فصل في سند الطريقة المدنية العلاوية
الشيخ المدني يذاكر في السند، 50. اعْلَمْ، أَخِي، أَنَّهُ قَدْ نَصَّ العُلَمَاءُ فِي دَوَاوِينِ عِلْمِ الحَدِيثِ وَعِلْمُ أُصُولِ الفِقْهِ أَنَّ السَّنَدَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ الشَّرِيفَة المُبَارَكَة كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ الشَّيْخِ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ بيرم التُّونُسِيّ بَعْدَ أَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الطَّرِيق، يَعْنِي: بِهِ طَرِيقَ التَّصَوُّفِ، لَهُ سَنَدٌ يَتَّصِل بِصَاحِب الشَّرْع العَزِيز، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
51. فَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ دِينِنَا المَتِين وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النبهاني ، فِي اخْتِصَارِهِ للمواهب اللَّدُنِّيَّة لِلْعَلَّامَة القُدْوَةِ الإِمَامِ الشَّيْخِ أَحْمَد شِهَاب الدِّينِ القَسْطَلَّانِي ، فِي خَصَائِص الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ مَا نَصُّهُ : وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أُوتُوا الإِسْنَاد وَهُو خَصِيصَةٌ فَاضِلَة مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَسُنَّة بَالِغَة مِنْ السُّنَنِ المُؤَكَّدَةِ.
52. قَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ حَاتِمٍ المُظَفَّر: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَم هَذِهِ الأُمَّةَ وَشَرَّفَها وَفَضَّلَهَا بِالإِسْنَاد، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الأُمَمِ كُلَّها قديمها وَحَدِيثها إسْنَادٌ إلى آخِرِ مَا قَالَ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بنِ المُبَارَكِ : “الإِسْنَادُ مِنْ الدّين ولَوْلاَ الإِسْنَادُ، لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ“. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِي : “الإِسْنَاد سِلَاحُ المُؤْمِنِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ فَبِأَيّ شَىْء يُقَاتِل”.
53. إذَا عَلِمْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ لَه وَاسِطَة وَسَنَد يُصَلِّ بِهِ إلَى مَصْدَرُه الأَوَّل. فَالسَّنَد فِي فُنُونٍ العُلُومِ كُلِّهَا يَكُونُ باسنادها وَاحِدًا عَنْ وَاحِدٍ إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى مَصْدَرِهَا الأَوَّل. فَالسَّنَد فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ مَثَلًا يَقْرَأَه شَيْخٍ عَنْ شَيْخٍ وَهَكَذَا إلَى مُؤَلِّفُه الأَوَّلِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ تُسْنَد الأَحَادِيث وَاحِدًا عَنْ وَاحِدٍ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُسَمَّى رُوَاةِ الحَدِيثِ، فِي الِاصْطِلَاحِ سِلْسِلَة الحَدِيث وَسَنَدُه. وَالسَّنَد فِي كِتَابِ خَلِيل يَقْرَأَه وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مُؤَلِّفه، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَكَذَا.
54. أمَّا الطَّريقُ فمصدرها الأَوَّلُ هُوَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَمَنْبَع الحَقِيقَة سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ إلَى الحَضْرَةِ الإِلَهِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ السَّنَد. وَاخْتِلَاف الطُّرُق بِاخْتِلَاف الأَسَانِيد فَقَط . وَلَيْس بَيْنَهَا اخْتِلَاف لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَاحِدٌ إنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي هَيْئَةٍ الِاجْتِمَاعِ عَلَى حَسَبِ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ شَيْخُ الطَّرِيقِ فِي وَقْتِهِ حَسْبَمَا يُنَاسِب الزَّمَانِ وَالمَكَانِ.
55. وكيفما كانَ الاصْطِلَاحُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُعْضَدًا بِالأَدِلَّة الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ وَآثَار المُتَّقِين، جَارِيًا عَلَى نَمَطٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَعَلَى كُلٍّ حَالٍ نُنَبِّه القارىء عَلَى فِعْلِ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذَّكَرِ وَالسَّمَاع وَالِاهْتِزَاز وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَحَلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
من كتاب برهان الذّاكرين للشيخ محمد المدني