النبوية زاخرةٌ بهذه الأخبار، مثل تلك التي وردت في في حَنين الجذع إليه، ومُخاطَبة الحصى وتَسبيح الحجر.
5. وفي هذا المعنى، يقول سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ” أنا أفْصَح العرب“، وإنَّ أهلَ الجَنَّة يتكلمون بلغة سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام. ويقول أيضا: ” أنا أعْرَبُكم وأنا أعرب العَرب، وَلَدَتني قريش ونشأتُ في بني سَعد بن بَكرٍ، فَأنّى يَأتني اللحنُ “، (أخْرجه الطبراني، من حَديث أبي سَعيد الخدُري). ويَقول سيد الوجود صلى الله عليه وسلم : ” كانت لغة إسماعيل قد دَرَسَت (أي انقرضت) فَجاءني بها جبريل عليه السلام فَحَفَّظنيها“، ويقول في حديث آخر: ” أحِبوا العربَ لثلاثٍ: لأنني عَربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة في الجنة عربيٌّ“.
6. وكما نعلم، فَإنَّ الرسول، عليه الصلاة والسلام، يَعرف كلَّ أدوات التواصل بينه وبَين الموجودات كلها، لأنه مَبعوث إلى الجميع، يقول الله تعالى: “ قلْ يَا أيها الناس إنِّي رَسول الله إليكم جَميعًا” (الأعراف: 158)، وكلمة “الناس” يُراد بها سائر الإنس والجان، بخلاف المرسلين السابقين، قد بعثَ كلُّ رَسول إلى قَومه من الأنس فحسبُ، يقول الله تعالى: “وما أرسلنَا من رَسولٍ إلا بلسان قَومه” (سورة إبراهيم: 4).
7. وقد أعْيَتْ فَصاحَةُ رَسول الله جميعَ الفُصَحَاء، وأعْيَتْ الشعراءَ، وذَلَّت دونَه ألسنَ الخُطَبَاء، فَتَطَاوَحَت لِهيبَتِهِ بَلاغاتُ البُلغاء، لأنَّ اللهَ تعالى هو الذي أجْرَى عَلى لسانه ينابيعَ الحِكَمِ، ونَوَّره بمَعَالي المَعاني والكَلِم، وجعله في الذروة العليا من البَيان وفَصل الخطاب للأمَم، فَصلوا على سيدنا محمد الممدوح في نونٍ والقَلَم.
الزاوية المدنية
04 ماي 2017