يقولُ العَلاّمَة المُنَعَّم، الشيخ الطّاهِر بن عاشور، رَحِمَه الله، في تفسير معاني المَحَبَّة:
“وَمَحَبّة اللهِ عَبْدَهُ رِضاهُ عَنهُ، وتَيْسِيرُ الخَيْر لَهُ،
وَمَحبّة العَبدِ رَبَّهُ انفعالُ النّفس نَحوَ تعظيمِهِ، والأنسُ بِذكره، وامتثالُ أمْرِهِ، والدّفاعُ عَن دينِهِ. فَهي صفةٌ تَحصلُ للعَبد مِن كَثْرة تَصوّرِ عَظَمَةِ الله، تعالى، ونِعَمِهِ حتّى تَتَمَكّنَ مِن قَلبِه، فَمَنْشَؤُها السَّمعُ والتّصوُّرُ .
ولَيست هِي كَمَحَبّة اسْتِحْسانِ الذّات،
ألا تَرى أنّا نُحبُّ النّبيءَ، صلى الله عليه وسلَّم، مِن كَثرَة ما نَسْمَعُ مِن فَضائِلِهِ وحِرْصِهِ علَى خَيْرنا في الدُّنْيا والآخِرَة ، وتَقْوَى هذه المحبّةُ بِمقْدار كَثرَة مُمارَسَةِ أقوالِه وذِكر شمائلِه وتَصرّفاته وهَدْيِهِ.
وكذلك نحبُّ الخلفاءَ الأرْبعةَ لكثرة ما نسْمع مِن حُبّهِم الرسولَ، ومن بَذلهم غايَةَ النُّصحِ في خَيرِ المُسْلِمين (…).
وقَد قَالت هندُ بنتُ عتبةَ، امرأةُ أبي سفيانَ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم،: “مَا كانَ أهلُ خِباءٍ (أي الخيمة) أحبَّ إليّ من أن يذلّوا من أهلِ خِبائكَ، وقد أصبحتَ وما أهلُ خِبَاءٍ أحبَّ إليَّ مِن أنْ يعزّوا من أهل خِبائِكَ”.
انتهى كلام الشيخ، رضيَ الله عنه، من التحرير والتنوير، جُزء 6، ص. 235
قلت :
ولا يَحْصلُ حبُّ العَبدِ المُؤمنِ لِلَهِ إلاَّ بِسَبْق العِنايَة الأزليَّة، ونَظرةِ الرِّعايَة الربَّانِيّة. وما كانَ لِقَلْبٍ أنْ يَتَشَرَّفَ بمحبَّةِ سَيِّدهِ ومَولاهُ إلاَّ إذا شَرَّفَهُ بذلكَ الواحدُ الأحدُ بسابِق العِلمِ والاجْتِباء، ثمَّ تَجَلَّى عَليه الله تَعالى – في الحَياة الدُّنيا- باسْمِهِ الوَدُود . فإذا أحبَّ اللهُ عبدًا هَيَّأَ قَلْبَهُ للمَوَدَّة، واصطفاهُ للخُلَّةِ، ثمَّ أخْلاه مِن العَلائِقِ وهداهُ – في الحبِّ- إلى أقْوَم الطّرائقِ. والحَقُّ أنَّ قلبَ المُؤمنِ لا يَميلُ لربّه إلاَّ بعدَ أن يُقْدِرَهُ عَلى خِطابِه ويختارهُ لِجنَابِهِ.
وأمَّا مَحبَّةُ رسولِ اللهِ، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَهي وسيلةُ تلكَ العِنايَة، ومَطيَّة التَشرّف بحُسنِ الرِّعاية، فهْيَ البَلسم والبُرء والمُنى، وَلا تَحْصلُ فِي القلب إلاَّ بنظرةٍ من الله أزليّةٍ، فيها فَضْلُ اجتِباء وكَرامةُ اصْطِفاءِ، وبهَا كانَ ما كانَ لأبي بكرٍ، رَضِيَ الله عنه، من مَقام الصدِّيقيَّة، بل بها نالَ كلُّ صحابيٍّ وتابعيٍّ ما نالَ منَ لَطائِفِ الارْتِقاء. فما عِزٌّ أعزُّ مِن مَحبَّة اللهِ ومَحَبَّة حَبيبِ الله، ولا تكونُ هذه ولا تلكَ إلاَّ بِسابقيّة الرعاية والفَضْلِ. فارْزُقنا اللهمَّ حبَّكَ وحبَّ حبيبكَ. آمين.
ن. المدني
باريس، 10 جويلية 2013.