بسم الله الرحمن الرحيم
والصّلاةُ والسَّلامُ عَلى أفْضلِ الذَّاكرين وبَهجة الشاكرين، سيدنا محمد الرسول الأمين، وعلى آل بَيته الطاهرين، وأصحابه الميامين.
يَسُرُّنا أنْ نُقَدّمَ إلى كافَّة السَّادَة القرَّاء سيرةَ سيدي الشيخ محمد المدنيّ العطرةَ، التي حَرَّرَهَا العالِمُ العامِل والتقيّ الفاضلُ سيدي عبد العزيز البوزيديّ رَحِمه الله، وهو الذي صاحَبَ الشيخَ المدني منذ سنَة 1922. والراجحُ أنَّ هذه الترجمةَ كتبتْ سنةَ 1963. وهي صَّفحاتٌ بَيِّنَةٌ تَحْوي شهاداتٍ صادِقةً وأحوالاً شارقةً، فأكرمْ بِصاحب السيرة وأكرمْ بمن حَرَّرَهَا: شَمْسَا مَوَدَّةٍ في سَماءِ العِرفان.
تَرجَمَة الشَّيخ الصوفي العارف بالله
سيدي محمد المَداني قدّسَ اللهُ سِرَّه.
بقلم الشيخ سيدي عبد العزيز بوزيد من فقراء بوحجر
بِسم الله الرحمن الرحيم،
1. والصَّلاة والسَّلام على أوّلِ الأنوار وأصلِ الأسرار الفائضة من عين الحضرة الأزليّة، وآله وصَحبِه الكواكب الدُّرِّية ومَن انتظمَ في حزبه ووَفَّى بعهده من أهل الخصوصيّة، ومَن تَبعهم بإحسانٍ وحُسنِ النّية.آمين.
2. هَذه تَرجمة مولانا الأستاذ، شَيخنا سيّدنا محمد المَداني قدّس الله روحَه الطاهرة، في أعلى الجنان ومَتَّعَنَا برضاه في الأولى والآخِرَة مع أهل الإحسان بحرمة عَين الرّحمة وليّ المؤمنين في جنّةِ الرضوان.
3. الحَمد لله الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لَم يَعلمْ، خَلَقَه في أحسن تَقويمٍ وأمدّه بلطائفَ وأسرارٍ تَشِفّ مِن وَرَاء العَقل السّليم، فَكانَ الآيَةَ العُظمى لِمَن اهتدى إلى الصِّرَاط المستقيم، فَنَوّرَ سَريرَتَه بالمَواهب اللّدنية وجَمّلَ ظَواهره بالأخلاق الكاملة المحمّدية، فَسبحانه اختصَّ مَن يَشاء بما يَشاء من جزيل العلوم والمَعارف وجَلائل الرقائق واللَّطائفِ، واصْطَفَى مِمَّن اجتبى نورَ الوجود وعينَ الوُجود ومفتاحَ الشهود، مَن لَولاه لَم يَظهر رَتقٌ ولا فَتقٌ ولَم تَطلُعْ شَمس على بُنود.
4. فَصلِّ اللّهمَ عَلى عينِ الرّحمة ومُؤْتي الحكمة ومَولَى النّعمة صلاة وسَلامًا تَامَّيْن عَلى قَدر منزلته منك في الاقتراب، ومَن وَالاه ما تُليت آياتُ الكتاب وتَرنَّمَ بالصلاة عليهِ كلُّ ذِي نَسمَة حَيّة ممَّا أحصيته في أمِّ الكتاب وعلَى جميع الأنبياء والمُرسَلين وسائرِ عِباد الله الصّالحين إلى يوم الدّين.
مُقَدِّمة لَطيفة :
5. أمّا بعدُ، لمّا كَانت نِعَم الله على العباد جَمّةً، والأشياءُ على اختلاف أصنافها وتَبايُن أوصافها في حياطة الرّحمة، فَعلى كلِّ ذي عَقلٍ حَسّاس القيامُ بواجب الشّكر للّه باللّسان وجَميع الحواسِّ، لِيؤدّي بَعضَ الواجب في الجُملة، لأنَّ مَا لَم يُدرَكُ كلّه لا يُترك بعضه أو جلّه والتَّحَدُّث بالنّعمة شكرٌ، وتَركها كفرٌ، فَمن لَم يقدر على الجَزاء بالعطاء فليوفِّ باللسان الثّناءَ. وقَد قال سيّدُ الأصفياء، عليه الصّلاة والسّلام مِن رَبّ الأرض والسّماء، فيما رَواه عنه سيّدنا النّعمان بنُ بَشير، رَضي الله عنه، قال :” سَمعتُ رَسولَ الله، صلّى الله عليه وسلّم، عَلى المِنبَر يقول: مَن لَم يَشكرْ القليلَ لم يَشكر الكثيرَ، ومَن لَم يَشكر النّاس لم يَشكر الله”. والتّحدّث بنعمة الله شكرٌ وتَركه كفرٌ، والجَماعة رحمَة، والفُرقَة عَذابٌ.
6. وممَّا امتَنَّ الله به على هذا العبد القاصر المُذنبِ الذي لا يَقدر على الوَفاء بحقّ عُشر مِعشار شَعيرَةٍ من النّعم الغِزَارِ التي لا يُدركها الجِنان ولا يَقدر على إحصائها اللّسانُ، ومِن بَين تلك النّعم أنْ جَعلَ لي قلبًا يُوحّدُ، وسِرّا يَشهَدُ، ولِسانًا يَذكر وعينًا تُبصر وتَعتبرُ، فللّه المنّة والفَضل والحَول والطّول والاعترافُ بالجَميل والإقرار بالحقّ الجليل لِمَنْ كان سَبَبًا في إطلاقنا من أصفاد الجهل العَليل وتَنويرِ أفئدتنا بنور التّنزيلِ، وَرَفَعَ عَنها كابوس َالتّقليد إلى فَضاء التّفريد وخالص التّوحيد، وَلِيّ نِعْمَتِنَا الأعظم، المفرد العلمُ، البحر الضخم المشهور بلتقين الإسم الأعظم، أستاذنا الجامع الكهف الرّفيع الذي لا يُدركُ غَايَةَ شمائله السّابقُ واللاَّحقُ، غارس بذور الحياة الأبديّة لمن اختصّه الله بسرّ الخصوصيّة، فَصَحَّحَ نَسبَه الرّوحي من خير البريّة، المُجاهد الصَّبور من استنارت بنور هدايته القبائلُ والعشائرُ أعوامًا و شهورًا، قَد أحْيَى معالمَ السّنة بعد الانْدِراس وقَمَعَ جيوشَ البدع والضّلال من الأساس، كَعبةُ القاصدين ومَلجأُ الحَائرين، غَيثُ الملهوفين وعُمدة السّالكين، الدّال على الله في كلّ حينٍ، المتخلّق بأخلاق سيّد الكاملين والمتمثّل بقوله وفِعله وحاله في عموم الأوقات والسّنين القائل:” الشريعة أقوالي والطّريقة أفعالي والحقيقةُ حالي”، صلّى الله عليه وسَلّمَ بعدد الثّقليْن والملائكة المقرّبين، مَولانا وسيلتنا إلى ربّنا الشّيخ المربّي سيّدنا محمّد بن خليفة بن حسين بن الحاج عمر بن الحاج خَلَف الله بن الحاج خَلَف الله، أيضًا بن الحاج فَرج المشهور بالمَداني القصيبي المديوني، قَدَّسَ الله روحَه الزّكية، وأمطرَ على رِياضه شآئيب (أي سُحَبَ) الرَّحمة والرِّضوان وأسْكَنه الفراديسَ العلا مع الذين أنعمَ الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشّهداء.
7. وكثيرًا ما يختلج بالضّمير ويسوّفني الأماني والتقصير لضعف الزّاد و قلّة الاستعداد، فَنتهيّب المقام ونميل إلى الإحجام قائلاً في نفسي: إنَّ البحرَ عَميق وداخله مفقودٌ، إلاَّ مَن أخذ الله بيده فبالخير يَعود ومَن لي بإحصاء الحَصى والكواكب. ولا زَالت الوَاردات تُلَجلجُ الفؤادَ ويَأبى الله إلاّ ما أرادَ بأن نُسجّلَ كلمةً طيّبة تتعلّق بحياة مولانا الأستاذ المُنَعَّم، فَسَحَ الله في عَدَنِه ومَتَّعَه بالنّظر إليه في جنّة خُلده، من بداية نشأته إلى نهاية انتقاله إلى الرّفيق الأعلى، عَلى حسب ما نَعهده من صحبته وما رَوينَاه عنه وعن أتباعه الكرام بما تسمح به مواهبُ واسعِ الفَضل والإنعام. حتّى حَرّكتني الدّواعي الرّوحيّة وما ألمّ بصدري من الأمنية علاوةً على ما رأيته من اشتداد رغبة الإخوان المُخلصين والأحباب العارفينَ، أهلِ الأقدام الرّاسخة والهِمَم الشّامخة الّذين لَهم أوفرُ نصيبٍ من العبد الضّعيف بمعرفة شَمائل الأستاذ، وخَصائصه الحسان، رَضي الله عنه، التي تَجلّ عن البيان، فَحملت ذلكَ إذنًا ربّانيًّا ووَاردًا رحمانيًّا، أبرقَ بجناني وأيّدته بطريق آذاني، فامتطيتُ جوادَ العَزم وانسلختُ عن وَهمي بعد ما تبرّأت من عِلمي وفَهمي، فأمسكت القلمَ لإنجاز ما دار بخَلَدِي (أي ذِهْني) مُعتمدًا على مَن بيده التّقدير والتّيسير، إنّه على مَا يَشاء قَدير وإليه المَصير.
8. فَأقول: وهو الملهِم والمسؤول، إنّ الكلام على حياته الشّريفة ومَناقبه المُنيفَة إجمالا لا تفصيلاً، لأنّ التّفصيل لا تسعه الأوراق ولا تفصح عنه الأشداقُ ولا تَكفيه المجلّدات ضخمة الطّباق و لو تَعدّد الكاتبون وتسابق في ميادين إحصائها واستقصائها المحبّون. وإنّما هذه الرّسالة البسيطة عَنبَرَة من نفحاته المِسكيّة لتترنّح وتَتَشَنّف عند ذكرها قلوبُ وأسماع أهل النّسبة الشّذيّة، نذكرها عِبرَةً وتبصرة لأولي الألباب وذكرى خالدةً في مستقبل السّنين والأحقاب والله الهادي والموفّق إلى الصّواب.
أمّا الكلام على المناقب الكريمة فهو يَنحصر في فصولٍ خمسةٍ:
1. تاريخ نشأته طفلا وشابّا وكهلاً وشيخًا زكيًّا إلى وفاته مُرشدًا مَرضيَّا.
2. ونَسبه الجسماني والرّوحاني.
3. وما أجراه الله من الفيوضات على جَنانه ولسانه من المُؤَلَّفات وتفسير الآيات وشرح أحاديث سيد السادات.
4. ومَا أفاضه الله على قلبه ولسانه من المُوشَّحات والشطحات التي تَهيم عند سماعها الأذهان وتغيب عن الأكوان.
5. وشَمائله الزكيَّة وما وَهبه من الأخلاق المحمدية التي لا يُحرزُ عَلَيها إلا مَن لَه الحَظُّ الوافرُ من الخِلافَة المُحَمَّدية.
…/…
1. يشتمل هذا الفصل على أخلاقِهِ وآدابِهِ الربَّانيَّة، وشِيَمِهِ وكَمالاتِهِ المُحَمَّديَّة التي اختَصَّهُ اللهُ بِها مِن بَينِ سائِر البَرية. فَقد اقتَفى أثَرَ السنَّةِ النَّبَويَّة، فَكانَ، رَضيَ الله عنه، فَريدَ عَصرهِ في دَماثَةِ الأخْلاق ومَحاسن الشِّيَم المَوهوبَة من واسِع العِلمِ والكَرَم، يَشعُرُ بها كلُّ مَن جَالَسَهُ واجتَمَعَ بهِ وأبْصَرَ شَخصيتَهُ الفَذَّةَ في مُختَلف الأمَمِ. فَمن رأى بَداهَةً هامَ بهِ واستَشعرَ بأخلاقٍ عاليةٍ ولَطائفَ ساميةٍ غَاليةٍ، تَظهر من قَوله وفِعله وحالِهِ وعَلى صَفحات وَجْهِهِ الوَضَّاء، ولَمحات عَينَيْهِ والتي تَسبي عقول أولي النُّهى، في هُدوءٍ وسَكينَةٍ ووَقارٍ، تَعلوهُ المَهابَة، في كَلامهِ حِكمَة، وصُحبَتُه فِكرة، ونَظَرُهُ عِبرَة. فَإذا تَكَلَّمَ نَطقَ بالحِكمَة وفَصلِ الخِطاب، سَلِسَ العِبارَة، قَويَّ الإشارَة، يُخاطِبُ النَّاسَ عَلى قَدْرِ عُقولِهم، لا يَسأمُ مَجلِسَهُ جَليسٌ، ولا يَفتُرُ من حَديثهِ أنيسٌ، يُعطي لِكلِّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ، فالإمداد بِقَدْر الاستعداد.
2. وكانَ، رَضي الله عنه يُحِبُّ لِلَّه، ويَبغَضُ لِله، يَقول الحقَّ ولَو كانَ مُرًّا، ذا شَجاعَةٍ وإقدامٍ على بَثِّ النَّصائح، وإسداء المَواعِظِ لِسائِر الطَّبقات من رَفيعٍ ووَضيعٍ ورَئيسٍ ومَرؤوسٍ، لا تَأخذهُ في الله لومَةَ لائمٍ، ولا يَهابُ التخطِّي والدخولَ عَلى المُلوكِ والأمراء وذَوي الهَيئات لِما فيه الصَّلاحُ والسَّدادُ ونَفع العباد.
3. ويَقولُ، رَضي الله عنه، كانَ بعضُ الصوفيَّة الأوُّلِ يَأنَفونَ ويَتَجافَون مِن مُجالَسَتِهِمْ والاتِّصالَ بِهم. ونَحن نُحبُّهم ونَغتَبط بالجلوسَ مَعهم. وحقًّا ما يقول، لأنَّ مقامَ الخِلافَة النبويَّة يَقتضي إيصال الخير وإيرادَ المَعروف لِبَني الإنسان كيفما كانت صِفَتُهُ، وعَلَت رُتبَتُهُ. ومَن تَمَكَّنَ مِن المَقام يَقطَعُ خَيالاتِ الأنام، ويَشهد المُتَجَلِّيَ في الخاصِّ والعام، هُو ذو الجلال والإكرام.
4. وقَد كان بَعضُ الفقراء المُجَرَّدين، المَرحوم الشاوش مَولود، رَحمه اللهُ، ساقَ حكايَةً على بَعض المشائخ من أهل العلم والشَّرف أنَّهُ ملازمٌ للخَلوة والحِجاب، ويُخاطِبُ النَّاسَ ويَدعو لَهم من وراء الأستار والأبواب. فَقالَ له الأستاذُ، رَضيَ الله عنه، : إنَّ سادَاتِنا العَارفين يقولون: مَن احتَجَبَ عَن الخَلقِ احتَجَبَ عَن الخالق”. هَكذا سَمعتهَا منهُ شفاهًا.
5. ومن أخلاقِهِ الحِسان، رَضي الله عنه، حَمْلُ الأذى وكَفُّ الإيذاء، من الكاظمين الغيظ، العافين عن النَّاس والمحسنينَ، عامِلاً بِمقْتَضى قَوله عز وجل: “خُذِ العَفوَ وامُرْ بالعُرْفِ وأعْرض عن الجاهلين”. وكثيرًا ما يُولِغ في عِرضِهِ وإذايته بِفُحْش القَول والفِعْلِ ولا يُقابِلُ المُرجِفَ والجاهلَ إلا بالصَّفْح والعَفو والحِلم والمُسامَحَة والدُّعاء بالمَغفرَة والهِداية.
6. ومِنهم مَن إذا جَمَعتهم المَقادير مَعَهُ وشاهَدَ من أخلاقِهِ الحَميدة ما يُزيلُ الأغيارَ ويَفتَحُ الأبْصارَ رَجَعَ الى الاعتقاد بدلَ الانتقاد، وطلَبَ من الأستاذ المُسامَحَةَ فيما كان عَلَيهِ من سِيَر المُشاحَنَة والمُكاشحَة، فَيَجذبِهُ رَضيَ الله عنه، بكلامٍ لَيِّنٍ مَمزوج بالحِلمِ والمُسامحة: أنِّي سَامَحتك فيما قلتَهُ ماضيًا، وفيما عَسى أن تعدل. ومِنهم مَن دَخَلَ عَلى الأستاذ، رَضيَ الله عنه، في مجلسٍ من مجالِسهِ مَع الفُقَراء بِبَلدَة المكنين والعَبدُ الضعيف ممن شَمِلَهم المَجلسُ المَذكورُ، فاعتَنَقَ يُقَبِّلُ الأستاذَ ويقول: بِالله سَامحني فيما قلتهُ فيك، واعتَقَدتهُ من الأباطيل والأراجيف التي نُسِبَت إليكَ، حتَّى أنَّهُ بَلغَني عَليكَ أنَّكَ مُتَجَنِّسٌ بجنسيَّة أجنبيَّة، فاعتَقدت فيك التكفيرَ وأضمرت في نفسي ما لا تُحمَدُ عُقباه في المَصير، ولكنْ من لُطف الله ظَهَرَ الحقُّ وزَهقَ الباطلُ. فأجابه الأستاذُ، رَضيَ الله عنه، بوجهٍ طَلقٍ يتلألأُ نورًا، ولسانٍ عَذبٍ يَتَدفَّق سرورًا: لا أسامحكَ حتَّى تأكلَ هذا البُرجَ بَقلاوةً وشيئًا من الحَلويات. فَصارَ ذلكَ الرُّجل يُعَظِّم الأستاذَ ويُجِلُّهُ غايَةَ الإجلال، ويَلهَجُ بالثناء عَلَيه، فَسبحانَ مُبَدِّلِ الأحوال. ومن هذا القبيل لَيسَ بالقليل.
7. ومِن الأخلاق التي جُبِلَ عَليها وتاقت نَفسه ُإليها صِلَة الأرحام وإطعام الطَّعام على حبِّهِ مسكينًا ويتيمًا وفقيرًا، ويُنفق في وجوه الخَير وسبيل الله ما يُمَتِّنُ الرَّوابطَ الإسلاميَّة. وكفانا ما شاهدتُهُ في زاويته ببلدة القصيبة أنَّها مُفَتَّحة الأبواب في الفصول الأربعة من السَنَة، لكلِّ واردٍ من النَّاس أواب.
8. ومِن شِدَّة حِرصهِ على إثبات المعروف واستمرار العمل المَألوف لمَّا ساوَرَتْهُ الأسقام في بعض الأيام بادَرَ بِتحبيس جميع ما تملَّكَه من الرَّيْعِ والعَقار والدِّيار داخلَ القُصيبَةَ وخارجَها في سبيل الله على عائِلَتِه والقائمِ على عمارة الزاوية من ذريتهِ الذُّكور، من ترميم وإصلاحِ ما يحتاج إلى الإصلاح وفراش وغير ذلك مما يقررُ النفعَ العامَّ والخاصَّ وعلى المنقَطعينَ لِلَّه لقراءة العظيم والعلم الشريف والمجتمعين على ذكر الله وما يقرّب إلى الله من سائر العبادات والقربات. وجَعَلَ النَّظَرَ في ذلك لبنيهِ الذكور ثم لمن فيه أهليّةٌ من المُنَتسبين لطريقتهِ عمَلاً بما رُويَ عنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم والبخاري ما نصّه: “إذا ماتَ الإنسانُ انقطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ من ثلاثٍ صَدقَة جارية، وعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”.
9. وإن عاكست الأيام الظروف وصادَمت المحافظة على تطبيق نَصِّ الحُبس على الوجه المُقَرَّر الَمألوف، لأنَّ نَصَّ الحُبُس كَنَصِّ الشارع، تَجب المحافظة عليه، ومن حَذر الشارع الحكيم الذي لا يبدل القول لَدَيْه، إذ قال جلّ ذكره فيمَن بَدَّلَه : “فَمَن بَدَّلَهُ بَعدما سَمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم”.
10. أمّا الأستاذُ، رضوان الله عليه، فَقد بَلَغَ مُرادَه من تَرك الصدقات الجارية ومن العلوم النافعة ومن الأولاد الصالحين الجَسَديينَ والرُّوحيينَ ما يَصير الرحمة، إن شاء الله، تَتَنَزَّل وتتهاطل على روحه الطاهرة وضريحهِ الكَريم أسرَعَ وأغدَقَ من المطر الغزير.
11. ولَنا كامِلُ الوثوق وحسن الظنّ بسلالة النور، ونَبعَةِ الماء الطَّهور، البَصير بعواقِب الأمور، خَلَفُه المَبرور، أبي الفضل الغَيور، الشيخ سيدي الحاج محمد المُنَوَّر المداني، حَفظَ الله ظاهِرَهُ وباطنَهُ من كلِّ حاسدٍ فَتَّان، وأفاضَ عليه من أنوار الرضى والعرفان، ما يُبَلِّغُهُ غايَةَ الأماني، أن يقومَ عن عملٍ بكلتا يَدَيْه في تنفيذ مُنيَةِ الوالِد الحَنون، ولا يَلتَفت إلى ما يَعرضُ لَه من حوائل وقواطعَ وفُتون، “وسَيَعلمُ الذين ظَلَموا أيَّ منقلبٍ يَنقَلبون”، والله الكفيل أن يَلحَظَهُ بعين الرِّعايَة ويكونَ له وليًّا وناصرًا في سَعيِهِ الميمون.
12. وكان رضي الله عنه صادقَ اللهجة، ثابتًا في مواطن الصدق قائمًا على نصر الحقّ مُعتصما بالله في قوله وفعله وما ولاه، ولا شيءَ عندَهُ أحبَّ وأعزَّ من المنتسب لله، العارف به في جَهْره وخَفاه، المُحافظ على الحدود، المُراقب للمَعبود، الوفيّ بالعهود، الوَدود. ومن كلامه الحكمي: “الوَفاء بالعهد والثبات على الودّ من أجمل ما يتزين به المريد”، كما يقول: “العِبرَة بالدوام على المحبّة والمواظبة عليها حتّى تكون الخاتمة حسنة إن شاء الله”.
13. ولا يبالي بالكوارث والخطر وما يتعرّض له في طريق الإصلاح من فتن أهل الأهواء والعقل المسلوب بل يقبلها بقوّة للجأش ورسوخ وسرور كالجبل الشامخ الذي لا تحرّكه السيول والحرُّ والقَرُّ وكل حادث مجبور.
14. وقد أدركنا من أحاسيسه الجميلة المحمديّة ما شهدناه بالعيان وشهده كلّ إنسان من صديق وبغيض فتّان ما جرى من عدو الإنسان وما قيضه في بعض المغرضينَ من الأعوان الذين لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمة ولا يبغون الإحسان، وقد راموا بمزاعمهم السيئة وما انطوت عليه أحشاؤهم …
يتبع ان شاء الله