نَعْرض على حَضَراتِكم هذه الوثيقة النادرة التي تَصِفُ زيارةً قام بها سيدي الشيخ محمد المدني إلى شيخه سيدي أحمد العلاوي، رضي الله عنهما، أثناءَ مرضه سنة 1929 وفيها ينقل ما دار حينَها من لطائف المذاكرات. وثيقة نادرة ولطيفة ربانية فاخرة.
1. الأستاذُ العَلوي انْحَرَفَ مِزاجُهُ اللطيف واشتَدَّ بهِ الألمُ حَتَّى بَلغَ به ما يَبلغُ بِالمُشْرفِ عَلى دارِ السَّلام، فَصارَ لا يَقدرُ عَلى الكلام، إلاَّ بِشِقِّ الأنفس، فَوَرَد إليه الناسُ أفواجًا وفُرادى، من كلِّ جهَةٍ وقُطْرٍ، خُصوصًا أتباعُه الصادقينَ، فَكانت زاويتُهُ المَعمورَة في ازدحامٍ عَظيم من كثرَةِ الوارِدينَ.
2. وعِندمَا تمَثَّلَ الزائرونَ بحضرة الأستاذ، وكان البيتُ مُكْتَظاً بهم، وهو على تلك الحالَة في غايَة التَّوَجُّع تَكَلَّم لَهم بمواعظِهِ كَالعادة، والكَلام يُتعِبُهُ ويُجهده قائِلاً ما معناه:
3.اعلمَوا أنَّ كلَّ مَن يُرشِدُ إلى التَّوحيد المَحْضِ الخالص مِن الشِّرك الظاهر أو الخَفِيِّ، فهو الناصحُ المُخلِص في إرشاده. فَإنَّه يَجبُ على المُكَلَّف أن يُطَهِّر قَلبَه من جميع شوائب الإشراك، فَيَمحو منه كلَّ شَريكٍ، فإنَّ ما دونَ اللهِ لا يُغني عَن العَبد شيئاً كيفما كان ذلك الدونُ.
4.فَاعتقادُ الجاهلية الأولى في الأصنام وعبادُتُهم لَها ضلالٌ مُبينٌ وذَنبٌ لا يُغْفَر، ” إنَّ اللهَ لا يَغفر أن يُشرَكَ به ” (النساء: 115). واعتقادُ بعضِ العامة أنَّ زيدًا يَنفع أو يَضرُّ أو يُمرضُ أو يَشفي اعتقادٌ فاسدٌ يلزمُ تطهيرُ القلبِ منه وإلا كان على خَطرٍ عَظيم.
5.وأنتم ترونَ بَعضَ الناس ربَّما أتى بِوَلده أو قريبهِ المريض للزاوية، يَرى أنه يَبْرَأ أو يُخَفَّف عنه الألمُ بِمُجَرَّد ما يدعو له أو يَرقيهِ الشيخُ، فإذا لم يَبْرَأ أو ازدادَ مَرَضُهُ، ظنَّ أنَّ الشيخَ لم يَعتَنِ بِمريضهِ.
6. والحَقُّ أنَّ العبادَ كلَّهم، على اختلاف طبقاتِهم ودَرَجاتهم لا يملكون نفعًا ولا ضراً ولو لأنفسهم. وكذلك قال تعالى لنبيه سَيدَ الرسل، على جميعهم أفضل الصلاة والسلام: ” قُل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضراً إلا ما شاءَ الله” (سورة الأعراف: 188).
7. وأنتم تَرون وأنا في هاته الحالة من شدة الألم والمَرَضِ فَهل أقدر أن أملكَ لنفسي شيئًا من تَخفيف هذا الألم؟ وهَل لأحدٍ من أصدقائنا أن يَهَبَنَا نُبذَةً من العافية؟ كَلاًّ. إنَّما الجميع في قَبْضَة الكَبير المتعالي الذي بِيَده مَلكوت كلِّ شيءٍ، فإياكم ، باركَ الله فيكم، والشركَ الخَفيَّ الذي أخفى من دبيب النمل.
8. فقال له كاتب هاته السطور: إنَّ هؤلاء الحاضرين كلَّهم لا يَطلبون إلا رِضاكُم. فقال الشيخ: “لَيسَ لي حقٌّ عَليكم، إنَّما واجبُ النَّصيحَة أديته إليكم“.
9. هذه جملة من تذكير الاستاذ العلوي يومَ عاده أتباعُه وهو على حالة أشرفَ بها على دار السَّلام.
10. ثم هَبَّت نَسمَةٌ من فَضل الله تعالى على حَضرَة الشيخ، فَحَفَّت به الألطاف الإلهية وتَجلَّى عليه باسمِهِ الشافي، فَخَفَّ عَنه ما كان أصابَهُ، وانتَشَلَتهُ العنايَةُ الإلهيَّة من هُوَّة المَرَض، حتَّى أوقفته على حدود الشفاءِ، فَزارَهُ عندَ ذلكَ أتباعُهُ فأخذ في تذكيرهم وإرشادِهِم وإفادَتِهم لما له من الحِرص على الفائِدَة لكلِّ مَن جالَسه، وتلكَ سَجيَّتُهُ، رَضيَ الله عنه.
11. فَكانَ من جُملة ما ذاكرَهُم به أنْ قال :” إنَّ حديثَ زَيدٍ الخَيلِ، الذي سَمَّاه النَّبي، صلى الله عليه وسلم، “زَيد الخير” الذي نَصُّه بِحُروفِهِ: “عَن عَبد الله بن مسعودٍ، رَضي الله عنه، قالَ: بَينما نَحنُ عندَ رسولِ اللهِ، صلَّى الله عليه وسلم، إذْ أتاهُ آتٍ، فَلَمَّا حاذانا ورَأى جماعَتنا أناخَ راحِلَتَهُ، ثمَّ مَشى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رَسولَ الله، أوضعت راحلتي من مسيرة تِسعٍ، فَسَيَّرتها إليك ستاً وأسهرت لَيلي، وأظْمَأت نَهارِي، وأنْصَبْتُ راحلتي، لِأسألكَ عن إثنتَيْن أسهرتاني، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم، مَن أنتَ؟ فَقالَ: “زيدُ الخَيل”، قال: بَل أنتَ زَيد الخَير، سَلْ، فَرُبَّ مُعضلةٍ قد سئلتُ عَنها؟ قال: جئتُ لأسألكَ عن علامة الله فيمَن يُريد، وعلاماته فيمن لا يريد. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: بَخٍ، بَخٍ، كيف أصبحتَ يا زيد؟ قال: أصبحتُ أحبَّ الخير وأهلَه، وأحب أن يُعملَ به، وإذا فاتني حَننتُ إليه، وإذا عملت عملاً، قلَّ أو كثرَ، أيقنت بثوابه قال : هي هي بِعينها يا زيد، ولو أرادك الله للأخْرى هَيَّأكَ لها ثم لا يبالي في أي وادٍ هلكت فقال زيد حسبي حسبي، ثم ارتحل ولم يَثْبت (الفتح الكبير، 3، ص, 197) .
12. فَهذا الحديث يَقتضي أنَّ العبدَ يَفرَحُ بِحَسَنَةٍ ويتألم بسيئةٍ، وهو فيما يظهر مناقض للحكمة الأولى من حكم إبن عطاء الله التي هي قوله : من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاءِ عند وجود الزَّلَلَ” فَهاته الحكمة الدالة على نُقصان الرجاء عند وجود الزلل، تَقتضي أن الإعتماد على العمل مَذموم، وذلك ربما يكون منافياً للفرح بالحسنة فيظهر التناقض بين الحديث والحكمة فَيلزمكم أن تتأملوا في الجمع بينهما أو طرح هاته الحكمة جانباً.
13. فَكَتَبَ كلُّ واحدٍ من الأتباع ما فَتَحَ الله به عليه في الجواب عن ذلك، فكان ما أجاب به كاتب هاته السطور أن قال :
14.كلُّ كَلمة عارضت حديثًا بحيث لا يمكن الجمع بينهما رميناه ورائنا ظِهرياً أما إذا أمكن ادخالها في حيز الحديث وطَيُّ مَعناها في معناهُ تَلَقَّيناها بالقَبول والتسليم.
15. هذا وقَد وَرد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ما هو أعم مما جاء في حَديث زيدٍ الخَير وهو قوله، صَلَّى الله عليه وسلم،: ” مَن سَرَّته حَسَنَتُه وساءتُه سَيئته فذلك المؤمن”،
16. والذي يظهر أن لا منافاةَ بَينَ الحديث والحكمة لأن ملخصَ معنى الحكمة هو ذم من اعتمَدَ على عمله واعتقد أنه يسعده وهذا الاعتماد هو الذي نفاه النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله : لَن يَدخلَ أحدكم الجنَّةَ بعمله قالوا: ولا أنت ؟ قال : ولا أنا إلا أن تغمدني برحمته (الفتح الكبير، 3، ص. 36).
17. فالاعتماد على العمل واعتقاد أنه ينجي هو المذموم في الحكمة وهو المَنفي في هذا الحديث . وذلك لا ينافي الفَرَحَ بالحَسَنَةِ. وأما حديث زيد الخير وما في معناه فليس فيه ما يدل على الاعتماد على العمل واعتقاد أنه ينجي إذا غاية ما فيه أن من لوازم الإيمان أن يفرَحَ المؤمن بالحَسنَةَ، ويكَرَهَ السيئةَ، وذلك يحتمل أن يكون لمجرد أمر الله بالحسنةَ ونَهيه عن السيئة، ويحتمل أن يكون لأنَّ الحسنة علامة على السعادة، والسيئة علامة على الشقاء وعَلامة الخير ليست مما يعتمد عليه في تحصيل ذلك الخير، هذا ما يظهر في الجواب والله أعلم بالصواب .اهـ (البلاغ، 111، 10 شوال 1347، الموافق 22 مارس 1929).
تحقيق و تقديم ن. المدني
02 جانفي 2016