بســـم الله الرّحمـــان الرّحيــــم
اللّهم صلّ وسلم على سيدنا ومولاناَ محمد سهل الأخلاق طيّب المعاش الذِي نجاهُ اللهُ مِنْ كل خائنٍ وَغَاش.
واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
يقول الله تعَالىَ في الذّكرِ الحكيم :يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاتِهِ والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. صدق الله العظيم
هذه آيةٌ عظيمة من آيات الذّكر الحكيم يأمُرُ اللهُ فيهاَ رَسُولَهُ العظيم صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرّسَالَةَ التي أكرمَهُ بها ويُطَمْئِنُهُ فيها عَلَى حَيَاتِهِ ويُعْلِمُهُ أنَّ الله تعالى حفظَهُ من جميعِ الأشياء التي تضُرُّهُ وتحزنُهُ ليتمكَّنَ من تبليغِ الرسالةِ المنوطَةِ بِعُهْدَتِهِ على أحْسَنِ ما يرَام ويقُول بلِّغْ رِسَالَتِي وَأَنَا حَافظك وناصركَ ومؤيِّدُكَ على أعدائك فلا تخف ولا تحزن. وهذه خاصيّة من خصائصه صلى الله عليه وسلم الشريفة أكرمَهُ الله بِهَا.
وسبَبُ نزول هذه الآية ما رواهُ مسلم في الصحيح عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت سَهِرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلَّمَ مقدَمَهُ المدينة ليلةً فقالَ ليتَ رَجُلاً صالِحًا مِن أصحَابي يحرسُنِي الليلة. قالَتْ فبينَمَا نحن كذلِكَ سَمِعْنَا خشخشةَ سِلاَحٍ (أيْ صوت سِلاَحٍ) فقالَ مَنْ هذا؟ قال سعد بن أبي وَقّاص , فقالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ مَا جَاءَ بِكَ؟ قال وَقَعَ فِي نفْسِي خَوْفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتُ أَحْرُسُهُ فَدَعَا لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَامَ . وفِي غير الصحيح قالت فبينَمَا نحن كذلك سمعت صوت السلاح فقال من هذا ؟ فقالوا سعد وحذيفة جئنا نحرسك فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبّته وقال انصرفوا أيُّهَا النّاس فقد عصمني الله.
وحفظ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام أزليٌّ أبديٌّ من يوم أن خلق الله نوره الشريف إلى الرّسالة إلى انتقاله إلى الرّفيق الأعلى, إلى ما شاء الله . ولنأخذ بعض المراحل باختصار .
حفظ الله لنوره الشريف : حفظ الله نور سيد الوجود صلى الله عليه وسلم حيث خلق منه كل خير وخلق بعده كلّ شرٍّ. وأجرى هذا النور في قنوات أهل التوحيد ولم يدخل في قناة مشرك أو مشركة قطُّ . قال الآجري كان النّكاحُ في الجاهلية على أنواعٍ غير محمودَةٍ ولم يَكُنْ فيها نكاحٌ صحيح غير وَاحِدٍ وَهُوَ الذِي أقرَّهُ الإسلام وشرَعَهُ النبىءُ صلى الله عليه وسلم بِوَلِيٍّ وَصَدَاقٍ وَشُهُودٍ فَرَفَعَ اللهُ تعالىَ قدرَ نبيِّنَا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا النكاح وصَانَهُ عَمَّا سِوَاه وَنقَلَهُ من الأصلابِ الطيّبَةِ إلَى الأرحَامِ الطاهِرَةِ من لَدُن آدَم عليه السلام حَتَّى أخرَجَهُ من صلبِ أبيه سيدنا عبد اللهِ إلَى بَطْنِ أُمِّهِ السيدة آمنة من غير سفَاحٍ وهْوَ معنَى قولِهِ تَعَالَى: وَتقَلُّبُكَ فِي السَّاجِدِين . وَرَوى أبو نعيم عن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَمْ يَلْتَقِ أَبَوَايَ قطُّ عَلَى سِفَاحٍ لَمْ يَزَلِ الله يُنْقِلُنِي مِنَ الأصلابِ الطيبَةِ إلَى الأرْحَامِ الطاهِرَة مُصَفَّى مُهَذَّبًا لا تتشعَّبُ شُعْبَتَانِ إلاَّ كنتُ فِي خَيْرِهِمَا.
حفظُ اللهِ لِرَسُولِهِ فِي صِبَاه : حَفِظَ الله سبحانَه وَتَعَالَى رَسُولَهُ الأعظم صلى الله عليه وسلم مِمَّا يفعَلُهُ صبيَانُ الجَاهلية من اللهوِ وَالتَرَفِ وغير ذلك مِنَ الأفعَالِ التِي لا تليق بسيِدِ الوُجود عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام حتَّى صَارَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا وأعظَمُهُمْ أَمَانَةً وأبعدهُمْ مِنَ الفحش تنزيهًا وتكريمًا حتَّى سمَّوْهُ قَوْمُهُ الأمين لِمَا جَمَعَ الله عزّ وجَلَّ فيه مِنَ الأمُورِ الصّالحة الحميدة وَالأفعَالِ السدِيدَة فكان صلى الله عليه وسلم الدوة الحسنة لجميع العالمين, فمن ذلِكَ ما رُوِيَ عن سيدنا عليٍّ كرََّمَ الله وجههُ قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: مَا هَمَمْتُ بقبيحٍ مِمَّا هَمَّ به أهْلُ الجَاهلية إلاَّ مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ كِلْتَاهُمَا عصمنِي الله عز وجَلَّ مِنْهُمَا , قلتُ لِفَتًى كان مَعِي من قريش بأعْلَى مَكَّةَ فِي غَنَمٍ ِلأَهْلِهِ يَرْعَاهَا أبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمَرَ هَذِهِ الليلَة بمكَّةَ كَمَا يَسْمَرُ الفتيانُ , قال نَعَمْ, فخرجتُ فَلَمَّا جئتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ غِنَاءً وَصَوْتَ دُفُوفٍ وَمَزَامِيرَ فقلتُ مَا هذا؟ فقالوا فلان قد تَزَوَّجَ بِفُلاَنَة فَلَهَوْتُ بذَلِكَ الصوت حتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إلاَّ مَسُّ الشّمس فرجعتُ إلَى صَاحِبِي فقال ما فعلتَ ؟ فأخبرتُهُ , ثمّ فعلتُ اللّيلة الأخْرَى مثل ذلِكَ . فقال صَلّى الله عليه وسلم والله مَا هَمَمْتُ بغيرِهِمَا بسُوءٍ مِمّا تفْعَلُهُ أهْلُ الجَاهلية . (قوْلُهُ :فلهوْتُ – أرَدْتُ أَنْ ألْهُوَ).
حفظ الله لِرَسُولِهِ مِنَ المشركين : عَصَمَ الله سبحانه وَتَعَالَى رَسُولَهُ العظيم صلى الله عليه وسلم من أهلِ مكة وَصنادِيدِهَا وَحُسَّادِهَا وَمُعَانِدِيهَا ومترفيها مَعَ شِدَّةِ العَدَاوَةِ والبُغْضِ وَنصب المحَارَبة له ليلا ونهارا فصانه الله في ابتداء الرّسالة بعمه أبي طالب إذْ كان رئيسا مطاعا وخلق الله في قلبه محبّة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها ولكن لمّا كان بينه وبينهم قدْرٌ مشترك في الكفر هابوه واحترموه. فلما مات عمه أبو طالب أراد المشركون إيذاءه فحفظه الله منهم , فمن ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما لـمّا نزلت : وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصّفا , فهتف يا صبَاحَاهُ , فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد فاجتمعوا إليه . فقال يا بني فلان , يا بني فلان , يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه . فقال أرأيتَكُمْ لوْ أخبرْتُكُمْ انَّ خيْلاً تخْرجُ بسفح هذا الجبل أكنتم مصدِّقِيَّ ؟ قالوا ما جرَّبْنَا عليْكَ كَذِبًا. قال فإنّي نذيرٌ لكم بين يدَيْ عذَابٍ شديدٍ, فقال أبو لهب تبًّا لكَ ما جمعتنا إلاَّ لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السّورة . تَبَّتْ يَدَى أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ . فلمّا سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن, أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكرٍ رضي الله عنه وفي يدها فهر من حجارة , فلمّا وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا ترى إلاَّ أبا بكر فقالت يا أبا بكر إنّ صاحبك قد بلغني أنّه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهرِ فاهُ (الفهر: الحجر ملء الكف) قالت والله إنّي لشاعرة. مذمَّمًا عصينا , وأمره أبينا , ودينه قَلَيْنَا . ثم انصرفت فقال أبو بكر يَارَسولَ الله أما تراهَا رأتكَ ؟ قال ما رأتني لقد أخذ الله بصرها عنّي . وكانت قريش تسمي رسول الله مُذَمَّمًا ؛ يسبّونه . وكان يقول أَلاَ تَعْجَبُونَ لِمَا صَرَفَ الله عنّي من أذى قريشٍ يسبُّونَ مذمَّمًا وأنا محمد.
وجاء في دلائل البيهَقِي والسّير أنّ أبا جهل قال يا معشر قريش إنّ هذا الرّجل قد أبى إلاّ ما ترونَ من عيبِ ديننا وشتم آبائنا وآلهتنا وتسفيه أحلامنا وإنّي أعاهد الله لأجلسنَّ غدًا عند الحجر بحجرٍ ما أطيقُ حَمْلُهُ فإذا سَجدَ رضخْتُ به رأسهُ فامنعوني وليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم فقالوا والله لانُسْلِمَكَ لأحدٍ فامض لما تريد فلمّا أصبح جلس ينتظرهُ صلى الله عليه وسلم وجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما هوّ فاعل , فلمّا جاء صلى الله عليه وسلم , وصلّى جاء أبو جهل (فرعون هذه الأمة) بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون ليطرحها عليه فلزقت بيده ويبست يداه إلى عنقه وأقبل يرجع القَهْقَرَى إلى خلفه , ثمّ سأله أن يدعوَ لهُ ففعل (أي دعا له صلى الله عليه وسلم لكرمه وحلمه) فانطلقت يداه وكان قد تواعد مع قريش بذلك وحلف لئن رآه ليدمغنّه فسَأَلُوهُ عن شأنه , فذكر أنّه عرض لي دونه فحل ( أي جمل عظيم هائج) ما رأيت مثله قطّ همّ بي أن يأكلني . فقال صلى الله عليه وسلم ذلك جبريل لو دنا لأخذه.
وروي أن شيْبَةَ الحجَبِيَّ أدْركَهُ صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكان حمزة قد قتل أباه وعمّه فقال اليوم أدرك ثأري من محمد فلمّا اختلط النّاس أتاه من خلفِهِ ورفَعَ سيْفهُ ليَصُبَّهُ عليه, قال لمّا دنوْتُ منه ارتفع إليّ شُوَّاظٌ من نارٍ أسرع من البرق (الشوّاض هو اللهب من النّار الذي لادخان معه), فولّيت هارباً وأحسَّ بي النبىء صلى الله عليه وسلم فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إليّ فما رفع إلاّ وهو أحبُّ الخلق إليّ وقال لي أدن فقاتل فتقدّمت أمامه أضرب بسيفي وأقيه بنفسي ولوْ لقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه.
وجاء في سيرة ابن سيد النّاس بسند صحيح مَرْوِيٍّ عن شيبة وأنّه إنّما سارَ لحنيْنٍ ليَغْتَال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّمَ لكراهته له فلمّا اختلط النّاس نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فدنوت منه وذكر ما همّ به. وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسح صدره وقال اللهمَّ أعذه من الشيطان, فأذهب الله ما بقلبه حتّى صار أحبّ إليه من نفسه وأهله وأبيه , فلمّا رجع ودخل خبأه فدخلت عليه كغيري حبّا لرؤية وجهه فقال يا شيب الذي أراد الله بك خير ممّا أردت بنفسك وحدّثني بكلّ ما أضمرته في نفسي ممّا لمْ أذكره فقلت إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله, ثمّ قلت استغفر لي فقال غفر الله لك.
وجاء عن فَضَالة بن عمرو قال أردت قتل النبىءصلّى الله عليه وسلم عام الفتح وهو يطوف بالبيت فلمّا دنوت منه قال أفضالة؟ قلت نعم. قال ما كنت تحدّث به نفسك قلت لا شيء. فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري فسكن قلبي فوالله ما رفعها حتّى ما خلق الله شيئا أحبَّ غليَّ منْهُ , ثمّ قال فرجعتُ إلى أهلي ومررْتُ بامرأةٍ كنتُ أتحدّثُ إليْها فقالت هلُمَّ إلى الحديث فقلت لا وانبعثت أقولُ.
قالت هلمَّ إلى الحديث فقلت لا * يأْبَــى عليْكَ اللهُ والإسلامُ
أومـــاَ رَاَيْتِ محمّدًا وقبيلَهُ * بالفتح يوْمَ تُكَسَّرُ الأصنــام
ورأيتِ دينَ اللهِ أضْحى بيّنًـا * والشرْكُ يغشى وجهه الظلامُ
حفظُ الله للرسول بسبب الملائكة : حفظ الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بسبب الملائكة الكرام. أخرج الوَاقدِي وابن عساكر عن عبد الرحمان بن عوف قال رأيت يومَ بدْرٍ رَجلين لا أعرفُهُمَا عن يمين النبىء صلى الله عليه وسلم أحدهما , وعن يساره أحدهما يقاتلان أشدّ القتال ثمّ ثلّثَهُمَا ثالث من خلفه ثمّ رَبّعَهُما رابعٌ أمامه. وأخرج ابن سعد عن عطية بن قيس رضي الله عنه قال لمّا فرغ الرّسول صلى الله عليه وسلم من قتال أهل بدر جَاءَهُ جبريل على فرس أُنثى حمراء عليه درعُهُ ومعه رمحهُ فقال يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارِقَكَ حتى ترضى هل رضيت؟ قال نعم رضيتُ فانصرف .
حفظ الله للرسول بعد انتقاله إلى الرّفيق الأعلى: رُوي أن الملك نور الدّين الشّهيد (1) رأى النبىءَ صلى الله عليه وسلم في نومه في ليلة ثلاث مرّات وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول انجدني أنقذني من هذين فأرسل إلى وزيره وتجهزا في بقية ليلتهما على رواحل خفيفة في عشرين نفر وصحب مالا كثيرًا وقدم المدينة في ستة عشر يومًا فزارَ ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم وصار يتصدّقُ عليهم ويتأمّلُ تلك الصفة إلى أن إنفضت الناس فقال هل بقي احدٌ قالوا لمْ يبق سوَى رجلين صَالحين عفيفين مغربين يكثران الصدقة فطلبهُمَا فرآهما فإذا هُمَا الرّجلان اللذان أشار إليهما النبىء صلى الله عليه وسلم فسأل عن منْزلِهِمَا فأُخْبِرَ أنهُمَا في رباطٍ بقرب الحجرة فأمسكهما ومضى إلى منْزلِهِمَا فلم ير إلاّ خَتمَتَينِ وكُتُبًا في الرّقاقِ ومالاً كثيرًا فأثنىَ عليهما أهل المدينة بخير كثيرٍ فرفع السلطان حصيرًا في البيت فرأى سردابًا محفورًا ينتهي إلى صوب الحجرة فارتاعت الناس لذلك . وقال لهم السلطان أصدقاني وضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شدِيدًا فاعترَفا أنّهُمَا نصْرَانيّانِ بعثهما سلطان النصارى في زِيِّ حجّاجِ المغاربة وأمَالَهُمَا بأموالٍ عظيمة ليتحيّلاَ في الوُصُولِ إلى الجناب الشريف ونقلِهِ وما يترتّبُ عليه فنَزَلاَ بأقربِ رباطٍ وصارا يَحْفِرَانِ ليلاً ولكُلٍّ منهما محفظةُ جِلْدٍ , والذي يجتمع من التراب , يخرجانه في محفظتيهما إلى البقيع بعلة الزيارة فلمّا قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجيف عظيم فقَدِمَ السلطان صبيحة تلك الليلة, فلمّا ظهر حالهما بكى بكاءً شديدًا وأمر بضرب رِقَابِهِمَا فقُتلا تحت الشبّاك الذي يلي الحجرة الشريفة ثم أمر بإحضار رصاص عظيم وحفرَ خندَقًا عظيمًا إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذيب ذلك الرصاص وملئَ به الخندق فصار حول الحجرة الشريفة سورًا صالِحًا إلى الماء.
وهكذا حفظ الله رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم في جميع مراحل حياته وبعد انتقاله إلى الفيق الأعلى إلى يوم القيامة فلا يمسّه أحدٌ بسوءٍ دائمًا بدوام الله. وكذلك كل من تشبث بتعاليمه وَاَحبه محبة خالصة قوية يكون محفوظا لأن التّابع ينسحب عليه ماينسحب على المتبوع.
وفي هذا القدر كفاية. والله يتولانا وإياكم بعين الرّعاية
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ـــــــــــــــ
(1): هو الملك العادل نور الدّين أبو القاسم محمود زنكي الملقب بالشهيد ولد في 17 شوال سنة 511 هـ بحلب . وتعلم القرآن والفروسية, وكان شهما شجاعا ذا هِمَّةٍ عاليَةٍ وافتتح دمشق فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد, وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقهاء ويحترمهم ويحسن إليهم مقتصدًا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس . قال ابن الأثير لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نورالدّين , انتقل إلى رحمة الله يوم الإربعاء 11 شوّال عن ثمانٍ وخمسين سنة , مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة, وصُلّي عليه بجامع القلعة بدمشق, رحمه الله رحمة واسعة وأحسن إليه.
ـــــــــــــــ
المراجع: (تفسير القرطبي) ج 6 ص244 وج 20 ص 234,
(تفسير ابن كثير) ج2 ص 78,
(شرح الشفا) ج3 ص247 و 241
(كتاب الشفا) ج1 ص228 و231 (كتاب حجة الله على العالمين) ص383 و221 و385 ,
(كتاب جواهر البحار) ج4 ص60 ,
(كتاب السيرة الحلبية) ج1 ص117 ,
(كتاب البداية والنهاية) ج12 ص277 وما يليها.