وَثيقَةٌ تاريخيَّةٌ نادرِة، بلْ لَطيفةٌ رَبَّانِيَّةٌ فاخِرة هذه الإجازَة الشريفة التي أسندها الشيخ سيدي أحمد العلاوي لسيّدي الشيخ محمد المدني، رَحِمَهما الله. ونتشرَّف اليوم بنشرها حتَّى نستنيرَ بما فيها من مُذاكَراتٍ، تُعينُنا في السّير إلى الله.
بِسم الله الرَّحمَن الرَّحيم
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدنَا ومَوْلانَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ تَسليمًا.
يَقولُ الفقيرُ إلى رَبِّهِ، عَبْدُهُ أحمدُ بنُ مُصطَفَى بِنُ عَليوَةَ المُستَغانَمي:
1. حَمدًا لِرَبِّنَا عَلى مَا أوْلانَا مِن الكَرَمِ، جَلَّ ثَناهُ، يَتَزَايَدُ بِتَواصل النِّعَمِ عَلى العَبد مِن مَوْلاه. وأشكُرُه عَلَى البَاقِياتِ الصَّالِحاتِ في هَاتِه المِلّةِ، مِلّةِ إبْراهِيمَ حَنيفًا، التي اسْتَلْزَمَتْ بَقاءَ هَاتِهِ الطَّائِفَةِ، التي سَقاهَا رَبُّهَا مِن لَذيذ لَطائِفِهِ، طَائفةِ المُحَقّقينَ، المُخْبَرِ عَنها في حَديثِ سَيِّدِ المُرْسَلينَ :”لاَ تَزَالُ طائفةٌ مِنْ أمَّتِي ظَاهرينَ عَلى الحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأتيَ أمرُ الله وهُم على ذلكَ”. فَيا سَعادَةَ مَن تَمَسَّكَ بِأذْيالِهِم ! ويَا فَوزَ مَنِ اعْتَمَدَ عَليهم، فَيشرَبَ مِن مَناهلهم، بِشَرْط الاتِّصالِ بِهِمْ، فَحَذْفُ الواسِطَة اخْتِلالٌ. والسّيرُ بِدونِ دَليلٍ مَظَنَّةُ الضَّلال. فَإذَا كَانَتِ الوَاسِطَةُ مَطلوبَةً، فالإجازَةُ إذَنْ مَشْروعَةٌ وَمَرْغُوبَةٌ. وهِيَ عَلى قِسمين : قَلْبِيّةٍ ولَفْظِيّةٍ. فَالقَلْبِيَّةُ هي التي خُوطبَ بها، صلَّى الله عليه وسلم، في قَوله: “ومَا كُنْتَ تَدْري مَا الكتابُ وَلاَ الإيمانُ ولَكنْ جعلنَاهُ نورًا نَهدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ”.
2. واللفظيّة هي المُشارُ لَها بِقَوْلِه: “يا يَحْيَى خُذِ الكتابَ بقوّة”.
3. ولا بُدَّ وأنْ تَتقدَّمَ عَلَيْها الإجازَةُ القَلْبيّة، وقَد أُخْبِرَ عَن تَقَدُّمِها في قَولِه: “وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا”، فَهذِه إجازَةُ العَارِفينَ، الذينَ لَهُم لِسانُ صِدْقٍ في الآخِرينَ.
4. هَذا أيّها الفَقيرُ الفَاني، المُنْتَسِبُ الرَّبّانيُّ، مُحَمّدُ بنُ خلـيفَةَ بنُ الحَـاج عُمَـرَ، المَشهور بالمَداني، وقَد عَاشرتَنَا أيَّامًا، فأزالَ اللهُ عَنكَ حُجُبًا وأوْهامًا، واستَفَدْتَ مِنَّا بِقدْر مَا لكَ مِنَ الرَّغْبَةِ فينَا.
5. وَعلَيْهِ: فَيَجبُ عَليكَ أنْ تُفيدَ إخوانَكَ مِنَ العَبيد، لأنّهُ مَهْما استفادَ الإنسانُ إلاَّ وَيَجِبُ عَلَيه أنْ يُفيدَ، إذ لاَ يَحِلُّ للإنْسانِ أَنْ يَكتُمَ مَا أُعْطيَهُ مِن العِلم السَّديدِ. فَهَذه رُتبَةُ الإرْشَادِ تَطلُبُكَ بكلِّ الاجتِهاد، فأرْشِدْ مَنِ استَرْشَدَكَ، وصِلْ مَن قَطَعَكَ، فَإنَّا أجَزْنَاكَ في الطَّريقَة الشاذُلِيَّة الإجازَةَ اللفظيَّةَ تَعْضيدًا لِمَا تَقَدّمَ لَكَ مِنَ الإجَازَةِ القَلْبِيَّة.
6. وَعَليكَ بِمَحَبَّةِ رَبّكَ، فَاللهُ يُنْزِلُ عَبْدَهُ حَيْثُ أنْزَلَهُ العَبدُ مِن نَفْسِهِ، فَأرْجو اللهَ لَكَ دَوامَ الوِدادِ. واعْلَم أنَّ المَدَدَ يَكون بِقَدر الاستِعْداد. ولا يَخفاكَ مَا عَرَفْتَهُ مِن سِيرَتِنا، فَاتَّبِعْ أحْسَنَهُ، ولاَ تَقْتَدِ بِتَقْصيرِنا في الإرْشادِ، فَقَد كَانَ أستاذُنا سَيّدي مُحَمَّد البُوزيدي يَسهَرُ اللياليَ العَديدَةَ لِنَفْع العِباد.
7. واتّبع سيرَةَ أسلافِنَا ومَن أخَذْنا عَنْهُ طَريقَنَا فإنّكَ مُتَّصِلٌ بِهم مَا دُمْتَ على سِيرَتِهِم، فَحَافِظْ – باركَ اللهُ فيك- عَلَى وِدِّهِمْ وعَهْدِهِمْ فاللهُ يَحفظكَ وهو “خَيرٌ حِفْـظًا وهـو أرْحَـمُ الـرّاحـمين” (يوسف64).
8. وفِي الخِتام، أسألُ اللهَ العظيمَ بِجاهِ نَبِيِّهِ الكَريم، عَليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أنْ يَحفَظَنَا فِيمَا مَنَحَنَا ويُوَفِّقَنا لِما أمَرَنَا.
9. اللّهمّ بِحَقّ نَبيّكَ الأكْرَم ورَسولكَ الأعْظَمِ خيرِ مَن تَأخَّرَ وَتَقَدَّمَ، أسألكَ أنْ تُهَيِّىءَ لَه الصِّراطَ المستقيمَ فإنّنا أوْقَفْناه ببابكَ، يُحَبِّبكَ للخَلْق ويُحَبِّبُ الخَلقَ إلَيْكَ، فَافْسَحِ اللّهمَ لَه مَعرفتكَ، واحْفُفْه بجنودِ نُصْرَتِكَ، وأدْخِلْهُ في حَيِّزِ مَنَعَتِكَ، واحْفَظْ مَن تَعَلَّقَ به بِفَضل الدِّخولِ لِحَضْرَتكَ، وكُن يا مَولانَا سَمْعَهُ وبَصَرَهُ ويَدَهُ وَرِجْلَهُ، وأفْنِهِ يا رَبَّنَا عَن وُجودِهِ في وُجودِكَ حَتَّى لا يَبْقَى لَه وبِهِ إلاَّ مَا هو لَكَ وبكَ، آمين، بِحُرمَة سَيّدِ المُرسَلينَ، وآخرُ دَعْوانَا أنِ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمين.
10. كُتِبَ عَنْ إذْنِ الأستَاذِ، رَضيَ الله عَنْهُ، بِلَفظِهِ، فإنّكَ تَرى أسْفَلَه أثرَ خَتْمِهِ، نَفَعنَا اللهُ وجَميعَ المسلمين آمين.
وكُتبَ في الحادي عشرَ من ذي الحِجَّة، عامَ تِسعَةٍ وعشرينَ وثلاثمائة وألف هجريّة (2 ديسمبر 1911) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحيّة.
أحمد بن عليوة
تحقيق. ن. المدني
الزاوية المدنية 16 أوت 2017.