طرق صوفية عديد شكلت المشهد الطرقيَّ في تونس، وزاد عددها في بداية القرن الماضي وانتشرت بشكل كبير ولافت في كل أرجاء البلاد، ولعلّ من أهمّها الطريقة المدنية التي أسسها الشيخ محمد المدني في مدينة قصيبة المديوني من ولاية المنستير منذ أكثر من مائة عام. وظلت الزاوية المدنية تتطور باستمرار وتواكب متطلبات العصر ما جعلها وجهة الآلاف من المريدين والباحثين عن المعرفة وتدبر العلوم الدينية والدنيوية. وفي الزاوية مكتب الشيخ منور المدني الذي يحوي مكتبة ضخمة فيها صنوف العلوم والآداب وفيها أيضا مسجد جامع واسع الأرجاء أقام فيه القائمون على الزاوية معرضا ضخما وهاما أرّخ لمائة عام من عمر الطريقة، وفي الزاوية أيضا ساحة كبرى لإقامة الاحتفالات وصلاة التراويح والأذكار وتحفيظ القرآن الكريم وتعلّم ما تيسّر من علوم الدين… كما تضمّ الزاوية في جانب منها مقام الشيخ محمد المدني مؤسس الطريقة الذي يزوره المريدون لقراءة الفاتحة. وتفد على الزاوية أعداد غفيرة في ذكرى المولد النبوي الشريف كل عام وتعتبر هذه أكبر وأهمّ مناسبة للالتقاء بين أتباع الطريقة المدنية حيث يقدم الشيخ منور خطبة المولد وتتلى الأذكار وتقام الحضرة النبوية.
وتَسْتَمِدُّ الطريقة الـمَدَنيّةُ مَنْهَجَهَا مِنَ الإرْثِ الـمُحَمَّدِيِّ عَبرَ السَّند الـمُتَّصلِ أربعةَ عَشَرَ قَرنًا. وقَد أَنْشَأَهَا مُحمَّد المدني (1888/1959) سنةَ 1909، بَعدَ تَخَرُّجه من جَامِع الزيتونة وَتَضَلُّعِهِ فِي العلوم الشرعيّة. وإثر السنوات الثَلاث التي قَضَّاها بالجزائر فِي صُحبة شَيخه سيدي أحمد العلاوي، عَادَ إلى تونس ليَنشرَ طريقَ الله طيلةَ نِصف قرن. تَرَكَ خَمسةَ عشرَ مؤَلَّفًا في مُختَلَف العلوم الدينية والتصوف الإسلاميِّ. وما تزالُ الطريقة المدنيّة تُوَاصِلُ إشْعَاعَهَا، منذُ1959 بإشْرَاف خَلِيفَتِه مُحمَّد المنور المدني الذي سَخَّرَ حَيَاتَه لخدمة التصوّف الحقِّ وَنَشْرِ الـمَحَبّة النَّبويّة. فبفضْلِ تَبَحُّرِه في علوم الشريعة، وتَفَانيه الفائق في المصطفى صلى الله عليه وسلم، امتدَّ نورُ الطَّريقة إلى عِدَّةِ دولٍ. ويقول الشيخ محمد المداني أن من أهمّ الأسس التي ارتكزت عليها الطريقة المدنية الدعوة للعلم والمعرفة والحث على الاعتدال والوسطية والتسامح وهي قيم دعا إليها الإسلام منذ بداية الدعوة كما تؤسس الطريقة إلى نبذ التعصب والشعوذة والخرافة، ويضيف أنّ «الرسول صلى الله عليه وسلّم بقي عشر سنوات يعدُّ المسلمين ويربيهم على مكارم الأخلاق ويبعدهم شيئا فشيئا عن ظلمات الجاهلية لينتقل بهم بعد ذلك إلى المدينة المنورة حيث ينطلق المسلمون في تطبيق الشعائر بعد أن تشبّعوا بالمعرفة والخلق الحميد..». والطريقة المدنية التي أسس لها المرحوم سيدي محمد المداني تهدف في الأساس إلى تقديم الصورة الحقيقية عن التصوف الإسلامي وتسعى الى تغيير التصور السائد على الطرق الصوفية من أنّها تكريس للخرافة والشعوذة وغيرها من الصور النمطية لهذه الطريقة التي لها مريدون بالآلاف ينتشرون في كامل البلاد التونسية تقريبا فضلا عن أوروبا وتحديدا باريس حيث لها فروع وزوايا لتعليم اللغة العربية وتلقين أصول الفقه الإسلامي وتقديم الوجه الحقيقي لديننا الحنيف دين التسامح والمحبة والسلام والاعتدال والوسطية لأبناء تونس في المهجر ولسائر الجالية العربية والمسلمة وكذلك للغرب المتعطش لمعرفة المزيد عن دين محمد عليه الصلاة والسلام.
الشيخ محمد المدني
وُلدَ الشيخُ محمد المدني بن خليفة بن حسين بن الحاج عمر خلف الله سنة 1307/1888 في أسرة فلاحيّة متواضعة بقصيبة المديوني. زاول تعلُّمَهُ الأوَّلي في كُتّاب القرية حيث حفظ القرآن وتلقَّى مبادئ اللغة العربية قبل أن يلتحق بجامع الزيتونة بالعاصمة التونسية حيث تتلمذ على أيدي علماء معروفين مثل شيخ الإسلام المالكي، سيّدِي بلحسن النجّار والعلامة الشيخ الطاهر بن عاشور. التقى الشيخ محمد المدني بالشيخ أحمد العلاوي أثناء زيارة هذا الأخير لتونس فأخذ عليه العهد ثم ما لبث أنْ صحبه إلى الجزائر حيث تجرَّد هناك لمدة ثلاث سنوات متقطّعة أفاد خلالها الفقراء العلويين بعلومه ومعارفه الجمّة ثم عاد إلى تونس وبدأ في نشر الطريق منذ 1910 حيث بنى زاويةً واستمرَّ على توسيعها فصارت المركز الأساسي للطريقة المدنية. وتولَّى بعد عودته من الجزائر التدريس. قضى الشيخ محمد المدني كلَّ حياته في الذّكر والمذاكرة والتدريس فهو لم يفتأ بين مجالس الذكر التي تكاد تكون منظمة بشكل يومي في الزاوية المدنية وفيها يدرَّسُ القرآنُ والفقه والتصوّف. وكثيرا ما كان الشيخ يتنقَّل بين المدن والأرياف التونسية للدعوة إلى الله و تبليغ رسالته ولم تخلُ سياحاته المنتظمة والمتصلة من تدريس للفقه وتعليم لأصول الدين. وهكذا فإن أعمال الشيخ تتلخَّص في تهذيب نفوس الفقراء الذين كانوا يقصدونه من كل مناطق البلاد طمعا في معرفة الله. وقد صنَّف الشيخ محمد المدني في كافة فنون المعرفة ولمْ يَترك علما إلا وألَّف فيه إذ مكنه تكوينه الديني واللغوي المتين من تعاطي تفسير القرآن والحديث وإصدار الفتاوى، حسب المذهب المالكي إلى جانب الشعر والرسائل والحكم الصوفية، وامتاز أسلوبه في التفسير بالوضوح والسلاسة إلى جانب الجمع بين المعاني الظاهرة والمعاني الباطنة ومن أهمُّ أعماله في التفسير: «المعرفة الواضحة في تفسير سورة الفاتحة» و«الروضة الجامعة في تفسير سورة الواقعة» وفي التصوف نذكر «برهان الذاكرين» و«رسالة تحفة الذاكرين وحكم العارفين»…
رحلة التنوير تتواصل…
وتتواصل رحلة الطريقة المدنية بعد أن قادها الشيخ محمد علي على امتداد خمسين عاما، حيث تسلّم الشيخ منور المدني المشعل لخمسين عاما أخرى ومازال يتابع المسيرة، مسيرة العلم والتنوير، والشيخ من مواليد سنة 1937، حفظ القرآن الكريـم بالزّاوية المدنيّة وبعد ذلك بالفرع الزيتونـي بالـمنستير، إثر ذلك توجّه إلى دراسة علوم اللّغة العربيّة والشرعيّة على يد والده الشيخ محمد المدني، استهلّ حياته العملية بالاشتغال في الإرشاد الاجتماعي وتعليم الكهول كما شغل منصب «الإمام الخطيب» بجامع سيدي عبد الله المديوني لثلاثين عاما متتالية، وعمل منتجاً للبرامج الدينية بإذاعة المنستير منذ سنة 1978 وحتى اليوم. أما حياته الروحية فتميّزت بنشاط دؤوب منذ سنة 1959 حيث لم يتوقّف عن استقطاب المريدين وتنظيم الدروس والاجتماعات في الزاوية المدنية وقد أدّى خدمةً جليلةً بالمحافظة على الرصيد المكتوب للشيخ محمد الـمدني فمنذ سنة 1979 لم ينقطع عن نشره وتحقيقه، ويشرف بشكل رائع على الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف منذ 1969 حيث يلقي خطبة المولد، وفي رصيد الشيخ ما يزيد عن ألف خطبة منبرية ومئات المحاضرات والبرامج الإذاعية…
فروع وموقع إلكتروني
وللطريقة موقع إلكتروني يجد إقبالا كبيرا ويتمّ تحيينه بشكل دائم ويقدم تعريفا بمبادئ الطريقة وأهدافها بخمس لغات هي إلى جانب العربية الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والإسبانية والروسية، وللزاوية فروع في جلّ مناطق البلاد التونسية فضلا عن فرعين في فرنسا. كما يعمل القائمون على الزاوية حسب ما أكد السيد بدري المدني على طبع ما أمكن من كتب الشيخ المؤسس وكذلك الخطب المولدية للشيخ منور مع إنجاز أقراص ليزرية تؤرشف وتؤرخ للطريقة المدنية وأهمّ فعالياتها وإنجازات أتباعها.