بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله المُنفردِ باسمه الأسمى، المُختصِّ بالمُلك الأعَزِّ الأحمى، الذي ليس دونه منتهىً، ولا وَراءَه مَرمَى، الظاهرُ لا تَخيّلاً وَوَهمًا، الباطنُ تقدُّسًا لا عَدَما، وَسِعَ كلّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عَمًّا، وبَعث فيهم رسولاً، من أنفسهم عَرَبًا وعُجمًا، وأزكاهم مَحتَدًا ومَنمًى، وأرجحهم عقلا وحِلمًا، وأوفرهم علمًا وفهمًا، وأقواهم يقينًا وعزمًا، وأشدّهم بهم رأفة ورَحمَا، زكّاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمةً وحُكمَا، وفتح به قلوبًا غلفا، وآذانا صمًّا، فآمن به وعزّره ونَصَرَه من جعل الله له في مَغنَم السعادة قسما.
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على سَيِّدِنا ومَولانَا مُحَمَّدٍ، ترنيمةِ إنشادِ الحَبَائِب، وَآهاتِ أشْواق الهَائِمين على النَّجائِبِ، مَنْبَعِ رَقائق المُسَبِّحين بِالمَشارِقِ والمَغَارِب، وعلى آلِهِ وصَحْبِه الحائزينَ بِحُبِّهِ أسْنَى المَطالِبِ، صلاةً وسلامًا يَشملان روحَ الحَبيبِ في أرْقَى المَرَاتِب.
1. استغفار النبي، صلّى الله عليه وسلّم
تواتَرت الأخبار الصحيحة بِأنَّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، كان مواظبًا على الاستغفار، آناء الليل وأطرافَ النهار، فممّا جاء في صحيح الآثار عن أبي بردة قال سمعت الأغرَّ، وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، يُحَدِّث ابنَ عمرَ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “يا أيُّها الناس. تُوبوا إلى الله، فَإنِّي أتوبُ في اليوم إليه مائة مرة” .(رواه مسلم). وفي صحيح البخاري: عن أبي هريرةَ، رَضي الله عنه، قال : سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم يقول: “والله إنِّي لأستغفر اللهَ، وأتوب إليه، في اليوم أكثر من سبعين مَرَّة” . وقد أدام صلّى الله عليه وسلّم الاستغفار والإنابة مَع أنَّ الله تعالى صرَّح بغفرانه ما تقدّم من ذَنبه ومَا تَأخَّر، ورغم أنَّ العصمة الإلهية ثابتةٌ له بإجماع عُلماء الأمّة. ولذلك جالت أنظار العارفين وتَهَمَّمت أفكار الثابتين في إدراك مَعنى استغفار النبي، عليه الصلاة والسلام، وأوَّلوه على أقوالٍ عَديدة، أحدُها أرقّ من الآخر:
1) فقال جماعةٌ من العلماء إنَّ استغفاره، صلّى الله عليه وسلّم من أجلّ العبادة والزيادة في الدرجات العلى، وبغرض التعليم لأمّته، حتَّى تستنَّ به وتقتدي في هذا العمل الصالح الذي يزيد من الله قربا وفي جلاله حبًّا.
2) ويرى عُمدة المفسّرين، الإمام القرطبي: “أنَّ الاستغفار النبوي تعبدٌ للنبي، عليه السّلام، بالدعاء، كما قال تعالى: “وآتنا ما وَعَدتَنَا“.، والفائدة زيادة الدَّرَجات، وأن يصير الدعاء سُنَّةً لِمَنْ بَعدَه”. فَعُلِمَ من هذا أنَّ استغفار النبي، صلّى الله عليه وسلّم، الذي غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تَأخَّر، وتَعميمه لكلّ ما ذكر في الحديث هو عِبَادة وتَعليم، وليكون الاستغفار والتوبة شاملة لكلّ ما عَمِلَه العبدُ، مما عَلِمَه ومَا لَم يعلمه”.
3) وقالت جماعةٌ أخرى من العلماء: إنَّ استغفار النبي، صلّى الله عليه وسلّم، من أجل فَتَرَاتِه عن الذكر، الذي شأنُه أن يداوِمَ عَلَيه، فإذا فَتَرَ عنه لأمرٍ ما، عُدَّ ذلكَ في مقامه العالي تقصيرًا، فَتاب منه واستغفرَ.
4) وأمّا الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال في “فَتح الباري” : “ويُحتَمل أن يكون كثرةُ استغفار النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وتوبته من انشغاله بالأمور المُبَاحة من أكل أو شرب أو نوم أو راحة أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم (…) وتَأليف المُؤَلَّفة وغير ذلك… مما يَحجُبُه عن الاشتغال بذكر الله والتضرُّع إليه و مراقبته فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المَقام العَلي.”
5) ويرى شارح سُنن ابن ماجة أنَّ : ” الاستغفارَ منه، صلّى الله عليه وسلّم، مَعَ أنَّه قد غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ليس لِمَغفرة الذنوب، فإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مَعصومون من الكبيرة و الصغيرة- على الأصح- ولكن لا يَخفى أنّه لا بدّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم من معاشرة الأمَّة لتبليغ الأحكام وفَصل خصوماتهم وتَعليم آدابهم، ففي هذه الحالات لا بدّ له من مناسبةٍ بَينَه وبين الخلق، وهذا الاشتغال بالخلق يَصرفه عن المشاهدة التّامة في الجملة، (…) ويحصل به الفتور في الحالة السابقة، فيلتجئ إلى الله تعالى بالاستغفار لطلب الحالة السابقة، وهو المعّبر عنه بالغين في قوله صلّى الله عليه وسلّم: “وإنّه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة“، كما في رواية مسلم.
6) وجاء عن السُّبكيّ: أنّ استغفار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً، وهو: تشريفه من غير أن يكون ذنبٌ، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم لا ينطق عن الهوى. وقد ثبت أنّه صلى الله عليه وسلّم كان “يستغفر في اليوم الواحد سبعين مرّةً، ومائة مرّةٍ“، بل كان أصحابه يعدّون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: ” ربّ اغفر لي وتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الغفور مائة مرّةٍ“.
7) ونختم بما ورد عن خاتمة المفسّرين وطودهم سيّدي الشيخ الطاهر بن عاشور: “استغفاره جالب أعظم مغفرةٍ، وهي المغفرة التي تليق بأعظمِ من تَابَ على تائبٍ، وليست إلاّ مغفرة جميع الذنوب سابقها، وما عسى أن يأتي منها، مِمّا يَعُدُّه النبي صلّى الله عليه وسلّم ذنباً لشدّة الخشية (من الله) من أقلّ التقصير كما يقال: ” حَسَناتُ الأبرار سيّئات المقربين“، وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم معصوماً من أن يأتي بعدها بما يؤاخَذ عليه. و قال ابن عطية: وإنّما المَعنى التشريف بهذا الحُكم، ولَو لَم تَكن له ذنوب”.
فالخلاصة أنَّ الاستغفار النبوي هو من مقامات التشريف العالية، ومدارج القرب الغالية، وهو إنابة يعبّر بها النبيء صلّى الله عليه وسلّم عن أصفى مَراتِب العبودية، ويُظهر به أزكى عبارات الرجاء في الله و الأمنية، سعيًا وراء رضا الله تعالى بالكليّة وقطعًا مع فتراتِ الغَيرية.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على سَيِّدِنَا ومَولانَا مُحَمَّدٍ، مَرَاحِ الإسْعَاد، ومِرقَاة السَّدَاد، مِفتَاح الفَيْضِ والإمْدَاد، ومَجْلَى حَلاوَةِ الوِدَاد، وعلى آله وصَحْبِهِ الأقْطاب الأوْتَاد، صلاةً و سلامًا تملآن مراحَ الأباطِحِ و الوِهَاد.
2. ثوبان مولى رسول الله، رضي الله عنه
ومن سادات المستغفرين الأعيان، الصدِّيقين ذوي الشأن، الصحابي الجليل سيّدنا ثوبان، وهو مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي تشرّف بخدمتهِ سنين عددًا، وتنوّر بصحبته واغترف من أنواره مددًا. ينحدر أصله و منتماه إلى قبيلة حَكم بن سَعدٍ، حظي بالفخر الأعظم حين اشتراه الرسول الأكرم، ثم أعتقه فخدمه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، وهاجر ثوبان إلى الرملة و إلى حمص و مات بها سنة أربع وخمسين، كما ذكره ابن سعدٍ في كتاب “الطبقات الكبرى”. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: ” اشتراه النبي صلّى الله عليه وسلّم و أعتقه، فلزم النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، وحفظ عنه كثيراً من العلم، وطال عمره، واشتهر ذكره”. وزاد ابن الأثير: “لمّا أعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلمّ، قال له: إن شئت أن تلحق بمن أنت منهم، وَإِن شئت أن تكون منّا أهل البيت، فثبت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يزل معه سفراً و حضراً إلى أن توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إِلَى الشام، فنزل إِلَى الرملة .. وشهد فتح مصر”.
وقد جاء عن ابن السكن من طريق يوسف بن عبد الحميد قال : لقيت ثوبان فَحَدَّثني أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم دعا لأهله، فقلت: أنا من أهل البيت؟ فقال: في الثالثة نعم، ما لم تَقُم على باب سِدَّة (أي صاحب سلطان)، أو تأتي أميراً تسأله”، تربيةً لقلبه على التعلّق بالله و الانْصِراف عمّا سواه.
وروى أبو داود من طريق عاصم عن أبي العالية عن ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يتكفّل لي ألاّ يسألَ و أتكفّل له بالجنّة ؟، فقال ثوبان: أنا“. فكان لا يسأل أحداً شيئاً. ذكره الحافظ ابن حجر، رحمه الله في كتاب “الإصابة”.
ويروي ثوبان رضي الله عنه: قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ صُبَيْحٍ ، قَالَ : ثنا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ اللَّخْمِيِّ ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،قَالَ : ” نزل بِنَا ضَيْفٌ بَدَوِيٌّ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ أَمَامَ بيتهِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ النَّاسِ كَيْفَ فَرَحُهُمْ بِالإِسْلامِ ؟ وَكَيْفَ حَدَبُهُمْ (أي مُحافظتهم) عَلَى الصَّلاةِ ؟ فَمَا زَالَ يُخْبِرُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالَّذِي يَسُرُّهُ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَضِرًا (أي مشرقًا) ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ ، وَحَانَ أَكْلُ الطَّعَامِ ، دَعَانِي مُسْتَخْفِيًا لا يَأْلُو : ” أَنِ ائْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفًا ” ، فَقَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ، مَا أَصْبَحَ فِي بَيْتِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، فَرَدَّنِي إِلَى نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ يَعْتَذِرْنَ بِمَا اعْتَذَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَرَأَيْتُ لَوْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُسِفَ ، فَقَالَ الْبَدَوِيُّ : إِنَّا أَهْلَ الْبَادِيَةِ مُعَانُونَ عَلَى زَمَانِنَا ، لَسْنَا بِأَهْلِ الْحَاضِرَةِ ، إِنَّمَا يَكْفِي الْقَبْضَةُ مِنَ التَّمْرِ يُشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّبَنِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ ، فَذَلِكَ الْخِصْبُ . فَمَرَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْزٌ لَنَا قَدِ احْتُلِبَتْ ، كُنَّا نُسَمِّيهَا ثَمَرَ ، فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهَا : ” ثَمَرَ ثَمَرَ ” ، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ تُحَمْحِمُ ، فَأَخَذَ بِرِجْلِهَا وقال بِسْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ اعْتَقَلَهَا بِسْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ مَسَحَ سُرَّتَهَا بِسْمِ اللَّهِ ، فَحَطَّتْ ، فَدَعَانِي بِمِحْلَبٍ ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ ، فَحَلَبَ بِسْمِ اللَّهِ ، فَمَلأَهُ فَدَفَعَهُ إِلَى الضَّيْفِ ، فَشَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً ضَخْمَةً ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَضَعَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : ” عِلْ ” (أي اشرب من جديد) ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَضَعَهُ ، فَقَالَ لَهُ : ” عِلْ ” ، فَكَرَّرَهُ عَلَيْهِ حَتَّى امْتَلأَ وَشَرِبَ مَا شَاءَ ، ثُمَّ حَلَبَ بِسْمِ اللَّهِ وَمَلأَهُ ، وَقَالَ : ” أَبْلِغْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا ” ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ مَا بَدَا لَهَا ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِ ، فَحَلَبَ فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَى نِسَائِهِ ، كُلَّمَا شُرِبَ مِنْهُ رَدَدْتُهُ إِلَيْهِ ، فَحَلَبَ فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ فَمَلأَهُ ، ثُمَّ قَالَ : ” ادْفَعْهُ إِلَى الضَّيْفِ ” ، فَدَفَعْتُهُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، فَشَرِبَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَعْطَانِي ، فَلَم آلَ (أي أتماسك) أَنْ أَضَعَ شَفَتِي عَلَى دَرَجَ شَفَتِهِ ، فَشَرِبْتُ شَرَابًا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ، وَأَطْيَبَ مِنَ الْمِسْكِ ، ثُمَّ قَالَ : ” اللَّهُمَّ بَارِكْ لأَهْلِهَا فِيهَا ” . ( حديثٌ مرفوع : تاريخ واسط لأسلم بن سهل الرزاز).
ومن بركات سيّدنا ثوبان نزول الآية الكريمة ” وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا” (النساء: 69) في حقّه قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – وكان شديد الحبّ له، قليل الصبر عنه، فَأتاه ذات يوم وقد تغيَّرَ لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
يا ثوبان ما غَيَّرَ لونَكَ ؟ فقال : يا رسول الله ما بي من ضرٍّ و لا وَجَعٍ، غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناكَ، لأنّي أعرف أنّك ترفع مع النبيين، وأنّي إن دخلت الجنّة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنّة فذاك أحرى أن لا أراك أبدًا” فأنزل الله تعالى هذه الآية. فرضي الله عن سيّدنا ثوبانَ وأكرمه بجنّة الرضوان مع سيّد الأكوان.
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على سَيِّدِنا ومَولانَا مُحَمَّدٍ، أفضلَ مَن اعتَلى المَنابرَا، فَفَتَحَ بأنوار هَدْيهِ البَصائِرَا، أزْكَى البَريِّةِ أصولاً وعَنَاصِرَا، وعلى آله وصَحْبِهِ مَن حازوا المَعاليَ والمَآثِرا، صلاةً وسلامًا يَعْبَقَان طيبًا ويَضوعَان أزاهرَا.
3. من شعائر الطريق: السياحة
ومن شعائر الطريق الثابتة وشرائعه الفائقة هي السياحة في ذات الله، والتزاور طمعًا في رحمته ورضاه، وقد سَنَّها كبارُ العارفين وكُمَّلُ الواصلين. استروحوها من قول الله تعالى: “ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَ بَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ” (التوبة: 113). ويؤكّد الإمام القرطبى في تفسيره: “هم الصائمون أو المهاجرون أو المسافرون لطلب العلم، أو الجائلون بأفكارهم في عالم الملكوت“. وأكَّدَ النقاش: “السائحون هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله و ملكوته”.
كما استَمَدَّ القوم مشروعيّة السياحة من الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله صلّى الله وسلّم عن ربّه فيقول: ” وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ“) الترمذي عن أبي إدريس الخولاني). وقد ساح عليه الصلاة والسلام إلى الطائف لنشر الإسلام وهاجر إلى المدينة و أرسل معاذًا يعلّم النّاس في أرض اليمن.
وقد جاء عن مشائخ التحقيق أنَّ السياحة هي “السفر في الأرض على جهة الاعتبار طلبًا للاستبصار“، ويقصدون بها سياحة السالك ومفارقته الأوطان لتصفيّة القلب بالعبادة و الذكر و التفكّر. ويُعدّ العارف الكامل سيّدنا ذو النون المصري (ت. 245 هـ) من أكثر العارفين سياحةً في الآفاق و أكثرهم لقاءات مع الزهّاد و العُبّاد و الوالهين من المنقطعين في الزوايا والبَراري و رؤوس الجبال، من القيروان غربًا إلى مَكةَ شرقًا، حتى قال فيه ابن عَربى: “لم أرَ في الجماعة أكثر سياحةً واجتماعًا بأولياء الله من ذي النون المصري”.
وقد جعل الصوفيةُ السياحة وسيلة لتهذيب الأراوح وإرْوائِها من لطائف الرَّاح، فهي تنفع الزائر و المَزور، وتملأ القلوب نورًا، ولذلك حافظ عليها سيّدي الشيخ محمد المدني رحمه الله طيلة حياته وخَصَّص بياضَ أيّامه وسواد لياليه للنهوض بهذه الشعيرة الطيّبة، فَساح إلى الفُقراء والمريدين في المدن و الأرياف، حاملاً إليهم الأحوال الفائقة و الأذواق الشارقة، بالإضافة إلى تهذيب أرواحهم و تربيّة قلوبهم.
ومن جهةٍ ثانيةٍ، حثّ الصوفية على سياحة الكدِّ و طلب الرزق امتثالاً لقوله تعالى: ” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (الملك: 16). حتى تكون سياحةٍ جدٍّ وعملٍ وإسعادٍ للعيال وكلّها من قيم الدّين الحنيف وتعاليمه الخالِدة.
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على سَيِّدِنا ومَولانَا مُحَمَّدٍ، كامل المَعَالي و الأوْصاف، المَحفوف بِجَلِيِّ العِنايَات وخَفِيِّ الألْطاف، سرِّ أشواق الأسْلاَفِ والأخْلاَف، ما تُليت في العَالمين آيُ الأحقاف، وعلى آله وصَحبهِ سَادَة الأشراف، صَلاةً وسلامًا يُحرِّكَان مِن العُشَّاق هِزَّةَ الأعْطَاف.
4. من اللطائف
رَوى سَيِّدنا أبو هريرة، رَضيَ الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
“لَمَّا أدناني رَبِّي حتى كنتُ كما قال تعالى: ” قَابَ قَوْسَيْن أو أدنى” (النجم: 10 )،
قال: وسَألني رَبي، فلم أستَطِع أن أجيبَهُ. فَوَضع يَده بين كتفيَّ، بلا تَكييفٍ ولا تَحديدٍ، حتَّى وَجدت بَرْدَها على فؤادي، فَأورَثَني علمَ الأوّلين و الآخرين، وعَلَّمني علومًا شَتَّى: فَعِلمٌ أخَذَ عَلَيَّ العَهد بكتمانه إذ عَلِمَ أنَّه لا يطيقُ حَمْلَه أحدٌ غَيري، وعِلْمٌ خَيَّرني فيه، وعَلَّمَني القرآنَ، فَكان جبريل عليه السلام، يُذَكِّرُني به. وعِلْمٌ أمَرَني بِتَبليغه للعامِّ و الخَاصِّ مِن أمَّتي “.[[ ذكره مختصر المواهب اللدنيّة للقَسْطلاني في صحيح سيرة النبي صلى الله عليه وسَلَّم. ج. 2، ص. 381-82. بَحث الإسراء والمعراج.]]