بسم الله الرّحمن الرّحيم
اللّهمَّ صَلِّ وسلْم عَلَى أصلِ شَجَرةِ الأكوان، المُتَفَرِّع مِن نُوره مَا يَكونُ ومَا كَانَ..
مَدَحْـــــتُ رَسُــولَ اللهِ بَــــدْأً وَعَــــــــوْدَةً * وَمِقـْــدَارُهُ فِـــي البَـــدْءِ وَالعَـــوْدِ أَعْـــظَـــــمُ
مَـــــدَائِحَ مَمْـــلُوءِ الفُــــؤَادِ مَــــحَــــــبَّـــةً * يُجـَمْـجِـمُ شَــــــوْقًا والــــدُّمُـــوعُ تُــتـَرْجِـــــمُ
مُحَــــــمَّــدُ المُخْتَارُ، أَعْـــلَى الـــــوَرَى يَدًا * وَأَشْــــــرَفَــــهُمُ ذِكْــــرًا وَإِنْ كَـــانَ مِــــــنْهُمُ
الحمدُ للهِ الّذي جمَّلَ الوجودَ بِحضْرة نبيّنَا، أكرمِ الخَلق وصَفوةِ العَالمين، وجعلَ مِن أصول الإيمَان حُبَّ الأنبياء والمُرسَلين، أشهد أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لاَ شريكَ له، أرسلَ هذا الرَّسولَ الأميَّ رحمةً للأوَّلينَ والآخرين، وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنَا ومَولانَا وعظيمَنَا مُحمّدًا عَبدُه ورسولُه، أشرفُ عبدٍ، أتى بِأشرفِ دينٍ.
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم عَلَى سيِّدنَا وحَبيبنا محمَّدٍ وعَلَى آله وأصحابه وأهل عِتْرتِه أجمعينَ.
آداب الفقير
أمَّا بَعد، فَيَا أمّةَ المصطفى الهادي إلَى الرّشاد:
لقد وَفَّقَنَا اللهُ، عزَّ وجلَّ، إلَى تَمحيص أركان الطّريقة المَدنيّة وثَوابِتها، وجلاء مَفاهيمِهَا منذُ أكثرَ مِن خَمسينَ سنَةٍ. وقَد أَشرنَا في خطبة المولد النبويّ الشّريف لــــسنة 2009 للميلاد إلى خُصوصيَّات شيخِ التّربِيَة والشّروط الوَاجبِ توفُّرُهَا فيه، وخَصَّصنَا خُطبةَ المولدِ لسنة 2010 للميلاد للاحتفال بمُرور مائة عَام على نشأة الطّريقة المدنيّة (1910-2010 للميلاد)، وهَا نَحن نُواصل الخطَّ الّذي رَسَمنَاهُ، هَدَفُنَا في ذلكَ المُحافَظَة على صَفَاء الطّريقة المدنيَّة بشكل خاصٍّ، والتّصوّف بشكلٍ عامٍّ.
ونتطرّقُ اليومَ إلى آدَابِ المريدِ أو الفقير، ومُصطلحُ “الفَقير” مُستَمَدّ من الافتقار إلَى الله، جلَّ وعَلاَ، استنادًا إلَى قَوله تَعالى: “يا أيُّهَا النَّاس أنتمُ الفقراءُ إلَى الله والله هو الغنيُّ الحميد”يَقول الشّيخ الوَالد، ســــــيّدي محمّد
المدني، رَحِمَه الله، في كتابه بُرهان الذّاكرين: “المُريدُ (هو) المُصطَلَح عَلَيْه عِند الصّوفيّة بالفقير، فَالوَاجب عليه أن يصاحبَ شيْخَه على مَا تَقتَضيه مَرتَبَتُه مِنَ الصِّدْقِ والمَحَبَّة والتّسليم والامتثال والتّعظيم وعَدَم المخالفة في شيءٍ”1
ولا بُدَّ للفقير من آدابٍ يَتَحلَّى بها وهي:
أولاً: الإمتثالُ لشَيْخه والعَمَل بنصائحه بَعدَ مُحاوَرته والاقتناع بمَا ينصحه بِهِ، ولاَ يُهمل الفَقيرُ التّدبيرَ بعــقله،
ولكنَّه يَتْبعُ تلكَ الإشَارَاتِ من باب التّسليم لِذَوي الاختِصَاص، كَتَسليم المريض لِطَبيبه.
ثانيا: أنْ لاَ يَعتقدَ في شيخه العصمةَ، لأنَّه كغيره من البَشر، قَد تَصدرُ منه بعض الهَفَوات، لكنَّه لا يُصرُّ عَلَيها، إذْ لا تَتَعَلَّق همّته بغير الله تَعالَى.
ثالثًا: أن يعتقدَ في شَيخه تمامَ الأهليّة للتّربية بعدَ أنْ بَحَثَ بادئَ أمره فَوَجَدَ شروطَ شيخ التّربية الّتي أشَرنا إلَيهَا في خطبة المولد لسنة 2009 قد تحقّقت فيه، ووَجَدَ أنَّ الفقراء يَتَقدمّون في إيمانهم وعباداتهم وعلْمِهم وأخلاقهم، فَيَنبَغي أنْ يَكونَ للفَقير ميزانٌ شرعيٌّ صحيحٌ ومِعيَارٌ عقليٌّ سليمٌ، يميّزُ به بَينَ الحقِّ والبَاطل فَيَتَجَنَّبَ الخُرَافَاتِ والشَّعوَذَةَ، ولاَ يغترُّ بالمَظاهر الجَوفَاء.
رابعًا: اتّصافُه بالصّدق والإخلاص في صحبته لشيخه مُنزَّهًا عن الأغراض والمصالح، حَافظًا لحرمَتهِ حاضرا أو غائبًا. يقول الشّيخ الوَالد سيّدي محمّد المدنيُّ، رحمه الله، في إحدى حكمه:”[[كتاب تحفة الذّاكرين :الحكمة رقم94 ص60]] من تجمَّل بِفضيل
ةِ الصِّدقِ مَعَ اللهِ
وَرَسُولِهِ، ثُمَّ مَعَ أسْتَاذِهِ وَإخْوَانِهِ، ثُمَّ مَعَ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، زَادَهُ اللهُ إيمانًا ويقينًا وقوةً وتَمْكِينًا، قَالَ تَعالَى :”لِيجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ”.[[سورة الأحزاب، الآية رقم 24]]
خَامِسًا: أنْ يُحِبَّ شيخَه محبَّةً فائقةً شريطةَ ألاَّ يدفعَ به حُبُّه لإخراج شَيخِه عَن طَوْر البشريّة أو للمُغَالاة في الحَديث عَنه. وعليه أنْ يلتَزمَ السَّكينَةَ والوَقارَ في مجلسه ويبادرَ إلَى تَطبيق ما يَقوله في حدود الشّرع العزيز.
سادسا: أنْ يكون ثابتًا على المبدَأ، لأنَّ الثَّباتَ عَلَى المبدَأ من أجلِّ الصّفات في الفَقير.
سابِعًا: أن يَتَأَدَّبَ مع بقيَّةِ الفقراء ويحفظَ حُرمَتَهم ويتواضعَ إلَيهم ويحسنَ الظنَّ بهم. يقول الإمام النيسابوري، رَضِيَ الله عنه: “التّصوُّفُ كلّه آدابٌ، لكلّ وقتٍ آدابٌ، ولكلِّ حالٍ آدابٌ، ولكلّ مقامٍ آدابٌ، فَمن لَزمَ الأدبَ بلغَ مَبلغَ الرّجال، ومن حُرمَ الأدب فهو بعيدٌ من حيث يَظنُّ القُربَ، مَردودٌ مــن حيــــــث يظنُّ القَبولَ”[[ السلمي ، طبقات الصّوفيّة ص 106]].
وخُلاصَة القَول: عَلَى الفقير المدنيِّ أنْ يَسعى إلَى اكتسَابِ العُلومِ الشّرعيَّةِ والمَعَارف الحَديثَة، وإلَى تَزكية نَفسِه وتطهيرِهَا حَتَّى يَعرفَ الله مَعرفةً يقينيّة، مُحسنًا بالتّرقِّي في مَدَارج القُرْبِ مْنَ الله، مَــــعَ المساهـــــمة في الدَّورة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة واحترام قَوانينِ البِلاَدِ، جامعًا بَينَ مَكارِم الأخلاق والفــطانَة، فَـتـثمرَ فـــــي رَوضِ قَلبِه أنوارُ التّوحيد، وتشرقَ في سَمَاء رُوحه شموسُ المقام المُحَمَّدِيِّ.
أيَّهَا المَظهَرُ الأتّمّ والّنور الأكمل الأعمَّ، يَا مَن أُسريَ بك إلَى سدرة المنتهى حتَّى كنتَ قابَ قوسيْن أو أدنى.
مَــلاَئِـــكَةُ السَّبْــــعِ الطِّبـَــــــاقِ تـَـــأهَّبَتْ * لإِسْـــــرَائِــــهِ كُــــــلٌّ عَلَـــــيْهِ يُــــــسَلِّـــمُ
مَــــحَا ظُلَـــــمَ الإِشْــــرَاكِ نُورُ مِــــيلاَدِهِ * وَلاَ عَجـَــــبَ فَاللْــــيْلُ بِالصُّبْــــحِ يُهْـــــزَمُ
مَــــنَارُ هُـــــدًى يَهْـــدِي القُلُوبَ شُعَاعُهُ * إَذَا لَــــمْ تَلُـــــحْ شَمْــــسٌ وَلَمْ تَبْــــــدُ أَنْجُمُ
الذّوق
أيّها المحتفلون بمولد سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم:
يدور مُصطَلحُ “الذّوق” عَلىَ ألْسنَة العارفين عندَ حديثِهِم عَنْ طريق التّربِيَة والسُّلُوكِ. فَهوَ عَلامَةُ المعرفةِ الربَّانية وَبَيانُها وفَيصَل المَحَبّة وفُرقَانُها، كَيفَ لاَ، ومَادَّة الذَّوق من يَنَابيع القرآن مُستوحاةٌ، فَلَقَد وَرَدَ جِذرُها في كلام الله إحْدى وَستِّينَ مَرَّةً بِمختَلِف اشتقَاقَاتِها. ولكلــــــمة “الذَّوق”معنًى أصليٌّ هو الإحساس باللّسانِ، ثمّ استعيرَ للدلاَلَة عَلى مُطلَق الإحساس الباطنيِّ، يـــــــقـول الله تعالى :”وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [[سورة الرّوم ]]. كَمَا وَردَ لفظُ الذّوق صريحًا في قول الصَّادِق المُؤتَمَن: صلى الله عليه وسلم “ذَاقَ طعمَ الإيمان مَن رَضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وَبمحمَّدٍ نبيًّا ورَسُولاً”، [[رواه الترمذي]]. وَوَرَدَ اللّفظ تلميحًا في قَول سيّد الوجودِ صلى الله عليه وسلم : “ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمان، أنْ يَكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إلَيهِ ممَّا سواهمَا وأن يحبَّ المرءَ لا يحبّه إلاّ لله، وأن يَكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النّار“.[[رواه مسلم
]] فَمرَاد الله تَعالى من إرسالِ الرُّسل تَزكيةُ القُلوب وَتَنويرُها، مِصداقًا لِقوله تَعَالَى:”كَمَا أَرسلنَا فيكُم رَسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكِّيكُم ويعلمكم الكّتاب والحكمَةَ” [[سورة البقرة الآية 151]]. ومَعـنَى التَّزكـيةِ الرَّبَّانـية تنـويرُ القلـوب لتَتَذَوَّقَ نفائسَ الحَقائق وأَغلاَهَا ورَقائقَ المَعَاني وأَعلاَها فَتَستشعرَ نَفحاتِ التّوحيد المنبثَّة في الشَّرع المَجيد،
ذَلكَ أنَّ عَقَائِدَ الإيمَان وشـعائرَ الإسلام ومَقَامَات الإحـــــــسَان مُستَودعهَا ومُستَقَرُّها حَالةٌ ذَوقيّةٌ بَاطنيَّة، سَمَّاهَا القرآنُ الكريم: قَلبًا وروحًا وفؤادًا ونَفْسًا وسرًّا … بها يَتَذَوَّقُ العَــارفُ أحوَالَ المُقَرَّبين كالرَّجاء والمَحَبَّة والرِّضا والتَّسليم وذَلكَ بَعد أَنْ يتَنَوَّرَ القلبُ بِلَطيفِ المُشَاهَدَات وعَلِيِّ المُكَاشَفاتِ. ولقد اصطلحَ السَّادة الصّوفية عَلَى تَسمية هَذَا الإحسَاس البَاطِنيّ بِكلمة جَامعةٍ مَانِعَةٍ هي الذّوق. وتَعني هذه الكلمة المَلكَةَ النّورانيَّةَ الّتي يَكتسبها المريــــــــد بمداومَة الأذْكَار وَمصَاحَبَة الأَخيَار، قَال الإمامُ القُشَيْريُّ: “الذَّوقُ مَا يَجدُه أَهلُ الله من ثَمَرات التّجلي ونتائج الكشوف وبداِئهِ الوَاردَات”[[القشيري ، الرّسالة القشيريّة ص 72
]].على أنَّ الذَّوقَ مَقَامٌ بَاطنِيٌّ، يَعيشُه المريدُ بباطنه وَلاَ تَسَعُه العِبَارَات لأَنَّه لطيفُ إشراقٍ يَفيضُ عَلَى القُلوب الخاشعة، وَرَقيقُ مَعنًى يُنَوِّرُ الضَمَائر الطّائعة، فَيُغَذِّيهَا بِأُنْسِ الوِصَالِ، وَيُؤنِسهَا بلذيذ المَقَال. وَبهذَا الذّوق الباطنيّ والحَال النّوراني جَرَت عِبَارات العَارفين، وكَانَ سَيَّد الذائقين، مِن بَدْء الخليقة إلَى يوم الدّين، المُصْطَفَى صلوات الله وسلامه عَلَيْه، الّذي كان فؤاده الشّريف للقرآن مستودعًا، ولأسرار الوحي مَرَاحًا وَمَرْتَعاً، قال تَعَالَى: “كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً”[[ سورة الرّوم الآية رقم 32]] وَبِذَوقِه العريق في الوحدانية وَحَّدَ المصطفى ربَّهُ وناجاه قائلاً: “أَنتَ الحقُّ وقَولكَ الحقُّ”، وبذَلكَ الحَالُ الباطني سارَّهُ ونَــادَاه، وَعَلَى هَدْيـه ســــارَ العارفون بالله، و وَرَثَته، أهل الله الكاملـون،قالَ الإمامُ ابنُ بنتِ المَيلَق رحمه الله:
مَـــن ذَاقَ طعـــمَ شَرَابِ القَوم يَدريه * وَمَــن درَاهُ غَـــــــدَا بالـرّوح يَـــشريــه
ولَو تـــعوَّضَ أرواحًا وجــــاد بهــا * فـــي كلِّ طـــرفة عـــــينٍ لا يســـــاويه
وقطرةٌ منه تَكفي الخلق لو طَعموا * فيــشـطحـــون علــى الأكـــــوان بالتِّيه
ويقول الشّيخ سيّدي محمّد المدني:
هــــــــــذَا مَـــــا رَأيــنـــا * والــــــــــــذّات مَـــــــرام
أســــبَلـــت عَـــلَيـــــــــنَا * حـــــلَّــــــةَ الإنــــــعــــام
لا لَـــــــــومَ إنْ قــلــــــنَا * مَــــــا حَـــــوَى نـــظـــام
بــالقُـــلــــــوبِ ذُقـــنـــــَا * لــيــــسَ بـــالـكــــــــــَلاَمِ
فالصُّوفِي الذّائق هو الّذي أَخَذَت أسرَارُ التَّوحيد بِمَجَامِع قَلْبه، وفَاضَت أنوارُ المعرفة على روحه وَلُبِّه، ورُبَّمَا عَبَّرَ عن تلك الأذواق العالية بأفـــانـــــين
الحكمة الغَالية وربَّمَا سكنَ فُؤادُه واستقامت طريقته ظاهرًا وباطنًا.
فصلُّوا على المصطفى صلى الله عليه وسلم يا أيَّها الملأ الكريم.
اللّهم صلِّ وسلِّم على مرآة الحقائق مصباح نوركَ الممتدّ ضياؤه إلى أجزاء الخلائق، مَن تَجَلَّيتَ عَلَيه بلا فاصل ولا فارقٍ.
مَنَـــاقِبُهُ كَالشُّهْــــبِ وَالُتُّرْبِ وَالحَصَى * وَأَضْعَـــافِهَـــا وَالأَمْــــرُ أَعْلَى وَأَفْخَـــمُ
مُصَانٌ بِتَوْفِيــــــــقِ الإِلَهِ مُـــــــــؤَيَّدٌ * مُنَــــاجًى بِأَسْـرَارِ الحَقَـــائِـقِ مُـلْــهَمُ
مَــــــــكَانَةُ رُسُـــلِ اللهِ غَــيْرُ خَفِــيَّةٍ * وَسَيِّـدُهُمْ هَـذَا المُـحَــبُّ المُـــكَـــرَّمُ
أيّها الحاضرون صلّوا على المصطفى بَحر الكمالات صلى الله عليه وسلم
الصحابيّ ّ(ذو البجادين)
ومن بَيْن الصَّحَابَة الكرام الّذين تَذَوّقُوا معاني القرآن المجيد رجلٌ يقول سيّد السّادات صلى الله عليه وسلم في شأنه: “هو أحد الأوّاهين“، كَمَا يقول في حقّه: “اللّهمَّ إنّي أمـــــسيت عنه
راضيًا فارضَ عنهُ“. كما يقول سيّدنا عبد الله ابن مسعود عنه: “يا ليتني كنت مكانه وقد أسلمت قبله بخمس عشرةَ سنةً“. وطَلب من الرّسول صلى الله عليه وسلم: يا رسـول الله، ادعُ الله أن
يكرمني بالشّهادة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللّهمَّ إنّي أحرّم دمه على الكفار“. هو صحابي جليل اسمه عبد الله ابن عَبد نَهِمٍ المُزنيّ، نَشأَ يتيمًا فقيرا في بيتِ عمه الّذي كان مُبغضًا للإسلام، ولمَّا تَاقَت نفسُ عبد الله للإسلام خاطبَ في ذلك عمَّهُ: لماذا لم تتبع محمّدًا على دينه وتعلن إسلامَكَ، فغضب عمّه وقال : اسْكُتْ يا فتًى، ولا تخاطبني في هذا الأمر مرَّةً أخرى. والله لئن اتبعتَ محمّدًا لا أترك بيدكَ درهمًا واحدًا أعطيتكه إلاَّ نَزَعته منك حتى ثيابكَ.
فقال: والله أنا مُتَّبعٌ محمّدا على دينهِ.
وأخرَجَ مَا معه من مالٍ فَدَفَعه إليه وقال هذا ما بيدي فخذه فأخذه، وجرَّدَه من ثيابِهِ. ومَضى عبد الله هائمًا على وجهه، وبإلهَامٍ من الله قصدَ بيتَ أمّه الّتي تركته صغيرا وتزوَّجت بعد موت أبيه، وما إنْ دَخَل عليها وأبصرته حتى ضمّته إلى صدرها وانهالت عليه بالقبلات ودموعها الغزيرة تتساقط عليه، فقطعت لَه بِجادًا (وهو كساء غليظ) وجعلته نِصفَيْن، فاتَّزَرَ بنصفٍ وارتدى بالنّصف الآخر، ثمَّ قصد مسجدَ رسول الله عليه الصّلاة والسّلام فنامَ فيه. ومع الفجر دخل النبيُّ، عليــه الصّلاة
والسّلام المسجدَ فلما رآه نائمًا تهللت عــــــيناه ووجهه، فَقَالَ له: مَن أنت؟ فقال : عَبد العُزَّى بِن عَبدِ نَهِمٍ مِن مُزَيْنَةَ. فَقالَ له النَّبي عليـه الصّلاة والسّلام : أنت عبد الله
ذو البجادين. “أيْ صاحبهما”، وصارَ لقبًا له. ثمّ قالَ له النبيُّ عليه الصّلاة والسّلام: انْزِل مني قريبا، فَلزم ذو البجادين بابَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانَ قريبًا منه مُعظمَ أوقاته، حتّى حفظَ القرآنَ وفَهمه.
ولمَّا وَقَـعـت غـزوة تبــــوك، خَرجَ ذو البجــادين مع النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم فــــقال له : ادْع ُ اللهَ لي أن يكرمني بالشّهادة.
فقال رسول الله: اللّهم إني أحرّمُ دَمَه على الكفَّار.
فقال : ليس هذا أردت.
فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : إنَّك إذا خرجت غازيا ً فأخذتك الحُمَّى فقتلتك فأنت شهيد، أو وَقَصتك (ضربتكَ) دَابَّتُكَ فأنتَ شهيدٌ. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قمت في جوف اللّيل في غزوة تبوك فرأيتُ شُعلةً من نار في ناحية العسكر، فاتّبعتها فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين قد مَاتَ، ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في قَبْره وهو يقول لهما: “قَرِّبَا لي أخاكما” فتناوله منهما وأسكنه في لحده ثمّ قال:” اللّهم إني أمـــــسيت عنه
راضيا ً فأرض عنه”. وقال عبد الله بن مسعود: لَيتني كنت صاحب الحفرة.
رضي الله عن ذي البجادَين وأسكنه فسيح جناته مع النّبيئين والصدّيقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئكَ رفيقًا.
الصّــلاة والسّــلام عليــك يا نـورَ الوجــود وعين الوجود ومفتاحَ الشّهود.
مَتَـــــى رُفِـــعَـــتْ لِلْمَــجْـــ * ــدِ رَايـَـــــةُ غَـــايَــــةٍ
فـمَا أَحَدٌ قُـدَّامَـهُ يَـتَـقَـــدَّمُ * مَـرَاقِـيهِ فِـي الإِسْرَاءِ تـَـقْـضِي بِأنــَّهُ
عـَـلَى كُلِّ مَـخْــلُوقٍ سِـوَاهُ مُقَـدَّمُ * مَنْ المُرْتَقَـي فَـوْقَ السَّمـَـاوَاتِ غَيْرَهُ
وَمَــــنْ ذَا المُنَـــــــاجِي وَالبَرِيَّـــــــةُ نُـــــوَّمُ
فصلّوا على سيّدنا محمّد وزيدوا في محبّته
لطائفُ من الإسراء والمعراج
لَمَّا كَان صلّى الله عليه وسلّم ثمرةَ شجرة الكون، ودرةَ صدفة الوجود وسرّه، معنى كلمة “كُنْ”، ولَم يكن بدٌّ من
عَرض هذه الثّمرة بَينَ يَدَيْ مُثمرِها، ورفعها إلى حضرة قُدسه، والطواف بها على نُدمان حضرته،أرسل إلَيه أعزَّ
خدَّام المَلك عليه، فلمَّا ورَدَ عليه قادمًا وافاه على فراشه نائمًا، فقال قم يا نائم فقد هيئت لك الغنائم، قال : يا جبريل؛ إلى أين؟ قال: يا محمّد؛ ارتَفَع الأَينُ من البَين، إنَّما أنا رسول القِدَم، أرسلت إليك لأكون من جملة الخَدَم، يا محمّدُ أنت مراد الإرادة، الكلّ مرادٌ لأجلكَ، وأنت مُرَادٌ لأجله، أنت صفوة كأس المحبّة، أنتَ درَّة هذه الصدفة، أنت شمس المَعَارف، أنت بدرُ اللّطائف، ما مُهَّدَت الدار إلاّ لأجلك، ما حُميَ هَذَا الحمى إلاّ لوصلك، ما رُوَّقَ كأس المحبَّة إلا لشربكَ، فقــــال علــــيه الصّلاة والسّلام: ياجبريل، فالكريم يدعوني إليه فما الّذي يفعل بي؟ قال: ليغفرَ لكَ مَا تقدَّمَ من ذنبك وما تأخَّرَ، قالَ: يا جبريل هذا لي، فَما لعيالي وأطفالي؟ قال: “ولسوفَ يعطيك ربُّك فَتَرضَى” [[1- الضحى الآية رقم 5]]، قال: يا جبريل، الآن طاب قلبي، ها أنا ذاهبٌ إلى ربّي، ثم قال جبريل: يا محمّد، إنَّمَا جيء بي إلَيكَ اللّيلة لأكون خادمَ دولتك وحَاجب حاشيتك وحامل غاشِيتِك (أي سَرْجُ البُراق)، وجيء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك، لأنَّ من عَادة الملوك إذا استزاروا حبــيبًا، أو استـدعــوا قــريبًا، وأرادوا ظهــور إكــــرامه
واحترامه أرسلوا أخصَّ خدامهم، وأعزّ نوابهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رَسم عادَة الملوك، وآدابِ السّلوك،
ومَن اعتَقدَ أنَّه سبحانه وتعالَى يوصَلُ إليه بالخُطى فَقَد وقع في الخَطاء،ومن ظنَّ أنَّه محجوبٌ بالغطاء، فقد حُرِمَ
العَطَاء. ولبعض أهل الإشارات أيضًا: كأنَّ الله تعالى قال له صلّى الله عليه وسلّم: يا محمّد قد أعطيتك نورًا تنظرُ به جمالي، وسمعًا تسمع به كلامي يا محمّد إنّي أعرفك بلسان الحال معنى عروجك إليَّ، يا محمّــــد أرسلتك إلى النَّاس شاهدًا ومبشّراً ونذيرا، والشّاهد مُطَالَبٌ بحقيقة ما يشهد به فأريكَ جنَّتي لتشاهدَ ما أعددت فيها لأوليائي وأُريك ناري لتشاهد ما أعددت فيها لأعدائي، ثمّ أشهدك جلالي وأكشف لك عَن جمالي لتعلمَ أني مُنَزَّهٌ في كمالي عن الشّبيه والنّظير والوزير والمــــــشير، فرآه صلّى الله عليه وسلّم بالنّور الّذي قوَّاه من غير إدراك ولا إحاطة فردا صمدا لا في شَئ ولا من شئ ولا قائما بشئ ولا على شيء ولا مفتقرا إلى شيء ليس كمثله شيء فلمَّا كلمه شفاهًا وشاهده كِفاحًا (أي مباشرةً) قيل له يا محمّد لابدّ لهذه الخلوة من سرٍّ لا يُذاع، ورمز لا يشاع، فَأَوحى إلَى عبده ما أوحى فكان سرًّا من سرّ لم يقف عليه ملك مقرب ولا نبيّ مرسلٌ.
فصلّوا على سيّدنا محمّد وزيدوا في محبّته .
والسـّـــــــلامُ عَليكُم ورَحمَة اللهِ وبَرَكَاتُه