ومِن بَيْن مَناهِج التَّربِية الروحيَّة التي اعتَمَدَها الشيخ سيِّدي محمد المدني، رَحمه الله، أنَّه كان يَطلب من الفقراء حفظَ بَعضِ المُختارَات الرَّاقية، لِتَمَثُّلهَا والعمل بها وتلاوتها في المُناسَبات. ومِن ذلكَ، أنَّه طَلبَ منهم حفظَ وَصيّةِ سَيِّدنَا عَلي بن أبي طَالِبٍ، للكُمَيْلِ بنِ زيادٍ، رضي الله عنهما. وقد اشتَهَرَ بتلاوتِها، في احتفال المولد النبوي الشريف، سيدي الشيخ الطاهر عبد الهادي، رَحِمَه الله، ونَحن نَتبرَّكُ بعَرْضِ هذه الوصيّة الفاخرَة لما فيها من العِبَر والمُذاكَرَات النَّافعة.
1- عن كُمَيل بن زياد النَّخَعِي قال :
2- أخَذَ عَليٌّ بِيَدي، فَأخْرَجَنِي إلى نَاحِيةِ الجُبَّان، فَلَمَّا أَصْحَرنَا، جَلَسَ، ثَمَّ تَنَفَّسَ، ثم قالَ :
3- يا كُمَيلَ بنَ زيادٍ القُلُوبُ أوعيةٌ ؛ فَخَيْرُها أوْعاها، احْفَظْ ما أقولُ لَكَ :
4- النَّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعالِمٌ رَبَّانِيٌّ، ومُتَعَلِّمٌ عَلى سَبيلِ نَجَاةٍ، وهَمَجٌ رَعاعٌ، أتْباعُ كلِّ ناعِقٍ، يَميلونَ مَع كُلِّ رِيحٍ، لَم يَسْتَضِيئوا بِنُور العَلمِ ولم يَلجَأوا إلى رُكنٍ وَثِـيقٍ.
5- العِلمُ خَيرٌ من المالِ، العِلْمُ يَحْرُسُكَ وأنْتَ تَحرُسُ المالَ، العلمُ يَزُكو على العَمَلِ، والمال تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، العلمُ حَاكِمٌ، والمال مَحكُومُ عَلَيْه، وصَنيعَةُ المالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ،
6- ومَحَبَّةُ العالم دِيْنٌ يُدانُ بها .
7- العلمُ يُكْسِبُ العالِمَ الطَّاعةَ في حَياتِه، وجميلَ الأُحْدُوثَةِ بَعدَ مَوْتِهِ، وصَنيعةُ المال تَزولُ بِزَوَالِهِ،
8- مَاتَ خُزَّانُ الأَموالِ وَهمُ أَحْيَاءٌ، والعلماءُ بَاقُونَ مَا بَقِي الدَّهْرُ، أَعْيَانهم مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُم في القُلُوبِ مَوجُودَةٌ ،
9- هَا إنَّ هَهُنا ـ وأشار بيده إلى صَدْرِهِ ـ عِلْماً لو أَصَبْتُ لَه حَمَلةً !
10- بَلى، أصَبْتُهُ لَقِناً غَيرَ مَأمُونٍ عليه، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّين للدُّنيا، يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ، وبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ،
11- أَو مُنقَاداً لأَهْلِ الحَقِّ، لا بَصِيرَةَ لَهُ في إِحْيَائِهِ، يَقْتَدِحُ الشَّكُّ في قَلبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لا ذَا، ولا ذَاك.
12- أَو مَنهُومٌ باللَّذَّةِ، سَلِسُ القِيادِ للشَّهَواتِ، أو فَمُغْرًى بِجَمْع الأمْوالِ، والادِّخَارِ،
13- لَيْسا مِن دُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِما الأَنعَامُ السَّائِمةُ، كَذلكِ يَموتُ العلمِ بموتِ حَامِلِيهِ،
14- اللَّهُمَّ بَلَى ! لَن تخْلُوَ الأَرضُ مِن قَائِمٍ للهِ بحُجَّةٍ، لِكَي لا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ ، أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا، بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ حُجَجِهِ، حَتَّى يُؤَدُّوهَا إِلَى نُظَرَائِهِمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ ،
15- هَجَمَ بهم العلمُ عَلَى حَقِيْقَةِ الأَمْر ، فَاسْتَلانُوا مَا اسْتَوعَرَ مِنه المُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بما اسْتَوحَشَ منه الجَاهِلُونَ، وَصَاحَبُوا الدنيا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بالمَحلِّ الأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي بِلَادِهِ، وَدُعَاتُهُ إِلَى دِينِهِ،
16- هَاهْ هَاهْ شَوقاً إلى رُؤيَتِهِم،
17- وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكَ، إِذَا شِئتَ فَقُمْ.
أخْرَج هذه الوَصيّة أبو نعيم في «الحلية» (1/79) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/49) و«جامع بيان العلم» (2/112) و «البداية والنهاية» (9/47).
ن. المدني، الزاوية المدنيّةـ باريس.
5 نوفمبر 2012.