والصلاة والسلام على أفضلِ الناطقين بالحِكْمَة، سَيِّدنا مُحَمَّدٍ نَبيِّ الرَّحْمَة.
هذه نُبْذَةٌ شافِية من الحِكَمِ العالِية التي أجْرَاهَا اللهُ عَلَى لِسانِ سَيِّدي الإمام الجُنَيد، رَضِيَ اللهُ عَنهُ وأرْضاه، وفيها دلَّ عَلَى سَبيلَ المَعرفَةِ وأبَانَ طرائق الأدَب مع الله وكَيفيات السير إليه. والطريقة المدنية إنَّمَا تَنْهَلُ مِن هَذَا العِلم الجَمّ والحِكَم اللطيفة ما تستنير به في سعيها إلى الله عزَّ وَجلَّ.
1. لَو أنَّ العِلمَ الذي أتَكَلَّمُ بِه مِن عندي لَفَنِيَ وَلَكنّه من الـحَقِّ بَدَا وإلَى الـحَقِّ يَعُودُ.
2. سئل الجُنَيْد: كَيف الطريقُ إلى الله تَعَالَى؟
فَقَالَ: تَوْبةٌ تَحُلُّ الإصْرَارَ، وخَوْفٌ يُزيل الغِرَةَ (الاغْتِرار) ورَجَاءٌ مُزْعِجٌ (دافعٌ ومُشَجِّعٌ) إلَى طريق الخَيْرات، ومُرَاقَبَةُ اللهِ فِي خَواطِرِ القُلوبِ.
3. اعْلَمْ أنَّه إذَا عَظُمَت فيك المعرفة بالله وامتلأَ من ذلك قلبُكَ وانْشَرَحَ بالانْقِطاع إلَيْه صَدْرُكَ وَصَفَا لِذكرِه فُؤادُكَ واتَّصَلَ بِاللهِ فَهْمُكَ ذَهَبَتْ آثارُكَ وامتُحِيتْ رُسومُكَ واسْتَضاءَتْ بالله عُلُومكَ فَعِندَ ذَلكَ يَبدو لَكَ عِلْمُ الحَقِّ.
4. عِلمُنا هذا مُقيّدٌ بالكتابِ والسُنّة فَمَنْ لم يَسْمع الحَدِيثَ ويَجَالِس الفُقَهاء ويأخُذ أَدَبَهُ عَنِ المُتَأدّبِين أَفْسَد مَنِ اتَّبَعَه –” قُلْ هَذه سَبيلي أدْعُو إلَى اللهِ عَلَى بَصيرَةٍ أنا وَمَن اتَّبَعني” (يوسف: 108).
5. طَريقُ الحَبيب إمَّا بالعِلم أو بالسُّلوكِ، والسُّلوكُ بلا عِلْمٍ وإنْ يَكُنْ حَسَنًا، فَهو جَهْلٌ ونَقْصٌ، وإذَا كَانَ العِلمُ مَع السُّلوك فَهو عِزٌّ وَشَرَفٌ.
6. أَضَرُّ مَا عَلى أَهْلِ الدِّيانَات الدَّعَاوَى.
7. العِبَادَةُ عَلَى العَارِفينَ أحسَنُ مِنَ التِّيجانِ عَلَى رُؤوسِ المُلُوكِ.
8. لَو أَقبَلَ صَادقٌ عَلَى اللهِ أَلفَ أَلفِ سَنةٍ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهُ لَحظةً، كَانَ مَا فَاتَه أكثرَ مِمَّا نَالَه.
9. إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الجُنَيْد الطريقَ، يَقولُ لَه: اذْهَبْ فَاخدِمِ الملوكَ ثم تَعالَ، فَإنَّ بِدايَةَ طَريقِنَا نِهايَةُ مَقامِ بَعضِ المُلوك.
10. سُئِلَ الجُنَيدُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، بِمَ يَتَقَرَّبُ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَى اللَّهِ، فَقُلْتُ : بِعَمَلٍ صَفِيٍّ فِي مَكَانٍ خَفِيٍّ بِمِيزَانٍ وَفِيٍّ.
11. سُئلَ الجُنَيد عن الحقيقة فَقَالَ: أَذْكُرُهُ ثمَّ أَدَعُ هَذا وهَذَا (أي كثرة السؤال والحِجَاجِ).
12. أَبَتِ الحَقَائِقُ أنْ تَدَعَ للقُلوبِ مَقالَةً للتَّأويلاَتِ .
13. إنَّ الحَقَائقَ اللاَّزمَةَ، والقُصودَ (جَمْع قَصد: أي همَّةٌ وتَوَجُّه) القَويّة المُحْكَمة، لم تُبقِ عَلَى أهْلِهَا سَبَباً إلاَّ قَطَعَتْهُ، ولا مُعْتَرِضاً إلاَّ مَنَعَتْهُ، ولاَ تَأويلاً مُوهِناً لِصِحَّة المُراد إلاَّ كَشَفَتْه، فَالحَقُّ عِندهم لِصحة الحال مُجَرّد، والجِدُّ في دَوامِ السَّيْر مُحَدَّد، على بَراهينَ من العِلم واضِحَة، ودلائلَ من الحَقِّ بَيّنَةٌ.
14. مَا أَخَذْنَا التَّصُوَّفَ عَنِ القِيلِ وَالقَالِ، لَكن عَن الجُوعِ وَتَرْكِ الدُّنيَا، وَقَطعِ المألوفَاتِ وَالـمُستَحْسَنَاتِ، لأنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ صَفَاءُ الـمُعَامَلَةِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ العُزُوفُ عَن الدُّنيَا كَما قَالَ الحَارث (صَحَابِيٌّ جليل): “عَزَفَت نَفسي عن الدنيا فَأَسْهرتُ لَيلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَاري.
15. زار الجريريُّ الجُنَيد فَوَجَدَه يُصَلِّي، فَأطالَ، فَلامَهُ، فَقالَ الجُنَيد: طَريقٌ (أي كثرة العبادة والنَّوافل) عَرفْنا بها رَبَّنَا لاَ نَقْتَصر عَلَى بَعضِها، فالنَّفسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ والصَّلاةُ صِلَةٌ، والسُّجودُ قُرْبَةٌ، ومَن تَركَ طَريقَ القُرْبِ أوْشَكَ أنْ يَسلكَ طَريقَ البُعْدِ.
16. التَّصَوُّفُ تَصْفِيةُ القَلب عَن مُوافَقَةِ البَريّة (أي عامَّة النَّاس) ومُفَارَقَة الأخْلاق الطَّبِيعيّة (الشَّهوة والغَضَب) وإخْمَادُ الصِّفات البَشَريَّة ومُجَانَبَةُ الدَّواعِي النَّفْسَانِيَّة ومُنَازَلَةُ الصِّفَاتِ الرُّوحَانِيَّة والتَّعَلُّق بالعلوم الحقيقيّةِ واسْتِعْمال مَا هو أوْلَى عَلَى الأبَديّة، والنُّصح لِجَميع الأمَّة، والوَفاءُ لِله عَلَى الحَقيقَة واتِّبَاع الرَّسول في الشَّريعَةِ.
17. مَنْ ظَنَّ أنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ المَجْهودِ فَمُتَعَنٍّ (أي مُتْعِبٌ نَفْسَهُ) ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ المَجهود فَمُتَمَنٍّ. (وتنسب هذه الحكمة إلى أبي سَعِيدٍ الْخَرَّازَ).
18. سُئِلَ عَن التَّصوّف فَقال: اسمٌ جَامِعٌ لِعَشرة مَعانٍ. الأولُ: التَّقَللُ مِن كلِّ شَيءٍ من الدنيا عن التكاثر فيها، والثاني: اعتِمادُ القَلبِ عَلَى اللهِ عزَّ وَجَلَّ من السكون الى الأسباب. والثالث: الرغبة في الطَّاعَات منَ التَّطَوّع في وُجودِ العَوافي. والرابع: الصَّبر عن فَقد الدنيا عن الخروج الى المسألة والشكوى. والخامسُ التَّمييز في الأخذِ عَن وُجودِ الشَّيءِ. والسّادس: الشغل بالله عَزَّ وجَلَّ عن سائر الأشغال. والسابع: الذِّكرُ الخَفِيُّ عَن جَميع الأذكار. والثَّامنُ تَحقيق الإخْلاص في (أي عندَ) دُخول الوَسْوسَة. والتَّاسع: اليَقينُ فِي (أي عندَ) دخولِ الشَّكِّ. والعاشِر: السُّكونُ إلَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، مِن الاضطراب والوَحشة. فإذَا اسْتَجْمَع هَذه الخِصالَ اسْتَحَقَّ بها الاسمَ وإلاَّ فَهوَ كَاذبٌ.
19. عِلْمُنَا مَحْفوظٌ أنْ يَأْخُذَهُ غَيْرُ أهْلِهِ.
20. لَوْ رَأيتم رَجلاً قد تَرَبَّعَ في الهواء ومَشَى عَلى المَاء، فَلا تَلتَفتوا إليه حَتَّى تَروا صُنْعَه عند الأمْرِ والنَّهْي، فإنْ رَأَيْتُموه عَامِلاً بالأمْر، مُجْتَنِبًا لِمَا نُهِيَ عَنه فَاعتقدوه واقتدوا به وإنْ رَأيْتُموهُ يُخلّ بالأوامِرِ ولاَ يَجتَنبُ المَنَاهي فَاجْتَنِبوهُ.
21. الطُّرُق كلّهَا مَسدودَةٌ عَلَى الخَلْق، إلا عَلَى مَن اقْتَفَى (أي اتَّبَعَ) أثَرَ الرَّسولِ، واتّبَعَ سُنَّتَهُ ولَزِمَ طَريقَتَه فإنَّ طُرُقَ الخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفتوحَةٌ عَلَيهِ.
22. مَن لَم يَحْفَظْ القرآنَ ولَم يَكتبِ الحَديثَ، ولم يَتَفَقَّه، لايُقْتَدى به في هذا الأمْر لأنَّ عِلمَنَا مُقَيَّدٌ (وفي رواية مُشَيَّد/ محفوظٌ) بالكِتَابِ والسُنَّة.
23. يَا ابنَ آدَمَ دينَكَ دينَكَ ! نَعوذُ باللهِ مِنَ النَّار فَإنَّهَا نَارٌ لا تَنْطَفيء وَعَذابٌ لا يَنْفَذُ أبَدًا، ونَفسٌ لا تموتُ. يا ابنَ آدَمَ: إنَّكَ مَوقُوفٌ بَينَ يَدَيِ اللهِ رَبِّكَ، وَمُرْتَهَنٌ لِعَمَلِكَ. فَخُذْ مِمَّ فِي يَدَيْكَ لِما بَينَ يَديكَ عند الموت يأتيك الخيرُ، إنَّكَ مَسؤولٌ ولا تجدُ جوابًا. إنَّكَ مَا تَزالُ بِخَيْرٍ مَادمتَ وَاعِظًا لِنَفسكَ، مُحاسِبٌ لَها وإلاَّ فَلا تَلومَنَّ إلا نفسكَ.
24. بُنِيَ الطريقُ عَلَى أَرْبَعٍ: لاَ تَتَكَلَّم إلا عَن وجودٍ (أي علم ويقينٍ)، ولا تأكل إلا عن فَاقَةٍ (أي حاجَةٍ)، ولا تَنَمْ إلا عَن غَلَبَةٍ، ولا تَسكت إلاَّ عَن خِشْيَةٍ.
25. العلم مأمورٌ باستعماله فإذا لم تستعمله حالاً أهْلَكَكَ مَآلاً.
26. فِي الدُّنْيَا طُغْيَانَانِ : طُغْيَانُ الْعِلْمِ ، وَطُغْيَانُ الْمَالِ ، وَالَّذِي يُنْجِيكَ مِنْ طُغْيَانِ الْعِلْمِ الْعِبَادَةُ ، وَالَّذِي يُنْجِيكَ مِنْ طُغْيَانِ الْمَالِ الزُّهْدُ فِيهِ ،(و ينسب أيضا ليُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ ).
27. : إِنَّ لِلْعِلْمِ ثَمَنًا ، فَلا تُعْطُوهُ حَتَّى تَأْخُذُوا ثَمَنَهُ ، قَالُوا : وَمَا ثَمَنُهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَنْ تَضَعُوهُ عِنْدَ مَنْ يُحْسِنُ حَمْلَهُ ” .(وتنسب هذه الحكمة لسعيد بن جبير)
28. اللِّسانُ ظاهِرٌ وهوَ من المُلْكِ، فَهْوَ خِزانَةُ العِلمِ الظاهِرِ. والقلب خزانةٌ المَلكوت، وهْو خِزانَة العلمِ البَاطِن. فَقدْ صَارَ فَضلُ العِلْم البَاطِن عَلَى الظَّاهر كَفَضْلِ المَلكوتِ عَلَى المُلْك. ونَعْني بالمُلْك البَاطن الخَفِيّ. وكَفَضل القَلبِ على اللّسان الجَلِيِّ وهوَ الظّاهرُ.
29. متى أردتَ أنْ تَشْرُفَ بالعلم وتُنْسبَ إليه وتكون من أهله، قبلَ أن تُعطيَ العلم ما له عَليك، احتجبَ عَنكَ نورُه، وبقيَ عَليكَ وَسْمُه وظهوره. ذلك العلم عَليكَ لا لكَ؛ وذَلك أنَّ العلمَ يُشير إلى استعماله، وإذا لم يُسْتَعْمَلِ العلمُ في مَراتِبِه رَحَلَتْ بَرَكَاتُهُ.
30. قالَ له السَّريُ السَّقَطيُّ: يا غُلامُ ! ما الشكرُ؟ قُلت (أي الجنيد): الشّكرُ ألاَّ تَعصيَ اللهَ بِنِعَمِهِ. فقال لي: أخْشى أن يَكونَ حظُّكَ من اللهِ لسانَكَ.
قَالَ الجنيد: فَلا أزَالُ أبْكي علَى هَذه الكلمة التي قَالها لي السَّرِيُّ وكان عمري سبعَ سنينَ.
جَمع سيدي مُحْرِز بن رُحومَة، رَضِيَ اللهُ عَنْه وباركَ لنا في أنْفاسه، من فُقراء باريس.
تحقيق وشرح المفردات: ن. المدني. جوان 2012.