بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
يُشَرِّفنا أنْ ننشرَ للقارئ الكريم نصَّ الشَّرحِ اللَّطيف الذي أجراه اللهُ على لسان العارف بالله حقًّا سيدي الشيخ الطّاهر عبد الهادي المداني، قدَّسَ الله سِرَّهُ. يقول:
هذا نَصّ خطبة كان بعث بها إليّ شيخي سيّدي محمّد المداني، قَدّس الله سرّه، ألْقَيْتها في إحدى الاحتفالات بالمولد النّبويّ الشّريف، بزاويتنا المَعْمورَة، وقد وضعتُ لها شرحًا بسيطًا، ليسهل على المنقولِ إلَيهِ فَهمُ بَعضِ ما جاء فيها والله الموفّق للصّواب.
نصّ الخطبة
الحمد لله حمد الصّادقين والشّكر له شكر الموقنين والصّلاة والسّلام على خير المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهاته جُمَلٌ قالَها الإمام عليّ، كرّم الله وجهَه، لتلميذه كُمَيْل بن زياد، ألقِها على السّامعين، عَلّها تَرفعهم إلى الرّفيق الأعلى مع السّابقين المقرّبين، قال رَضيَ الله عنه:
– « يا كُمَيْل هلك خزّان الأموال وهم أحياء »: الأثرياءُ الجُهلاء المتكبّرون، لا مكانَةَ لهم في قلوب الخلق وإن أظهروا لهم التعظيمَ والاحترام فذلك لحاجة في نفس يعقوبٍ.
– « وأهْلُ العِلم باقون ما بَقيَ الدّهر، أعْيانهم مفقودَةٌ وأمْثالُهم في القلوب مَوجودة »: العالمون العاملون المخلصون، ذِكْرُهم مُخَلَّدٌ إلى يَومِ القيامة، كأمثال الإمام مالك وأضرابه رَضيَ الله عنهم.
– « إنّ هاهنا لَعِلْمًا جَمًّا »: إشارة للعلم اللّدنيّ الّذي يَحصل عن طريق الفتح الإلهيّ ممّا يُلقَى في الرّوع من أسرار وأنوارٍ، لا عَن طريق التّلقين والتّدريس، شَريطَةَ ملازمةِ مَن اشتهَرَ به.
« لو أصبت له حملة »: فَأهله قلّةٌ لرفعة منزلته وعلوّ شأنه.
– « بل أصَبْت لَقِنًا غير مأمون عليه، مُستَعمِلاً آلة الّدين للدّنيا ومُستَظهرًا بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه »: العلماء المراؤون المَغرورون أصحاب الدّعاوي العريضة والقلوب المَريضَة.
– « أو منقادا لحملة الحقّ لا بَصيرَةَ له في أحشائه ينقدح الشّكّ في قلبه لأوّل عارضٍ من شُبهَةٍ »: الأمّيّ البسيط، فاقد النّورانيّة القلبيّة والعقليّة لا ثباتَ له على المَبْدإ.
– « ألا لا ذا ولا ذاك »: هَذان الفريقان لَيسا بأهلٍ لِحَمل الأمانة المُشار إلَيْها.
– « أو منهوما باللّذة سلس القياد للشّهوة »: الباحي الّذي اتّخذ إلهَه هَواه.
– « أو مُغْرَمًا بالجَمْع والادّخار »: هذا هو القسم الرّابع وهو عبد الدّرهم والدّينار.
– « ليسا من دعاة الدّين في شيء أقرب شيء شبها بهما الأنعام السّائمة »: القِسمَان الأخيران لم يكن لهما شعورٌ دينيٌّ روحيٌّ، بل همّتهما متعلّقة بالنّعيم المادّيّ الصّرف فاستحقّا الالتحاق بالدّوابّ.
– « اللّهمّ لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجّة إمَّا ظاهرًا مشهورًا أو خفيًّا مَغمورا، لئلاّ تَبطل حجج الله وبيّناته »: ثم عثر الإمام كرّم الله وجهه على ضالّته المنشودة وهم صفوة الأمم المختارون من اللّوح المحفوظ الّذين لا يخلو منهم زمان ولا مكانٌ، فَهم الشّهداء على مَن أرادَ دَحضَ الحجّة يوم الحساب، المتفاعلون في حالهم وأحوالهم مَع ما تقتضيه الحكمة الإلهيّة من ظهورٍ وخفاءٍ.
– « وكم ذا »: الأصناف الأربعة المذكورون فهم كثيرون، قال تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ.
– « وأين أولئك، أولئك والله الأقلّون عددا والأعظمون قدرا »: الصّنف الخامس المعثور عليه قليل. قال الله في شـأنهم: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.
– « بهم حججه وبيّناته حتّى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم »: فَهَؤلاء الصّفوة هم وَرَثَةُ الأنبياء لمَا أكرمهم الله به من تنويرٍ بَاطنيٍّ، فَلا يخرجون من الدّنيا ولا تفارقُ أرواحُهم أجسادَهم حتّى تنتقل تلك الّلآلي من صدورهم إلى قلوب أمثالهم لاستمرار وجود حجّة الله على عباده إلى أن يرث الله الأرض ومَن عَليها وهو خير الوارثين.
– «هجم بهم العلم على حقيقة البَصيرة وباشرَ روحَ اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا ممّا استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى »: لقد كشف عن الكنز وحلّ الرّمز لما جاء في المقالة المنقولة من ارتياح للإمام واطمئنان لقلبه على الأمانة الّتي هيّأ الله لحملها صدور خواصّ الأمّة المحمّديّة والّذين أودع فيهم أوصافًا مغايرةً لما أوجدها في غيرهم، حيث أنّهم آثروا الباقي على الفاني فعزفت نفوسهم عمّا كبّل أبناء جنسهم من الشّهوات وارتفعت هممهم فظفرت بلذّة المناجاة وأحسنوا التّصرّف بعالم الأرض والسّماوات، قال ناعتهم: ظاهرهم مع الخلق وباطنهم مع الحقّ، ظاهرهم في الحانوت وباطنهم في الملكوت.
– « أولئك خلفاء الله في أرضه والدّعاة إلى دينه »: فهم مظاهر محمّديّة تدبُّ على وَجه البسيطة.
– « آه آه شوقا إلى رؤيتهم »: يتأوّه باب مدينة العلم، رضي الله عنه، ويَتشوّق إلى رؤيتهم والاجتماع بهم.
جعلنا الله من المتشبّهين بهم والمتشبّثين بأذيالهم وحشرنا في زمرتهم آمين.
بقلم العبد الضّعيف الفاني الطّاهر حسين عبد الهادي المداني عفا الله عنه. كتب في 13 جمادى الأولى 1408 الموافق 3 جانفي 1988.