قَالَ الأَصْمَعِيُّ
[[عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد الأصمعي (121 هـ- 216 هـ/ 740 – 831 م) راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان.]] :
أقْبَلْتُ ذَاتَ مَرَّةٍ مِن مَسجِد البَصْرَة، إذْ طَلَعَ أَعْرَابيٌّ جِلْفٌ جَافٍ، عَلَى قُعُودٍ لَه، مُتَقَلِّداً سَيْفَه، وَبِيَدِه قَوْسُهُ، فَدَنَا وَسلَّمَ وقَالَ:
– مِمَّنْ الرَّجُلُ؟
– قُلْتُ: ِمن بَني أَصْمَعَ.
قال:أَنْتَ الأَصْمَعِيُّ؟
– قُلتُ: نَعَم.
– قال: َمِن أَينَ أَقبَلْتَ؟
– قلتُ: مِن مَوضِعٍ يُتلَى فيهِ كَلامُ الرَّحْمَنِ.
– قال: وَللرَّحمَنِ كَلاَمٌ يَتلُوهُ الآدَمِيُّونَ؟
– قلتُ: نَعَمْ.
– قَالَ: فَٱتْلُ عَلَيَّ مِنهُ شَيئاً؛ فَقَرَأت(سُورَة) “وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً” إلَى قَولِهِ: “وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ”.
– فَقَالَ: يَا أَصمَعيُّ حَسبُكَ!
ثمَّ قامَ إلَى نَاقَتِه فَنَحَرَهَا وقَطَعَهَا بِجِلْدِهَا، وَقالَ: أعنِّي عَلَى تَوزيعِهَا؛ فَفَرّقنَاهَا عَلى مَنْ أَقبَلَ وَأدبرَ، ثمَّ عَمَدَ إلَى سَيفِهِ وقَوسِه فَكَسَرَهُمَا وَوَضَعَهُما تَحتَ الرَّحْلِ وَوَلَّى نَحوَ البَادية وهو يَقول: “وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ”.
فَمَقَتُّ نَفسِي وَلُمْتُهَا.
ثمَّ حَجَجْتُ مَعَ الرَّشِيدِ [[هارون الرشيد، الخليفة العباسي الخامس. عاش في العراق و حكم بين 786-809. وهو هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. ولد حوالي 763م. وكان من أكثر الخلفاء العباسيين اهتماما بالعلم والعلماء، وعرف عنه أنه يَحجُّ عَامًا ويغزو عاما. تُوفي في 4 أفريل 809 بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة. ]] ، فَبَينَمَا أنَا أَطوفُ إذَا أَنَا بِصَوتٍ رَقِيقٍ، فَالتَفَتُّ فَإذَا أَنَا بِالأَعرَابيِّ وَهوَ نَاحِلٌ مُصْفَرٌّ، فَسَلّم عَلَيَّ وأَخَذَ بيَدي وَقال: – ٱتل عَلَيَّ كَلامَ الرَّحمَنِ. وأجلَسَني مِن وَرَاء المَقَام فَقَرَأت «وَالذَّارِيَاتِ» حتَّى وَصلتُ إلى قَوله تَعَالَى: “وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ”.
فَقَالَ الأعرَابي: لَقد وَجدنَا مَا وَعدنَا الرَّحمنُ حقًّا.
وقَالَ: وَهَلْ غيرُ هَذا؟
قلتُ: نَعَم؛ يَقولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: “فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ”.
قَالَ: فَصَاحَ الأعرابِيُّ وَقَالَ: يَا سُبحَانَ الله! مَنِ الذي أَغضَبَ الجَليلَ حتَّى حَلَفَ! ألَم يُصَدِّقوهُ فِي قَولِه حَتَّى أَلجَأُوهُ إلَى اليَمين؟ فَقَالها ثَلاَثاً وَخَرَجَتْ بها نفسُهُ.
تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج. 17، ص. 29-30.