بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنْ الرَّحِيمِ
اللّهُمَّ صَلّ وسلّم وبَارِكْ عَلَى سَيُّدنَا َومْولانَا مُحَمّد ضِيَاء العُقُولِ وَمِشْكَاةِ الأفْكَارِ ، وهداية الّنفوس ونور الأبصار .
مُحَيَّاكَ يَا خَيْـــــــــر البَـــــــــــــرِيَّةِ قَدْ بَدَا * يُحَاكِــــــــــيهِ بَدْرٌ وَالصِّحَـــــــــــابُ نُجُــــومُ
مَدَحْتُكَ لاَ أَنِّي بِمَــــــــــدْحِــــــكَ قَــــــــائِمُ * وَمَـــــــــــــنْ ذَا بِإحْــــــــــصَاءِ الـرِّمَالِ يَقُومُ
الحَمْدُ للهِ الّذِي زَيَّنَ الوُجُودَ بِمَوْلِدِ سَيَّدِ الأَنَامِ، وَأَضَاءَ الكَوْنَ بِخَيْرِ رَسُولٍ وَأَعْظَمِ إِمَامٍ، أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ العَلاَّمُ ، جَعَلَ أُمَّةَ سَيِّدنَا مُحَمَّدٍ أََشْرَفَ أُمَّةٍ لأِجْلِ رَسُولِ السَّلاَمِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَمَوْلاَنَا مُحَمَّدا عَبِدُهُ وَرَسُولَهُ بَعَثَهُ اللهُ لِتَوْحِيدِهِ مُنَادِيَا ، وَإِلَى الجَنَّةِ دَاعِيًا وَإِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ هَادِيًا .
يَا نَـــــــبِيَّ الهُـــــــــــــــــدَى عَلَيْــــــكَ السَّلاَمُ * كلّـــــما عـــــــاقـــبَ الضّيـــــــاءُ الظّـــــــــلامُ
زادكَ اللهُ رِفـــــــعـَـــــــــــةً وجــــــــــــــــــلالاً * وبــــــــــــــهاءً وعـــــــــــــزّةً لا تُــــــــــــرام
فصلواتُ الله وسلامُهُ عليه وعلى آله وأصحابهِ ومُحِبّيه الّذين اتّبعوا هديَه ونَهَجُوا نَهجَه أولئك على هُدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون ِ .
أمّا بعد،
إنّ الأئَمّةَ الصّوفيّةَ دقّقُوا الاهتمَامَ فِي اصطلاحَاتِ الطّريقِِ وضَبْطِ دلالاتَهَا وسَارُوا وفقَ هَذا المَنْحَى بناءً للمفاهيم وتشييدا للضّوابِطِ و الشّرُوطِ دفعا لكلّ ايهَامِ أو تداخلِ ، وسار الشّيخُ محمّد المدني في آثارِهِم على هذا المنهج . ودَأَبْتُ على سَيْرِه منذ نِصْف قَرْن تثبيتا لبُنيان الطّريقةِ المدنيّة وَذْودًا عليها من إسْقاطِها في مُسْتََنقَعَاتِ الأبَاطِيل ورفعًا لها في عَلْيَاءِ العِلمِ والشَّرْعِ الحَنِيفِ لأنّها طريقةٌ تَنْهل من رُكنِ الإحسَان الّذي هو عِلْمٌ ربَّانِيّ لا يُدْرَك إلاّ بِالتَّرْبية الرُّوحِيّة الموصلة إلى المَعرفةِ اليَقينِيّة بالله تعالى ، والتَّصوّفُ عِلمٌ لا يُنَالُ إلاّ على يَدِ شَيْخ سَالِكٍ مُسَلِّكٍ متخلّقِِ بأخلاقِ اللهِ مُتَحَلٍ بِسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصُحْبَتُهُ هي السَّبِيل العَمَليّ لزِيادة الإيمانِ وإيقاظِ القلوبِ لقوله تعالى ” [vert]وَاتَّبَعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ[/vert] ” وقال الحَوَارِيّون لسَيّدِنا عيسى عليه السّلامُ يا رُوحَ الله من نُجالِس ؟ قال جَالسُوا مَنْ تُذَكّركُم بالله رُؤيَتُه ، ومن يَزِيدُكم في عِلْمكُم كَلامُه ، ومَنْ يُرغّبُكم في الآخرة عَملُه.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الرَّجُل على دِينِ خَليلِه فَلْيَنْظُرأحَدُكم مَنْ يُخَالِل )وإلى هذا أشَار الفَخْرُ الرَّازِي في تفسير قوله تعالى “[vert]صِرَاطِ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم[/vert]” ، قائلا وهذا يَدلُّ على أَنْ لا سبيل إلى وُصول المُريد إلى مَقَاماتِ الهدايةِ إلاّ اذا اقُتَــــدَى بِشيخ يُرِيه سَوَاءَ السَّبِيل ، يقول الإمَامُ عَبْد الواحد بن عاشر :
يَصْحَب شَيْخًا عَاِرفَ المَسَالِكِ *** يَقِـــيهِ فِـــي طَريقـِــهِ المَهَــــالك
فَحقيقةُ التَّصَدُّرِ للتّربيةِ المُوصلَةِ لله هي وِرَاثَة المَقام المُحمّدِي ولا يَتَولّى التَّبْليغَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مَنْ وافَقَ سُلوكهُ كتابَ الله وسنّة نبيّهِ الكريمِ ولهذَا لَمْ يُرسلْ رسول الله عليه الصّلاةُ والسّلامُ إلى اليَمَنِ إلاّ سيّدنا مُعَاذًا لِعلمِهِ وفِقْهِهِ ويَقُول (أَعْلَم أُمّتِي بالحَلال والحرام مُعَاذ بن جَبَل) ، قال الجُنَيد : –عِلمُنا هذا مُقيّدٌ بالكتابِ والسُنّة فَمَنْ لم يَسْمع الحَدِيثَ ويَجَالِس الفُقَهاء ويأخُذ أَدَبَهُ عَنِ المُتَأدّبِين أَفْسَد مَنِ اتَّبَعَه – ولِعُلُوِّ رُتْبة المَشْيَخَة اشْتَرَط العُلماءُ المُحقِّقون أَربعَةَ شروط فِيمَن يَتَصدَّرُ لِلإرْشاد .
– الأوّل : الرُّسوخُ في العُلوم الشَّرْعيّة مِنَ العقيدَة والفِقهِ والقُرآن والحديثِ والتَّضَلُّعِ في أُصوله وفُروعِه ليَتَسنَّى له الإجابة على أسئِلةِ المُريدِين على اختلافِ شَرائِحِهم .
– الثّاني : التَّمكُّنُ مِنْ عِلم الحَقيقَة الصَّافِيةِ فلا يَدُلُّ على الله إلاّ مَنْ تَأَنّسَ بالله في سِرِّه وعَلانِيّتِه وفَرَغ من تَأْديبِ نَفْسه، وإلى هذا الشّـــــــرط أشار صَاحبُ المَيّارة الكُبرى نَقلا عن ابن عَبَّاد حيث قال :
لا بُدَّ للمُريد في هذا الطّريقِ من صُحبةِ شيخٍ محقّقٍ مرشدٍ قد فرغَ من تأديب نفسهِ وتخلّصَ من هواهُ فلــــــيسلّم نفسهُ إليه ولْيلتَزم طاعَتَهُ والانْقيَادَ إليه في كلّ ما يشيرُ به عليه مِنْ غَيرِ ارْتيابٍ ولا تأويلٍ ولا تردّدٍ .
– الثّّالث :الخِبرةُ بطرائقِ تَزْكية النُّفوسِ وتَنظيفِها من أَدْرانِها وتَهذِيبِها في سُلوكها ، فالتّصوّفُ علمٌ ذوقيٌّ لا تُدركُ ثمرتُهُ إلاّ بالتَّرقِّي في مَدارِج السّالكِينَ ، قال ابن عَجِيبَة : أَنْ يَكون الشّيخُ مُتمَكّنا ماهرا بأحوالِ القُلوبِ عارفا بِعِلَلِها و وسَائلِ عِلاجِها ذا بصيرَةٍ يرْوي ضَمَأَ مُريدِيه بالإجَاباتِ الشّافِية على أسْئِلتِهم ويُبَيّن لهم حَقيقةَ المَقْصدِ فَغايةُ التّربيةِ ترقّيةُ المريدِ كما قال الشّيخ محمّد المدني : المُرشدون لهم تأثير غريبٌ في بَواطنِِ مُريـــدِيهــم يَرفَعُــونهم مِنْ حَضِيـــض المَعصــيةِ إلى مستَـــوَى الطّاعَـــةِ إلى الرّفِــيـقِ الأعْـــلَى إلى الحُـــــضُور مـــع المعـــبـود جَــــلَّ جـَـــلالـــهُ .
– الرّابع : تَوفُّرُ الإجَازَة اللّفظِيّة الصّرِيحةِ لضمَانِ الأهْليَّة الفِعليّةِ للإرْشادِ والتّذْكيرِ فلا يتَصدّرُ لرُتْبة المشيخَةِ إلاّ مَنْ صَاحَب شيخا عارفا يَأْذَنُ له في نَشرِ الطّرِيقِ إن تَوفّرَت فيه الأهْلـــــــــيّةُ العِلميّةُ والرّوحِيّة على غِرارِ ما يَفعلُهُ الحُفّاظُ وروَاةُ الحديثِ الّذينِ اعْتَبَروا حُصولَ السّنَدِ المَكْتوبِ شَرطًا لنَقْلِ السنّةِ المُطهّرةِ حتّى قال ابن المُبارَك :
الإسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلوْلا الإسْنادُ لَقَالَ مَنْ شاءَ مَا شَاء . وهل التَّصوُفُ إلاّ السُنّة النّبويّة وخُلاصتُها العَطـــــرةِ فلا
يُبلّغها إلاّ العلماءُ العاملونَ، ولذلكَ وجبَ الحَذرُ مِنْ أولئِكَ الّذيــن يَدّعونَ رتْبَةَ المَشيخَة دون حُصولِ شُروطِها ، فَكَمَا لا يَجُوز لِمَن لا يَحمِل شهادَةَ الطبِّ أَنْ يفتَحَ عِيادةً لمدَاواةِ المرضَى لا يَجوزُ أن يَدّعِي الإرشادَ غـــير مَأذُونٍ له مِنْ قِبَلِ مُرشِد مَأذونٍ مُجَازٍ مُؤهّلٍ يَتّصلُ سَندُه بالتّسَلْسُلِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الشّيْخ عبد
القادر عِيسَى : وَلَمَّا كان مَشرَبُ القوم أبْلغُ المَشاربِ في التّحْقيقِ، وأَسْنَى المَعارِجِ في التّدقيق ،تَعيّنَ على كُلِّ مُنتَسبٍ أن يُحقّقَ مُسْتَنَدهُ على الوَجهِ الأحَقِّ لأنّ الحَقائقَ لا تُؤخَذُ مِنْ كُلّ ذي دَعْوَى إلاّ بعدَ تَحقّقِ صِحّةِ دَعواهُ على الوَجهِ الأكْملِ، لكن قد يَسأَل سَائلٌ كَيفَ الاهْتدَاءُ إليهِ ؟ أو كيف يُعرفُ أَنَّ هَذا هو الشّيخ المُرَبّي ؟ يقول ابن سِيرِين (إنَّ هذَا العِلم دِينٌ فَانظرُوا عَمّنْ تَأخُذونَ دِينَكم) رواه مسلم، وقال بعض العَارفين العلم رُوحٌ تُنفَخُ ، لا مَسائِلَ تُنسَخُ فَلْيــنتبه المُتعلّمُون عَـــمّنْ يَأخــذُون و لِينْتبه العَالمُون لِمنْ يعْطون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خَصلتَان ليسَ فَوقَهُما مِنَ البِرِّ شَيءٌ ، الإيمَانُ بالله والنّفْعُ لِعبَاد الله ، وخَصلتَان ليسَ فَوقهُما مِن الشَرّ شَيءٌ الشِّركُ بالله والضُرُّ لعبَادِ الله ). قال الشّيخ عَلِي الخَواص :
لا تَـسْلُكَـنَّ طَرِيقًا لَسْتَ تَعْرِفُهَا *** بـِــلاَ دَلِيلٍ فَتَهْوى فِي مَهَاوِيهَا
ولا يُسلّمُ المريدُ سيرَهُ إلى اللهِ لكلِّ من هبَّ ودبّ َ، ولكن للّذي إذا جَالسهُ شَعرَ بِنفحَةٍ ايمانيّةٍ ، ونشْوةٍ روحيّةٍ لا يَتكلّمُ إلاّ لله ولا يَنطقُ إلاّ بِخيرٍ ، ولا يَتحدَّثُ إلاّ بِموعِظَةٍ أو نصيحَةٍ دينيّةٍ تَستفِِيدُ مِنْ صحْبته كما تَستفيدُ مِنْ كَلامهِ ، كذلك تُلاحظُ في مُريدِيه صُوَرَ الإيمَانِ والإخْلاص والتَّقوَى والتَّواضُع والصّدْقِ والإيثَارِ ، وهكذا يُعـــــرَفُ الطّبيبُ الماهرُ بنتَائجِ جُهودِه حيث تَرى المَرضى الّذِين شُفُوا على يَديْه وتَخرّجُوا مِنْ مِصحَّتهِ بِأوفَرِ قُوّةٍ وأتَمِّ عَافيةٍ . كَما أنّ كَثرةَ المُريدِين وقِلّتَهم لَيسَت مِقيَاسًا لمَهَارَة الشّيخِ وإنّمَا العِبرةُ بصَلاحِ المُريدِين وإفَادتِهِم بمَعرِفة الشّريعَةِ والحَقيقَة وتَخليصِهم من العُيوبِ والأمْراضِ واسْتقامَتهِم على شَرعِ الله، يقول الشّاعر :
لا تَصْحَبْ أَخَا الجَـــــــــــــــــهْل إيـَّـــاكَ وإيَّاه ُ ** فَكَمْ مِنْ جَــــاهِـــلٍ أَرْدَى حَلِــيمًا حِينَ آخَاه
يُقاسُ المَرءُ بِالمَــــــــــــــــرءِ إذَا هُو مَا شَاه ** وَللشّيءِ مِنَ الـــشَّيءِ مِقـْــــياسٌ وَأشْــبَاهُ
وَللقَلْبِ عَلىَ القَلبِ دَلِيلٌ حِيــــــــــــــــــنَ يَلقَاهُ ** وفِي العَيْنِ غِنًى لِلْعَيــــــنِ أنْ تَنْـِطقَ أفْوَاهُ
ونُورِدُ فَقرَةً ممَّا كَتبَهُ الأستَاذُ أحمد العلاوي في إجَازَتِهِ الكِتابِيّةَ للشّيخ محمّد المدني كَأنمُــوذَجٍ مِنَ الإجَازَاتِ يَقولُ:
فَهذِه رُتبَةُ الإرْشَادِ تَطلبُكَ بِكلِّ الإجتَهادِ ، فَارْشدْ مَنِ اسْتَرشدَك وَصِلْ مَنْ قَطعَك فَإنَّا أجَزنَاكَ فِي الطَّريقَة الشَّاذليّة الإجَازةَ اللّفْظيّةَ تعْضيدًا لمَا تَقدّمَ لكَ مِنَ الإجَازةِ القَلبيّةِ ، هذا ومِمَّا تَجدُرُ الإشَارةُ إليهِ وأَنَّ فَيصَلَ التَّفرقَةِ بَينَ الشّيْخِ المُرُبِّي والدَّعِيّ هو وُجودُ الإجِازَة الفِعْليّة، وأمَّا مَا عَدَاهَا مِنْ دَعَاوي رُؤيَة الشَّيخِ فِي الـحُلم وإجَازَتِه على طَريق الرُؤية في المَنامِ، أو تَلقِّّي الإذْنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقظةً بِنَشرِ طــريقِ التّصَـوّفِ أو اسْتعْمالِ الجُنُونِ لجَلبِ المُريدِين لا يَصِحُّ شَرعًا ولا تَصوّفًا بل هو مِنْ ضُروبِ الدّجَلِ واسْتِبْلاهِ الأتبَاعِ وهو مِنَ الأخْطارِ المُحْدِقةِ بالتّصَوّفِ وأهَلهِ. وقد أوْجزَ الشّيخ محمّد المدني هَذه الشّرُوط بقوله : لا بدَّ أن يَكونَ الشّيخُ عَالمًا بمَا يَلزَمُه شَرعًا مِنْ تَوحِيدٍ وفقهٍ وأمّا مَعرفَة العِلمِ اللَدُنّي فشَرطُ صِحّةٍ فِيمَنْ يَدّعِي مَشيخَةَ الطّرِيق وإلى ذَلك يُرشدُ قَولَ المُرشدِ المُعينِ المُتقَدّمِ عَارفَ المَسالكِ ، وأمَّا غَيرُ العَارفِ فليسَ لهُ طرِيقٌ إلى سَبيلِ الرّشَاد، إذْ ربّما أرْشدَ إلى فَسَادٍ يَظنُّهُ سَدادًا أو طَلاحٍ يَظنّهُ صَلاحًا فَمَثل هَذا مَضرّتُه أقْربُ مِنْ مَنفَعَتهِ ، فَالوَاجبُ عليه هو الالتِجاءُ لِمَنْ يَأخُذُ بِيدِه ويُرِيهِ عُيوبَ نَفسِه .
وَإنْ يَـكُ الشَّـْيخُ بِغَـــْيِر مَا ذُكِر *** مِـنَ الأوْصَافِ فَاطْرَحْهُ وَلاَ تَغْتَرْ
وَزُبدَةُ القَول أنّ الـمَشـيخَة هي خِلافَةٌُ لرســول الله صلى الله عليه وسلم فِي تَزكِيةِ الأرْواحِ ولاَ يَتقدَّمُ لهَذا المَقامِ الأعْلَى إلاّ مَنْ أَهَّلَهُ الله تَأهِيلاً ، وجَعلَهُ
لطُرُقِ الخَيرِ دَليلاً .
اللّهمَ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنَا محمّدٍ فَخْرِ الأنبياء ، ونِبْراسِ الأولياء ، وحَبِيبِ أهلِ الجنّة يوم الجَزاء .
مَشَى وَحْدَهُ وَالحَجبُ تُرفعُ دُونَهُ***وَأمْـــــلاكُهَا تَسْــــــــعَى لَــــهُ وتَقُـــــــــوم
مُُمَشّىً عَلى الأفْلاَكِ يَقْصِدُ حَضْرَةً *** بِهَا اللهُ سـَــــــــاقٍ وَالشّـَـــــــرابُ قَدِيـــــم
مُحِبٌٌّ وَمَحْبُـــــــــوبٌ وَمَا ثَمَّ ثَالِثٌ***وَقُرْبٌ وَ وَصْــــــــلٌ لِلْحَبــــــــيبِ يَــــدُومُ
سادتي الأعزّاء، من بين المُعجزَات المُحمّديّة الفَاخرةِ ،والآياتِ النّبويّةِ الباهرةِ : التّصديقُ بِالرّسالةِ قبلَ صُدورِها للأمَمِ ، والإيمَانُ بالنّورِ المُحمّدِي وهو ما يَزالُ مَطويًّا في عِلمِ العَليّ الأعْلَم ، ومِنْ ذلك إيمَانُ مَلكٍ مِنْ مُلوكِ اليَمنِ اسمُه أَسْعَد بِنْ كَرِب ورُتبَتُه تُبَّع أي مَلك اليَــمَـنْ، وكــان ذلــك الإيــــمَانُ
والتَّصدِيقُ قَبْلَ مَبعثِ سيّدِ الأنَامِ بِألفِ عَامٍ ،ويَكفِي هَذا المَلِكُ فَخرًا وَازْدهَاءً أنًَّ الله تَعَالَى أعْلَى شَأنَهُ عَلى سَبيلِ الإشِارةِ ونَوّهَ بِخـصوصِيّتِهِ بِلمحِ العِبارَة، فقال:
” أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ” . فَظاهرُ الآية أنّ الوَعيدَ الرَبّانِي يَشملُ قَومهُ ولا يَشمَلهُ ، وشهد له الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإسلامِ تَشريفًا واعتناءً ، وَنَهَى عن التَّعْرِيضِ به تكريمًا واحتِفاءً ، فقد أخرج أحْمَدُ في مُسنَدِه والطَبرانِيُّ والحَاكمُ عن سَهل بن سَعد السَّاعِدِي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاَ تَسُبُّوا تُبَُّعًا فِإنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ) ، ويَكفيهِ أيضًا فَخرَا وفَلاحًــــا أنْ شَهــــــدَتْ أمُّ المُؤمِنِين السَيّدةُ عَائشَة بِصلاَحهِ قَائلَةً لا تَسُبُّوا تُبَّعًا فإنّه كَانَ رجُــــلاً صَالحًا وأمّا سَيّدُنا عبد الله بن العَبّاسِ رضي الله عنهما فقدْ دَعَا في أمرِهِ إلى اليَقينِ ، وقَطعَ فِيهِ حُجبَ الشُّبهةِ والتَّخمِينِ قائلا لا يَشتَبِهنَّ عليكم أَمْرُ تُبَّعٍ فإنّه كان مُسلِمًا ، وانطلق تُبَّع مِنَ اليَمَنِ إلَى مَكّةَ المكرّمة فلم يَتحرَّك إليهِ أهْلهَا ولَم يُعظّمُوهُ فَغضِبَ عليهم وعَزَمَ على هَدمِ البَيتِ وأن يَقتُل رجَالَ الحَرَمِ ويَسْبِي نِساءهُ وذَرَارِيهِ، فأخَذهُ مَرضٌ في الحِينِ فلم يَقدِرْ عليه الأطبّاءُ واجْتمَعَ عنده الحُكمَاءُ قائِلينَ إنّ هَذا أمْرٌ سَماويٌّ ولا نَستطيعُ ردّ أمرِ السّماءِ ، وطَلبَ أحَدُ العُلماءِ الّذينَ كانُوا معه أن يَدخُــلَ على تُبَّعٍ وقال له هل نَويْتَ في هَذا البَيتِ أمْرًا ؟ قـَـــــالَ نعم نَويْتُ أن
أُخَرّبَهُ ، فقال إنَّ وَجَعَكَ وبَلاَءَكَ مِنِْ هذا ، فَاخْرِجْ مِن قَلـــبِكَ ما هَمَمْتَ به مِنْ أَذَى هَذا البَيْتِ ولك خَيرُ الدّنْيَا والآخِرة، فَفَعَلَ فلم يَخرُجْ العَالِمُ من عِندهِ حتّى بَرَأَ من العِلّةِ وآَمَنَ بالله وكَسَا البَيْتَ العَتِيقَ بالحبَراتِ وهي من جِيادِ الأقْمِشةِ اليَمانِيّةِ ونَحَرَ الإبِلَ هُناكَ ، ثمّ أرَادَ غَزْو يَثْربَ فأخبَرهُ حكمَاءُ زمَانهِ أنّها سَتكُونُ مُهَاجَرَ نَبِيّ الإسْلامِ سَيّدُنا محمّد عليه الصّلاةُ والسّلام ومُقامَهُ فِيهَا فَقصَدهَا تَيَمُّنًا وسَافَرَ إليهَا تَبَرُّكًا وَقالَ:
شهــــــــدت عـــــــــلى أحـــــــــمـــــد أنّه***رســـــــــــــــول مـــن الله بارئ النّســــــم
فلو مـــــــدّ عــــــــــمري إلى عمـــــــــره ***لكــــــــــــنت وزيــــــــــــرا له وابن عــــم
وجاهــــدت بالســــــــــــّيف أعــــــــــداءه ***وفرّجـــــــــت عـــــن صـــــــدره كـــلّ غم
ثمّ قال :
ونحرنا في الشـّـــعب ستّة آلاف***تــــــرى النّـــــــاس نحــــــورهـــنّ ورودا
[[كساء مخطط ]]وكسونا البيت الذي حــــــــرّم * الله مــــــــــــلاءة [[الملحفــــة]]معــــصبــــــا[[المتـــــوّج]] وبــــرودا
[[فرض الأمر إليه ]]وأقـــــمنا به مــــن الشّهــــر ستّا * وجعـــــــــــلنا لبــــــــــــابه[[اللباب هو الخالص ]] إقلــــــــــــــيدا
وخرجنا مـــــنه نؤمّ[[نقـصد]] سهيلا[[اهو النجم ويقصد به الرّسول ]] * قـــــد رفعـــــــــنا لـــــــــواءنا معقودا
ثمّ أراد الإنضمام لسلك العشّاق وتأكيد تمسّكه بالميثاق الّذي غدا يربطه بعليّ الهمم والأخلاق فخطّ كتابا مسطورا ظلّ على ممرّ الزّمان مذكورا أقرّ فيه الإيمان بسيّد ولد عدنان وتمنّى أن يكون له من جملة الخدّام جاء فيه :
أمّا بعد ، يا محمّد صلّى الله عليك إنّي آمنت بك وبكتابك الّذي أنزل الله عليك وأنا على دينك وسنّتك وآمنت بربّك وربّ كلّ شيء ،وبكلّ ما جاء من ربّك من شرائع الإيمان والإسلام وأنا قبلت ذلك فإذا أدركتك فبها ونعمت ، وإن لــم أدركك
فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني فإنّي من أمّتك الأوّلين وبايعتك قبل مجيئك وقبل إرسال الله إليك وأنا على ملّتك وملّة أبيك خليل الله صلى الله عليه وسلم وختم الكتاب بالذّهب. ونقش عليه “لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله” – وكتب على عنوان الكتاب : إلى محمّد بن عبد الله خاتم النبيئين ورسول ربّ العالمين صلوات الله عليه ، من تبّع الأوّل . ودفع الكتاب إلى الرّجل العالم الّذي نصح له في شأن الكعبة وأمره أن يحفظه ،وتوارثه أهل المدينة كابرا عن كابر إلى أن هاجر النّبىء صلى الله عليه وسلم إلى طيبة الغرّاء واستقرّ به المقام في دار أبي أيّوب الأنصاريّ حيث كان ذلك الكتاب محفوظا وحيث وقفت الناقة المأمـــــورة إيذانا بأنّ صـــلاح تبّع كان
مقبولا ،وإيمانه بالنّبي الهاشمّي من وراء حجاب السّنين كان مأمولا ،وخرج تبّع من يثرب وسار حتّى وصل إلى غلسان وهي بلدة من بلدان الهند فمرض بها ومات ،وعبرة هذه الوقائع العطرة أنّ بشائر النبوءة قد طلعت من بداية الزّمان فآمن بها كلّ من اجتباه الملك الديّان ، فشمس سنائه طالعة وأنواره على ممرّ القرون ساطعة يراها ذوو القلوب الخاشعة فتترقّى بهم إلى مقامات الإيمان الرائعة .
فصلّوا على سيّدنا محمّد وزيدوا في محبّته
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد سماحة وجوه الخاشعين، ورجاحة عقول السّالكين ، وطهارة نفوس العابدين .
متى يجمــــــــــع الرّحمان بيني وبينه ** فشــــــــــــوقي إليــــــــــه مقعـــــد ومقــــيم
مناي من الدّنيا أقـــــــبّل قبــــــــــــره ** وأبـــكـــــي ذنــــــوبا بيــــــــــــنهنّ أهيــــــم
مديحك ذخـــــري ثمّ زادي وعــــدّتي ** ليـــــــــــــوم بــــه يجـــــــفـو الحمــيم حميم
أيّها الأبرار تسقون الآن من رحيق مختوم ختامه مسك ، فاستمعوا إلى هذا الحوار اللّطيف الجميل بين الحقّ جلّ جلاله وبين حبيبه العزيز الأعلى : قال شرف الدّين عيسى السّهروردي رحمه الله :
لمّا ركب النبيء صلى الله عليه وسلم الرّفرف من النّور الأزهر تقدّم هو وجبريل تأخّر ، فزجّ به في الأنوار ، ورفعت له الأستار ، وسمع كلام الجبّار ، ياعروس الـمملكة ، ويا تاج منصّة الوجود ، ويا شمس الهداية والسّعود ، أنت أكرم النّاس علينا سل ما تريد فمنك السّؤال ومنّا العطاء وما على عطائنا مزيد ، فقال النّبيء صلى الله عليه وسلم ما الّذي أسأل وقد أسجدت لآدم الملائكة واصطفيته وزوجته حوّاء ، وفي الجنّة أسكنته فجاءه الخطاب يا محمّد لولا ما أشرق عليه نورك الّذي تقادم ما قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، قال الهي ما الّذي أطلب وقد جعلت إدريس نبيّا ورفعته مكانا عليّا فجاءه الخطاب بالجواب إنمّا رفع إدريس إلى السّماء لينظر إليك ويسير في هذه اللّيلة بين يديك ، قال الهي ما الّذي أطلب وقد استجبت دعوة نوح على أهل الطّغيان ونجيته في السّفينة من الطّوفان ، فقال لولا أنّه أقسم علينا بجاهك ، ما نجا هو ومن معه من المهالك سل تعط، قال الهي ما الّذي أطلب وقد اصطفيت ابراهيم خليلا وجعلت النّار عليه بردا وسلاما ، وفديت ابنه بذبح عظيم ، فجاءه النّداء يا أعزّ المخلوقات ويا أشرف الموجودات، لولا ما أشرق عليهما من نور وجهك الكريم ما نجا إبراهيم من نار النمرود ولا فدي ابنه بذبح عظيم ، ادع تجب ، قال سيّـــدي وما الّذي ادعــو وقد جــعلت
مــوسى كليما وكرّمته تكريما ، فجاءه النّداء يا أكرم من تمنّى ويا صاحب قاب قوسين أو أدنى موسى هدي في السّير بالنّار وخوطب على جبل ذي أحجار وأنت خوطبت على بساط الأنوار، في حضرة الملك الغفّار ، قل تسمع ، قال إلهي ما الّذي أقول وقد ألنت الحديد لداود وسيّرت معه الجبال واعطيت سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فجاءه النّداء يا أعلى موجــود سأسيّر معك
جبال النّصر والرّعب في الوجود وألين لك قلوب كالجلمود ، وأخصّك يـوم القيامة بالمقام المحمود سل تعط فقال إلهي ما الّذي أسألك وقد أيّدت عيسى بروح القدس وأظهرت له المعجزات يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذنك ، فجاءه النداء أنت طبيب تداوي أمراض الذنوب وتحي بك أموات القلوب قال يا ربّ فاقبل شفاعتي في عصاة أمّتي فجاءه الخطاب يا أعزّ الأحباب وعزّتي وجلالي أن عصوني سترتهم وإن استغفروني غفرت لهم ، وان استنصروني نصرتهم ، وان دعوني أجبتهم ولأسامحنّهم بما مضى ، ولأجودنّ عليهم بالرّضا.