بسم الله الرحمن الرحيم
“ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19) ”
يقولُ العلامة المُنَعم، سَيّدي الشيخ الطّاهِر بن عاشور، قدّس الله سرَّهُ ونَوّرَ ضريحَه، في تفسير التّحرير والتّنوير (الجزء 29، ص. 350، طبعة دار سحنون)
“هذه الآيةُ وَقَعَت هنا مُعتَرِضَةً. وسَبَب نُزولِها ما رَواهُ البُخَاريُّ ومُسلم عَن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه قالَ: «كانَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذَا نَزلَ عَلَيه القرآنُ يُحَرِّكُ بِه لسانَه يُريد أن يحفَظَه مَخافةَ أن يتَفَلَّتَ مِنْه، أو مِن شِدَّةِ رَغْبَته في حِفْظه، فكان يُلاقي من ذلكَ شِدّةً. فأنَزَل الله تعالى: ” لاَ تُحَرِّكْ به لسانَكَ لتَعْجَل بِه إِنَّ علينا جَمعَه وقرآنه “. قالَ: جَمْعَهُ في صَدركَ ثم تَقْرَأُه فإذا قرأنَاه فاتّبعْ قُرْآنه قالَ: فاستَمِعْ له وأنْصِتْ، ثم إنَّ عَلينا أنْ نُبَيِّنَه بلسانِكَ، أي أنْ تَقرأه» اهـ. (…).
والذي يَلوح لي في موقِع هذه الآية هُنا دَونَ أن تقعَ فيما سبقَ نزولُهُ من السُّوَرِ قَبلَ هذه السورة: أنَّ سورَ القرآن حين كانت قليلةً كان النَّبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّمَ، لا يَخشى تفلّتَ بَعضِ الآياتِ عَنه، فلمَّا كَثُرَت السُّوَر فَبَلَغَت زهاءَ (أي قرابةَ) ثلاثينَ حَسَبَ ما عَدَّه سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ في تَرتيب نزول السُّورِ، صارَ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، يَخشى أنْ يَنسى بعضَ آياتِها، فلَعَلَّه، صَلَّى الله عليه وسلم، أخَذ يُحَرِّك لِسانَه بألفاظ القرآنِ عندَ نُزوله احتياطاً لِحِفْظِهِ وذلك مِن حِرْصِهِ على تَبليغ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ بِنَصِّهِ، فلما تكَفَّلَ الله بحفظه أمرَه أن لا يكلِّفَ نفسه تَحريكَ لسانه، فالنَّهْيُ عَن تَحريكِ لِسانِه نَهْيُ رَحْمَةٍ وشَفَقَةٍ لمَا كانَ يُلاقِيهِ في ذلكَ مِن الشِّدَّة “. (انتهى كلام الشيخ ابن عاشور).
قلت: ويَكفي رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، شرفًا، وله أن يتيهَ على الأكوان فخرًا لأنَّ الله تَعالى قَطعَ كلامَه القديمَ حتَّى يؤنِّسَ قلبَه اللّطيفَ ويُطَمْئِنَ فؤادَه الشريفَ، ويذكّره بأنّه تعالى هو الضّامن لِجَمع الآيات وإجرائِها على لِسانه، صلَّى الله عليه وسلَّم، على الوَجه الأكمل، وذلكَ حتَّى لاَ يشتدَّ على نَفسِه الغالية ولا يُرْهِقها مِن أمْرِها عُسرًا، مَادَامَ الحقّ تعالى بذاته الأحديّة هو الذي تَكَلَّفَ بحفظ القرآن وإقرائِه للعالمينَ على لِسان نَبِيّه. ثمَّ زاد الله هذا التَّشريفَ بَهاءً فجعلَ مُؤانَسَة النبيّ والترفّقَ به جُزءًا مِن القرآن، في هذه السورة، يُتْلى إلى قيام السَّاعة.
والمعلومُ أنْ لا تَراتُبَ في كلام الله، فهو في القِدَمِ نَسقٌ واحدٌ، ولكنْ في قَطْع الله لحديثه الأول- في بِداية السورة- دلالة على أصَالَة الشَّفقة برسول الله وإيماءٌ إلى أنَّ طمْأنَة القلب الشريف آكد من تَبليغ مُرادِ الله، بل هي عينُ مراد الله، إذ مُراعاةُ مواثيقِ الوداد مُقَدَّمَة على تبليغ مَعانِي الرّشاد، ومَن لأجله قُطِعَ الكلام الأزليّ حَرِيٌّ أنْ يُعَدَّ عند الله بالمكانِ السَنِيّ.
ن. المدنيّ.
باريس 2 جوان 2013.