بسم الله الرّحمن الرّحيم
خطبة لسيدي محمد المدني، رَضيَ الله عنه.
ألقاها في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
بالزاوية المدنية بقصيبة المديوني 19 مارس سنة 1943
12 ربيع الأول 1362
1.”يا جَماعة المُسلمين، وعبادَ اللهِ الذاكرين، إنّي أريد أن أتَكَلَّمَ مَعكم، في الوَجه الثالثِ [[ أي في القسم الثالث من هذه الخِطبة.]]، عَلى شَخصيَّةٍ من الشخصيات البارزة في هذا الزمان، اختَلَفَتْ عَلَيْها الألسنُ. والظُّهورُ في كلِّ زَمانٍ ابتلاءٌ عَظيمٌ ومَزَلَّة الأقْدام، ويَذهب فيه كثيرٌ مِن الحَقائق.
2. تلكَ الشخصية هي رَجلٌ يقال له: مُحَمَّد المَداني العلاوي، القُصَيْبي، وهو هَذا الرَّجلُ الواقف بَينَ أيْديكم خَطيبًا. أرَدتُ أن أذكرَ لَكم حقيقَتَهُ، بدون مغالاةٍ في مَدْحِهِ، أو إغراقٍ في قَدْحه، حتَّى يكون الناسُ على بَصيرَةٍ من أمرهِ، إذ أنَّ كثيرًا مِنَ النَّاس المُحبين، مَن تَراه يَلهج به في كثيرٍ من البُلدان والمَجالس ويُصَرّح بأنَّ الشيخ محمد المداني هو “صاحبُ الوَقت” وهو “غَوثُ هذا الزمان وقُطبه”، وهو “وارثُ سرِّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم”، و”لا مَثيلَ له بَين أقْرانِه” ، وإلى غَير ذلك من التَّجَليات التي بَلغَت الغَايَةَ في الإغراق والتفاني في المَدْح.
3. ومِن الناس مَن تَراه يَكتب، طولَ السنين، في الجرائد السّائرة، ويتكلم في البُلدان والمَجالس أيضًا، مُصَرِّحًا بأنَّ محمدَ المداني رَجل “دَجَّالٌ وزنديق”، “مُبتَدِعٌ حُكومي”، “يَخدم ركابَ الأجانِب”، “يُبغضُ الدستور والدستوريين”، “ضالٌّ مُضلٌّ”، إلى غَير ذلك من الألقاب التي بَلَغَت الغاية، بل النهايَةَ في القَذْف وتَمزيق العِرض.
4. وما ذلك كلُّه من المادحين والقادحين، السّائرين من وراء الهَوى، إلا إغراقٌ ومَغالاة تَذهب معها الحقائق. نَعَم، لا يخلو إنسانٌ في الوُجود من مُحبٍّ مادحٍ، ومُبغضٍ قَادحٍ. وقال الإمام مالك، رَضي الله عنه،:”[brun]لا زَال الرجل بِخَيرٍ، ما اختَلَفَت عليه الألسنُ[/brun]”. غَيرَ أنَّ المبالغةَ في الأشياءِ سَيْرٌ وَرَاءَ الكَذب المَحض.
5. الشيخ محمّد المداني رَجلٌ قَرَأ القرآن، في صِغَره، على مُؤَدِّبين فُضلاء أخيار، وأتقياءَ أبرارٍ: القارئ سيدي محمد السّاسي لَطَيِّف، وابنُهُ سيدي سالم لَطيف، والقارئ سيدي خَليفة منصور، رَحمهم الله جميعًا.
6. ثم أهلني الله للانْخراط في سلك تلامذة الجامع الأعظم، جَامِع الزيتونة، عَمَّرَه الله بِدَوَامِ ذِكْره، بعد أن تَلَقيت المبادئَ العلمية (مبادئ العربيّة)، ببَلَدِي على الشخصيْن الفَقِيهَيْن: سيدي فَرَج عياد، وأخيه سيدي عُثمان عياد، جَازاهم الله بأحسن الجَزاء.
7. سافرتُ إلى جامع الزيتونة، لِتَلَقِّي العلوم. فَزَاولت في العلوم الدينية والإلهية على مَشَائخ كرامٍ وأئمة عظامٍ، منهم العَلامة المَبرور: شَيخ الإسلام الحنفي الشيخ سيدي محمد بن يوسف، والعَلامة المَبرور شيخ الإسلام المالكي، الشيخ سيدي بلحسن النَجار، والعَلامة المحقق الشيخ سيدي الصادق النيفر، وغير هؤلاء من الأئمة الأعلام، والرجال الأتقياء العِظام، جَازاهم الله بأحسن الجَزاء، حتَّى حَصَّلت ما قَسَمَ اللهُ لي في سابق علمه، إذ أقواتُ الأرواح كأقوات الأشباح مَقسومَةٌ في الأزل. وكلهم أجازوني في مَرْوياتهم بأسانيدهم، والحَمدُ لله.
8. ثمَّ في السَّنَة الأخيرة من سنين الدراسة بالجامع الأعظم، سَاعَدَني الحظ بالاجتماع بالصوفي الكامل والعارف بالله الواصل، الشيخ سيدي أحمد العلاوي المستغانمي، رَضيَ اللهُ عَنه، خلال عام 1328هـ [[1910 ميلادي.]]، فَتلقيت عنه وردَ الطريقة العلاوية الدرقاوية الشاذلية. وبِسَبب ذلك، تَغَيَّرت الوجهة الأولى: فبعد أن كانت النية هي التحصيل على وظيفٍ علميٍّ، لاكتساب المعيشة، صارَت النِيَةُ التَّحصيلُ عَلى مَقام العِرفَان، والوُصول لِحَضْرَة الرَّحمان، والفَنَاء عن سائِرِ الأكْوَان.
9. وعلى هاته النية، صاحبتُ الأستاذ العلاوي، مُدةً طويلة من الزمان، رأيته فيها رَجلَ الاستقامة والمعرفة والإخلاص، رَغم أقوالِ المُغرضينَ، وأهل الحَسَد المفتونين، سَامَحهم الله، وقد حَصّلتُ ما كتبَ الله لي من معارفه الإلهيّة وفيوضاته الربانية إلى أن اقتضى نَظرُهُ، رَحمه الله، أنْ يَأذنَ لي بتذكير عباد الله، ونُصْحهم في طريقه، فَأذنَ لي بتلقين العامة وردَ الطريقة، وتلقينِ الخاصةِ الاسمَ الأعظمَ، حَسَبَ الاصطلاح الصوفي، وذلكَ في عام 1329 هجري [[1912 ميلادي.]]. فهذه أربعةٌ وثَلاثونَ سنةً، وأنا أنفق فيها نَفيسَ أوقاتي وساعاتي، ونفائسَ مَعلوماتي، لِمَن أهَّلَهُ اللهُ من إخواني المؤمنين، وعبادِ الله الذاكرين، قاصدًا بذلك وَجهَ الله الكريم. وهاته هي سيرتي طفلاً لقراءة القرآن، وتلميذًا لتلقي العلوم، وصوفيًا لتذكير عِبَادِ اللهِ، كلٌّ عَلَى حَسَب استعداده، يَعرفها زملائي المُعاصرونَ وأصدقائي المُخْلصونَ، وأهلُ بَلَدي المُحِبُّونَ.
10. لا أقول لكم إنِّي رَجلٌ لم تَصدر منِّي كَبيرَةٌ ولا صغيرة، كأني مَطبوع على العصمة. لا، لا، تلكَ انقطعت بانقطاع الرسالة، فَلا مَطمعَ لأحدٍ فيها. أنا رَجلٌ كَأفراد المؤمنين، يَقع مني ما يَقَعُ منهم، فإذا قال قائل: إنَّ الشيخ محمد المداني رجل دَجَّالٌ، يَغلب عليه الغَفلة، وعَدم الصدق، أقول له: جَميعُ ما ذَكَرْتَهُ جائزٌ في حقي، لأنِّي بَشرٌ مَفطورٌ على المُخالَفَات المُهلكة. “قالوا أتجعل فيها مَن يُفسدُ فيها ويَسفِكُ الدِّمَاءَ” (البقرة: 30).
11. ولَمَّا كان لي مِن المَعاصي مَا لم يَطَّلع عليه هذا القائلُ، غيرَ أني غيرُ مُصِرٍّ عَلى المَعاصي، أذنِبُ وأتوب، أحبُّ أن تظهرَ عَلَيَّ مغفرةُ اللهِ ورَحمتُهُ. وأعلم أنَّ مَن تاب أبدلَ الله سيئاته حَسَنَاتٍ، وكان مَحبوبًا عند الله، بِمُقتَضى قَوْله: [brun]”إنَّ اللهَ يُحبُّ التَّوابين[/brun]” (البقرة: 222)، وقرأت قوله، عليه الصلاة والسلام،: “[brun]لَو لَم تُذْنِبوا لَذَهَبَ الله بكم وأتى بقوم يذنبون ويستغفرون، فَيغفرَ الله لهم[/brun]” (رواه الإمام مسلم عن أبي هريرَةَ)، كما رَويت قولَه تعالى: “[brun]يا ابنَ آدَمَ، لو أتَيتني بقراب الأرض خَطَايَا، ثمَّ لَقيتَني لا تُشرك بي شيئًا لأتيتكَ بقرابها مغفرةً[/brun]” (جامع الترمذي عن أنس بن مالك)، فَأنا رَجلٌ مُذنبٌ بِالقوة، مُذنِبٌ بِالفِعل، أرجو أن يغفرَ الله خَطيئتي يومَ الدين. وأرجوكم أن لا تَحرموني من دعواتكم في خَلَواتِكم وجَلَوَاتكم، والله يَستَجيبُ دُعَاءَ المُضْطَرِّينَ.
10. يا جماعَة المسلمين، ويا عبادَ الله الذاكرين، إني أريد أن أشطحَ بَيْنَكم شطحة، والشَّطْحُ عندَ العُلَمَاء مُعَبَّرٌ عنه، أشطحها وأنا رافعٌ رَأسي متحدثًا بنعمة الله تعالى، مُرتَديًا بِرداء الشكر، طالبًا المَزيد فأقول:
11. أنا رَجل صادق في سيرتي، مُخلصٌ في سريرتي، نَاصحٌ لأمتي، مُصلح في طَريقَتِي، “[brun]إنّى لا أريدُ إلاَّ الإصلاحَ ما استَطَعتُ[/brun]” (هود: 88)، وأطعت أستاذي مدةَ صُحْبَتِهِ، ولا انتَقَدت عليه في شيءٍ من حَرَكاته وسَكَنَاتِه، بل كنت متلقيًا جميعَ تَعليماته بالرضى والتسليم، ممتثلاً لإذنه، ولو كان مرًّا، قائلا: ” [brun]سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا[/brun] ” (الكهف: 69)، إلى أن خُتِمت أنفاسه، رَضي الله عَنهُ وعَنَّا، وعَنكم أجمعين.
12. [brun]والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ[/brun] (الأعراف: 43). سائلينه تعالى أن يرزقنا وإياكم رضاه بحرمة حبيبه ومصطفاه خاتم رسله وأنبياه صلى الله عليه وسلم وأتباعه الى يوم الدين والحمد لله رب العالمين”.