يقول الشيخ سيدي أحمد العلاوي في شرف علم القوم على غيره :
اعلم أن هذا العلم هو أفضل العلوم, وأزكى الفهوم, ولا ينكره إلا من كان من بركته محروم. لكون العلوم من حيث هي قد يقع الاستغناء عنها في وقت ما, بخلاف هدا العلم فانه لا يستغنى عنه في سائر الأوقات حتما. ولا يقول بالاستغناء عنه إلا جهول حرم لذة الوصول, ومن جهل شيئا عاداه ولله در عزا لدين الأربيلي حيث قال :
كــــــــمل حقيقتك التي لم تكمــــــل*** والجسم دعه في الحضيض الأسفـل
أتـــــــــكـمل الفاني وتترك باقيـــــــا***عـــــــملا وأنت بــأمره لم تحفــــــل
الــــــــــجسم للنفس النفيسة آلـــــــة *** مــــا لم تحصله بـــها لم يحصـــل
يفـــــــنى وتبقى بعده في غبطــــــة *** محمــــــــــودة أو شقـوة لا تنجلــــي
أعطــيت جسمك خادما فخدمتــــه *** ونسيت عهدك في الزمـــــان الأول
ملـــــكت رقك مع كمالك ناقصــــا *** أتملك المفضول رق الأفضــــــــــــل
وكثيرا ما كان يلهج الغزالي ببـيتي أبي الفتح ألبستي رحمهما الله وهما :
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمتـه *** وتطلب الربح مما فيه خسران
عــــــليك بالنفس فاستكمل سعادتهـا *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
قال ابن بنت الملق رحمه الله :
من ذاق طعم شراب القوم يدريه *** ومن دراه غدا بالروح يشريه
فلاح لنا من هذا المرقوم أن هذا العلم أشرف العلوم, وشرفه بشرف المعلوم, وقدره بقدر متعلقه, وهو متعلق بذات القيوم. تالله لقد حاز الشرف الذي ليس فوقه مزيد وباقي العلوم بالنسبة إليه كلها مماليك له و عبيد كما قيل :
أيها المغتدي لتطلب علمــــــا *** كــــل علم عبـــــــــد لعلــم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكـــما *** ثم أغفلــــــــــت منزل الأحكـام
مع أن الممدوح في هذين البيتين يصح أن يكون عبدا لعلم القوم الذي هو موضوع هذا الكتـاب لكون علم القوم مأخوذ عن عيان. وعند غيرهم مأخوذ من دليل وبرهان, فما بعد البيان بيان. وليس الخبر كالعيان. قال حكيم الصوفية: شتان بين من يستدل به وبين من يستدل عليه. وكل علم يقع الجدال والمنازعة بين أهله والمخالفة والتباين بين أربابه إلا هذا العلم الشريف فإنه منزه عن المشاققة والتحريف. قال عمر بن الفارض :
وكم بين حذاق الجدال تتنازع *** وما بين عشاق الحبيب تنازع
قلت : وسبب ذلك عدم الاجتهاد في علم القوم بخلاف علم الفروع فإنه يؤخذ عن دليل وبرهان, ومنه ما يؤخذ من نقل, وأما علم القوم فإنه مأخوذ من كشف وعيان لا غير, فلهذا لم يقع فيه تباين ولا تخالف وهو باطن القرآن. وظاهر القرآن منزه عن التغيير فأحرى بباطنه. قال تعالى, إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. فوكل عز وجل بظاهره أرباب الظواهر ووكل بباطنه أرباب البصائر, فصار أهل البصائر, يتفكهون في ظاهر القرآن وباطنه كتفكه أحدنا في بستانه. قال عليه الصلاة والسلام القرآن بستان العارفين. وقال إبن العربي الحاتمي قدس الله سره : أعطيت مفاتيح القرآن العظيم. وليس هو أول من أعطي مفاتيحه, ولا هو آخرهم, وإنما كل من كان له نصيب من علم القوم كان له نصيب من فهم القرآن العظيم ومن لم يكن له نصيب من هذا العلم فلا نصيب له من باطن القرآن وإنما حظه ظاهر اللفظ. ذكر عن الإمام علي بن أبي طــالب كرم الله وجهه ما معناه : لو شئت لوقرت أربعين وقرًا من تفسير الفاتحة. وكل ذلك مما أعطي من تلويح الإشارة ودقائق العبارة في علم الباطن وله أن يستخرج أكثر من ذلك لأن لفظ الأقل محتوي على معنى الكل لما في الخبر أن كل ما في الصحف, في الكتب الأربعة وكل ما في الكتب الأربعة, في القرآن العظيم وكل ما في القرآن العظيم في فاتحة الكتاب وكل ما في الفاتحة في البسملة وكل ما في البسملة في بائها وكل ما في الباء في نقطتها. فتحصل من هذا أن الكتب المنزلة على الأنبياء من أبينا آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع ألفاظها ومعانيها وأحكامها مجتمعة في نقطة الباء مع صغر جرمه, فمن ذا الذي يطيق أن يستخرج هذه المعاني العظيمة والدلائل الفخيمة من نقطة الباء إن لم يستخرجها العارفون بالله أرباب البصائر, وهؤلاء هم الذين عرفوا معنى الحديث وصدقوا قائله من طريق الشهود والعيان, لا من طريق الإيمان. وإذا استقر في ذهنك أيها القارئ اللبيب أن نقطة الباء جامعة لسائر الأحكام والرسوم, والمعارف والفهوم, فمن باب أولى وأحرى الكلمة. فسلم لأهل هذا العلم ولا تستغرب إن رأيتهم استخرجوا من المعنى الواحد معان شتى ومن الكلمة الواحدة كلمات جمة فلهم أن يستخرجوا ما شاؤا من أي شيء شاؤا تالله لو أراد أحدهم أن يستخرج العسل من الخل لفعل ؛ والله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. كل ذلك دليل على ما منحهم الله من الأسرار والمعارف والأنوار فلا تغتر يا أخي بأقوال المغرورين الذين ينقصون أولياء الله ويخوضون في أعراضهم ويزعمون أن لهم يدا عليهم, وما هم إلا بمنزلة الصبيان معهم لكونهم لا يدرون من أي بحر غرفوا ولا لأي جهة من الجهات توجهوا كما قال الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه :
تركنا البحار الزاخـــرات وراءنا *** فمن أين يدري الناس إلى أين توجهنا
بذلك صاروا أشرف الأمم على الإطلاق, وعلمهم أشرف العلوم بالاتفاق فجد يا أخي في طلبه, وصدق بأهله, فإنك تغنم, وإلا فسلّم. نقل الإمام الغزالي في إحياء العلوم عن بعض العارفين ما نصه : من لم يكن له نصيب من هذا العلم أي علم الباطن أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله. قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه: من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر . ومن الكبائر عند القوم شهود الغير و لا يسلم من هذه البلية إلا من كان متذللا واقفا على أبوابهم ولو كان من العلماء المتقنين, والزهاد العابدين. فتذلل يا أخي لهم لعلك تحظى بودادهم وإلا صدق بعلمهم, قال الجنيد رضي الله تعالى عنه : التصديق بعلمنا هذا ولاية وإذا فاتتك المنة في نفسك فلا يفوتك أن تصدق بها غيرك. قال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله تعالى عنه: إذا رأيت من يؤمن بالطريق فقل له يدعو لك الله فانه مجاب الدعوة. وقال الصقلي في كتابه ” نور القلوب في العلم الموهوب” : كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة وكل من عبر عنه وتكلم فيه فهو النجم الذي لا يدرك, والبحر الذي لا يترك . وكان الطبيب صاحب حاشية الكشاف يقول: لا ينبغي للعالم ولو تبحر في العلوم حتى صار واحد أهل زمانه أن يقنع بما علمه وإنما الواجب عليه ألاجتماع بأهل الطريق ليدلوه على الصراط المستقيم حتى يكون ممن يحدثهم الله في سرائرهم من شدة صفاء بواطنهم إلى أن قال حتى يصير يقتبس من أنوار النبوة , قلت : وكيف يستغني العالم بعلمه مع أنه مقصر في فهمه وقد بلغنا عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه قال : ضيعنا عمرنا كله في البطالة فيا خيبة مسعاي في تلك الأيام , فقيل له ألست قد صرت بذلك حجة الإسلام قال : دعوني من هذه الترهات , أما بلغكم قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر . فانظر يا أخي تواضع هذا العالم الشهير وإقراره بما كان عليه من البطالة ولا تحسبنه قال ذلك تهاونا منه بعلم الشريعة فحاشاه من ذلك وإنما قاله تعظيما له حيث عرفه وكان قبل ذلك جاهلا له إن كان ممارسا للظاهر فإنه كان عما في باطنه قاصرا . وغاية ذلك كان جامعا للرسوم , غافلا عن العلم والمعلوم . ولما فتح الله عليه بملاقاة الصوفية صار علمه بالله بعد أن كان بأحكام الله .
المرجع : كتاب المنح القدوسية للشيخ سيدي أحمد العلوي